عبدالله الغرياني
كاتب ليبي
بعد مرور عامين على عملية التغيير، التي انطلقت في شهر شباط (فبراير) من عام 2011، ساد الهدوء النسبي في ليبيا، قبل أن تأتي العاصفة، ففي العام 2012، وقبل شهر من بداية رمضان، خرجت الجماعات والميليشيات المسلحة بمختلف توجهاتها وخلفياتها المتطرفة والمعادية لفكرة قيام دولة مدنية ديمقراطية، وقاموا بإخراج كافة مُسلحيهم وآلياتهم وأفرادهم للاستعراض داخل المدينة، وتأييد “ملتقى نصرة الشريعة”، الذي دعا إليه فرع تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي في ليبيا “أنصار الشريعة”، في يوم 7 حزيران (يونيو) من العام نفسه؛ ليدخل شهر رمضان ومعه موجة من الاغتيالات، من أبرزها عملية اغتيال (جمعة الجازوي)، المستشار في محكمة الاستئناف، حيث أمطره مُسلحون بوابل من الرصاص بعد خروجه من صلاة العصر، في أحد مساجد منطقة بوهديمة ببنغازي، وكان (الجازوي) من أبرز المتهمين في قضية اغتيال اللواء (عبد الفتاح يونس)، رئيس أركان قوات التحرير، إبّان حكم المجلس الوطني الانتقالي، والذي اغتيل في تمّوز (يوليو) قبل عام من اغتيال (الجازوي)، الذي أتى اتهامه كونه الذي وقّع على أمر القبض الذي أصدره المجلس الوطني الانتقالي بحق (عبد الفتاح يونس)، ولهذا تم اعتبار الجازوي متهماً، وأحد أهم خيوط الوصول لتفاصيل اغتيال اللواء يونس، وبمقتله فقدت القضية نقطة فاصلة، كادت أن تكشف حقائق تصل من خلالها العدالة إلى الجناة.
موجة من العنف
وفي شهر رمضان نفسه تم اغتيال العقيد (محمد هدية) في 10 آب (أغسطس) عام 2012، فور خروجه من المسجد بعد صلاة الجمعة، وفي الليلة التي سبقت اغتياله، كنت أنا شخصياً برفقة عدد من النشطاء والفاعلين بالمدينة مع (هدية)، وكنّا نحيي حفل ذكرى تأسيس الجيش الليبي، وتحدث هدية في تلك الليلة عن الجيش وأهميته، وضرورة دعمه ليعود من جديد كما كان، ولكن لم يمضِ يوم كامل لنصدم باغتياله، وكان العقيد هدية يتولي مهام أمر التسليح بقوات التحرير إبّان الانتفاضة الشعبية، وانشق في وقت مبكر عن النظام، وانضم إلى قوات التحرير.
وقف هدية ضد فكرة تسليح الجماعات والميليشيات المؤدلجة، وتعرّض لموجة من التحريض الذي كان يطلقه المسلحون الموالون لتنظيم (القاعدة)، وآخرها كان في الملتقى الذي نظمه فرع تنظيم (القاعدة)، وأطلقوا عليه “ملتقى نصرة الشريعة”، كذلك في شهر رمضان نفسه من العام 2012 أقدم مسلحون على اغتيال العقيد بالاستخبارات العسكرية (سليمان بوزريدة)، فور خروجه من صلاة التراويح بمسجد عامر بن ياس، بمنطقة الليثي ببنغازي، حيث تعرض للقنص بوابل من الرصاص، وتوفي على أثر ذلك فوراً.
كذلك وفي الشهر نفسه، تمكن مسلحون من اغتيال (عبد الحميد علي القندوز)؛ عبر زرع قنبلة موقوتة تحت مقعد سيارته، انفجرت أثناء قيادته لها في منطقة الحدائق ببنغازي، وهو مسؤول بجهاز الأمن الداخلي، وقبل القندوز اغتيل مساعد ضابط بالجهاز نفسه يُدعى (إبراهيم العريبي)، لترتفع موجة الاغتيالات بشكل كبير في رمضان وبعده، واستهدف الإرهابيون كذلك مبنى محكمة الاستئناف ببنغازي بقنبلة موقوتة أدت إلى أضرار كبيرة في جدار المحكمة، كذلك في الشهر نفسه تعرّض موكب اللواء آنذاك (خليفة حفتر) للهجوم دون أن يؤدي ذلك إلى خسائر بشرية، لينتهي ذلك الشهر الكريم مُحمّلاً بالمخاوف والرعب؛ بسبب ارتفاع وتيرة الاغتيالات وكذلك مصير المدينة وسكانها الذين أصبحوا يفتقدون للأمن وملامح الدولة ومؤسساتها.
