منتصر حمادة
كاتب مغربي
تتأسّس هذه المقالة على فرضية أساسية؛ مفادها أنّ المتديّن الإسلامي الحركي الذي ينخرط في مراجعات حقيقية تروم أخذ مسافة نظرية وتنظيمية من التديّن الإسلاموي الذي كان ينتمي إليه، يكتشف أنّ مرحلة ما بعد الإسلاموية قد تكون مرحلة إعادة اكتشاف الإسلام من جديد.
هذه الفرضية مردّها تأمل تجارب العديد من الباحثين والإعلاميين والناشطين الذين كانوا في ما مضى، أتباع تجارب إسلامية حركية، سواء كان ذلك متعلقاً بالتجربة الإخوانية أو التجربة السلفية، في نسختها التقليدية أو القتالية (ما يُسمى “الجهادية”)، وغيرها من التجارب؛ بل إنّ هذا التحول المفاهيمي، أو الإقرار بالانتقال من مقام اعتناق تديّن، يعتقد أتباعه أنهم يُجسدون أو يمثلون الدين، نحو ممارسة التديّن، بعيداً عن طقوس الاستعلاء النظري والتنظيمي على المسلمين، والإقرار في آنٍ واحد بأنهم يُعيدون اكتشاف الإسلام من جديد، نجده في صيغة إقرارات صريحة، كما نعاين ذلك في عدة مقامات، من قبيل ما تعج التدوينات الرقمية لهذه التجارب في مواقع التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال لا الحصر.
ويكفي أيضاً، تأمّل مضامين بعض الإصدارات التي حرّرتها هذه الأسماء، والتي تتطرق إلى التجربة الإسلامية الشخصية، الخاصة بهذا الاسم أو غيره، من قبيل إصدارات بحثية وأخرى روائية، ونستشهد هنا في هذا المقام، بما حفلت به بعض التجارب الإسلاموية في نسختها المغربية، ومؤكّد أننا نُعاين الانطباعات ذاتها أو ما يتقاطع معها في باقي التجارب العربية والإسلامية.
ففي الخانة الأولى؛ نقرأ في كتاب “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين”؟ [بالفرنسية، 2016]، للكاتب والباحث المغربي محمد لويزي، وبالتحديد في خاتمة الكتاب، إحالة المؤلف على مضامين دردشة جمعته بأبيه، جاء فيها أنّ انفصاله عن المشروع الإخواني الذي كان ينتمي إليه، جعله يفتح عينه جيداً على الأفق الإنساني الرحب الذي يُمثله الإسلام، وهو الأفق الذي لم ينتبه إليه في مرحلة اعتناق الإسلاموية، بمقتضى سطوة الرؤية الدينية الطائفية، والتي كما هو معلوم، تضيق مساحات المشترك مع أيّ إنسان لا ينتمي إلى المشروع الإسلامي الحركي المعني، حتى لو كان إسلامياً حركياً، ولكن مجرد عدم الانتماء إلى “الطائفة المنصورة”، يجعله خارج “النسخة الصحيحة من الدين”، بحسب الاعتقاد الديني الطائفي، المُميز إجمالاً لأيّ خطاب إسلامي الحركي، سواء كان دعوياً أو سياسياً أو قتالياً (يُساعدنا هذا المفتاح النظري، أو قل “هذا النموذج التفسيري”، بتعبير الراحل عبد الوهاب المسيري، في تفسير بعض أسباب الانقسامات التي تقع بين الجماعات الإخوانية فيما بينها، أو بين الجماعات القتالية فيما بينها، كما رأينا ذلك في الحالة السورية؛ حيث وصل الخلاف إلى مرتبة سفك الدماء، مع أنّ جميع هذه الجماعات تدّعي أنها “ناطقة بلسان السماء” (2015)، إذا استعرنا عنوان أحد الأعمال المهمّة للباحث الأردني موسى برهومة.
أما في الخانة الثانية؛ أي الأعمال الروائية، فنستشهد بمضامين رواية “كنت إسلامياً” (2014)، للكاتب والإعلامي المغربي عمر العمري، والعمل في الواقع سيرة ذاتية حقيقية، لكن من باب التقليل من الحملات النقدية التي يتعرض لها أغلب من ينفصل عن المشروع الإسلاموي، ارتأى المؤلف الحديث عن عمل روائي صرف.
وعلى غرار العمل السابق لمحمد لويزي، يروي عمر العمري، تجربته في مرحلة المراهقة والشباب مع العمل الإسلامي الحركي؛ حيث خلُصَ إلى أنّ العمل الإسلاموي، كما مارسه وساهم في انتشاره وترويجه، كان يروم الإمساك بزمام السلطة الزمنية الحاكمة، عبر بوابة العمل الدعوي والعمل الإحساني وما جاورهما، وضمن خلاصات العمل، نقرأ الخلاصة ذاتها التي جاءت في كتاب لويزي، وهي؛ أنّ الانفصال النظري والتنظيمي عن الإسلاموية، اعتناق جديد للأفق الإنساني الرحب الذي يُميز الإسلام.