انتشار موجة العنف
بعد انتشار الاغتيالات في صفوف رجال الأمن والجيش، تطورت العمليات الإرهابية، وأصبحت تستهدف الصحفيين والإعلاميين والنشطاء المدنيين، وأصبح عداء مسلحي تنظيم (القاعدة) والميليشيات والجماعات المتحالفة للدولة والمجتمع علنياً، ليأتي شهر رمضان من العام 2013 أكثر دموية وبشاعة من حيث القتل والتصفيات الجسدية، وبين رمضان 2012 ورمضان 2013 فقدت مدينة بنغازي ما يقارب (68) مغدوراً، تمّ اغتيالهم بالرصاص الحي أو بالعبوات الناسفة.
وفي ذلك الشهر بالتحديد انعدم نشاط النخبة الليبية، وخرج كافة السياسيين البارزين وعدد من النشطاء ورجالات الجيش والشرطة خارج بنغازي وليبيا خوفاً على حياتهم من الاغتيالات.
على الجانب الآخر، كانت هناك قلة تقاوم بشجاعة هذا المد المتطرف، وتتصدى لموجات الاغتيالات، وكان من ضمنهم رفيقنا الناشط السياسي (عبد السلام المسماري)، الذي اغتيل أثناء تنظيمنا لحراك “حركة شهيد لإحياء وطن”، الذي كان يطالب السلطات بضرورة إجراء تحقيقات عاجلة في قضية اغتيال اللواء (عبد الفتاح يونس) ورفاقه، وإيقاف الاغتيالات والكشف عن منفذيها، ولكن في 17 رمضان، الذي صادف 26 تمّوز (يوليو) عام 2013، اغتيل الرفيق (عبد السلام المسماري) عقب صلاة الظهر أثناء خروجه من مسجد بوغولة في منطقة البركة ببنغازي، وفي اليوم نفسه مساءً اغتيل المقدم في سلاح الجو (سالم السراح) أثناء تأديته صلاة التراويح بمسجد التوبة، فقد دخل المُسلحون إلى المسجد، وقاموا بإطلاق الرصاص عليه وتوفي على الفور.
وخلال اليوم نفسه تمّ استهداف العقيد في الجيش (خطاب يونس الزاوي) بالرصاص الحي في منطقة الصابري ببنغازي، حيث كان في زيارة اجتماعية لأقاربه، قادماً من بلدته أوجلة بالواحات جنوب مدينة إجدابيا.
وبعد مرور يومين من هذه الحوادث أقدم الإرهابيون على تفجير مقر محكمة شمال بنغازي من خلال تفجيرين أثناء وقت الإفطار، وقد دمّر الأول أجزاءً من المحكمة، والثاني مكتباً تابعاً لوزارة العدل بالمحكمة، وتسبب التفجيران بإصابة (10) أشخاص على الأقل، ودامت من بعده دوامة الاغتيالات التي استهدفت كاتب هذا المقال ذات يوم، عندما صعدت إلى سيارتي منطلقاً إلى الجامعة، أثناء تفاعلي وقيادتي مع رفاقي الحراك المناهض للإرهاب وهيمنة الإسلاميين على السلطة، حيث انفجرت عبوة ناسفة وضعت تحت مقعد سيارتي، تسببت لي في إعاقة دائمة.
الاغتيالات وسيلة انتقام القاعدة
هكذا كانت تمضي شهور رمضان في بنغازي بين أعوام 2012 و2013 و2014، عندما تحكم الإسلاميون في البلاد، وأقصوا خصومهم، وأطلقوا عليهم كل الأوصاف التكفيرية، التي تطلقها عناصر الميليشيات والجماعات الإرهابية؛ ليخرجوا وينفذوا الاغتيالات والقتل والتصفية.
والإسلاميون هم من قاموا بتخوين اللواء (عبد الفتاح يونس)، حتى تمّ اغتياله بشكل وحشي، وهم من قاموا باغتيال الراحل (محمود جبريل) معنوياً، فقد شن عليه إعلامهم المرئي والمسموع حملات تشويه ممنهجة، لغاية التخلص منه وإبعاده عن المشهد السياسي، الذي اكتسحه جبريل وانتصر فيه مراراً.
الاغتيالات كانت أسلوباً اتخذه فرع تنظيم القاعدة “أنصار الشريعة” للانتقام، وانسجمت معه في ذلك الوقت باقي الميليشيات، مثل: مجموعة الجزائر، والأذرع الموالية فكرياً للإخوان المسلمين، وكان عناصرهم يبتهجون لحوادث الاغتيال ويجدون لها التبريرات. والغريب في الأمر، آنذاك، هو صمت دار الإفتاء والسلطات والحكومات والمنظمات المحلية والدولية، التي جميعها كانت تتجاهل ظهور تنظيم (القاعدة) في وسط بنغازي، دون أيّ تحرك أو كتابة بيان رفض، ولكن بعد كل هذه الأعوام عاد رمضان شهراً للخير والأمان والسلام والمحبة، وسوف تعود بنغازي كما كانت بثبات أبنائها الذين دافعوا عنها بقوة، واستردوها من خلال معركة واجهوا فيها أشرس تحالف إرهابي ضم تنظيمي (القاعدة وداعش)، و(مسلحي الإخوان)، وهزموهم هزيمة ما زالوا يتألمون بسببها.
نقلاً عن حفريات