من نتائج تجربة العمل البحثي لمحمد لوزيري، والعمل الروائي لعمر العمري، أنهما سينخرطان معاً لاحقاً، في الدعوة إلى تجاوز أعطاب المدونة الدينية الإسلاموية التي تحاول النهل المعرفي والأخلاقي المباشر من القرآن الكريم، فكانت النتيجة أنّ محمد لويزي سيُصدر كتاباً ثانياً بعنوان: “نداء من أجل إسلام لا سياسي” (بالفرنسية، 2017)، ذهب فيه بعيداً بخصوص البحث في أسباب ومقدمات ولادة الإسلاموية، معتبراً أن نواتها التأسيسية، ظهرت للوجود الإسلامي في زمن “الفتنة” (1989)، بتعبير هشام جعيط؛ أي مباشرة بعد الحقبة النبوية؛ أما عمر العمري، فإنه بصدد تدقيق عمل بحثي يتمحور حول “تأملات قرآنية”، خيطه الناظم النهل التأملي المباشر من النصوص القرآنية، دون المرور بالضرورة على التفسيريات الإسلاموية الضيقة للنصوص القرآنية، وهي التفسيرات التي أفضت إلى توظيف الدين في الصراعات السياسية والاجتماعية وغيرها، باعتبار أنّ هذا النهل المباشر يُساعد صاحبه في الانتصار للأفق الإنساني والرحموتي اللصيق بالدين، والذي يعلو ويتجاوز الأفق الطائفي، والضيق لمُجمل أنماط التديّن الإسلاموي، كما أكدت ذلك عملياً أغلب التجارب الإسلاموية في المجال الإسلامي.
وجب التنبيه إلى الوجه الآخر لعملة الانفصال عن الإسلاموية؛ لأننا تحدثنا هنا عن الوجه الإيجابي، وعنوانه “إعادة اكتشاف الإسلام”، أو “اعتناق الإسلام من جديد”، والانتصار لخطاب النزعة الإنسانية، أو قل “المشترك الإنساني”، وغيرها من التبعات الإيجابية على المتديّن ومحيطه القريب (المجتمع، الوطن) والبعيد (العالم والإنسانية).
يُفيد الوجه السلبي لعملية الانفصال، بأنّ التحرر بشكل نهائي من الانتماء للإسلاموية، لا يعني بالضرورة أنّ صاحبه سيخرج سليماً مُعافى نفسياً وروحياً من ضرائب الانفصال.
نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار، أنّ تأمل تجربة العديد من الإسلاميين سابقاً، أكّد وجود حالات اضطرابات نفسية أو روحية حقيقية، بل وصل الأمر، كما نُعاين ذلك جلياً في عدة نماذج، مع أعضاء كانوا من التيار الإخواني أو “السلفي الجهادي”، أنه قد نصل إلى اعتناق مقام الإلحاد، بصرف النظر عن طبيعة الإلحاد في هذا السياق، كأن يكون إلحاداً معرفياً أو إلحاداً دينياً صريحاً.
ميزة تسليط الضوء على هذا الوجه السلبي المسكوت عنه في مرحلة ما بعد الانفصال عن الإسلاموية، أنه يُعطي المُتتبع فكرة أولية عن طبيعة المعاناة النفسية والروحية التي يمر منها المتديّن الإسلاموي بشكل عام؛ لأنّه إن كان يُعاني في مرحلة الانفصال، فأن يُعاني في مراحل الاعتناق أولى، وإن كان هذا أمر لا يخطر على باله أو يرفض الإقرار به، لسبب بَدَهي أشرنا إليه أعلاه، ما دام ينهل من اعتقاد فاسد مفاده؛ أنّ تديّنه يُمثل الدين، وبالتالي يفترض أنه يعيش حالة راحة نفسية وروحية، لا تخول له التفطن إلى الأزمات النفسية والروحية، التي تمرّ في مرحلة الاعتناق والانفصال معاً، وهذا ما تؤكده بالملموس، تجارب الأعضاء السابقين، ونحسبُ أنّ الأمر يتعلق بتجارب عصية على الإحصاء، إلى درجة أن تقتضي الاشتغال البحثي، في أفق أو هاجس أكبر عنوانه المساهمة النظرية في صيانة الدولة والدين من أوهام الإسلاموية، في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي برمته.
واضح أنّ “ما بعد الإسلاموية”، التي نتحدث عنها هنا، لا علاقة لها بأعمال آصف بيات الإيراني، أو أوليفيه روا الفرنسي، فهذه سرديات أخرى، بما لها وما عليها.
نقلاً عن حفريات