أحمد مصطفى
شاع وصف الإرهاب، أي ترويع المدنيين واستهدافهم بالهجمات والخطف والتفجير لرفع شعارات أو تحقيق أهداف سياسية، بداية النصف الثاني من القرن الماضي مرتبطاً بجماعات يسارية أو فوضوية متطرفة من أمثال «الجيش الأحمر» الياباني، و«الألوية الحمراء» الإيطالية، و«بادر ماينهوف» الألمانية، وأمثالها. ثم تبنّت بعض عناصر المقاومة الفلسطينية ذلك الأسلوب في استهداف الاحتلال والقوى الغربية الداعمة له، ليلصق بها الغرب الداعم للاحتلال صفة الإرهاب. ومع نهايات القرن وصعود تيار المتسربلين برداء الدين زوراً وبهتاناً أصبح وصف «الإرهاب الإسلامي» الأكثر شيوعاً، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على نيويورك.
ومع أن عمليات إرهابية بارزة خلال تلك العقود كانت من نصيب جماعات يمينية متطرفة بعضها تنظيمات مغلقة Cults شديدة الأصولية، إلا أن الشائع كان إما إرهاب اليسار والفوضويين وإما المتسربلين بالدين.
يشهد الغرب في الآونة الأخيرة تحولاً واضحاً نحو اليمين المتطرف مع فقر وجدب السياسة التقليدية واتجاه قطاع متزايد العدد من الأجيال الجديدة نحو التطرف الذي يقترب من حافة العنصرية في كثير من الأحيان. ذلك التوجه الذي استغله سياسيون انتهازيون في السنوات الأخيرة للصعود إلى سدة الحكم في الغرب والشرق بمغازلتهم تلك القطاعات من الناخبين الأصوليين والمتطرفين. ويرفع هؤلاء السياسيون والقادة شعارات متطرفة وعنصرية تشجع ذلك التيار حتى أصبح قريباً من أن يكون تياراً تقليدياً يملأ فراغ الساحة السياسية التي لم يعد فيها تمايز ولا تباين أفكار وسياسات.
تجلّى ذلك واضحاً في مواجهة وباء كورونا مطلع العقد الحالي، وكيف كانت نبرة العنصرية واضحة جداً، سواء من قبل تيارات واسعة في مجتمعات غربية تجاه المواطنين من أصول مهاجرة، أو حتى من البعض تجاه الصين واتهامها بالمسؤولية عن الوباء. ذلك على الرغم من أن الأمريكيين والفرنسيين كانوا شركاء للصينيين في أبحاث التعديل الوراثي لفيروسات العائلة الهلالية وجعلها أسرع وأوسع انتشاراً وأشد فتكاً وخطراً بما يقترب من حافة الإرهاب البيولوجي، رغم الأهمية العلمية لتلك الأبحاث.
ثم جاءت حرب أوكرانيا لتتماهى تيارات التطرف والعنصرية مع مواقف سياسية لدول وحكومات، وبلغت العنصرية الأوروبية مبلغاً جعل البعض لا يخفي ذلك على التلفزيونات وصفحات الصحف. وظل ذلك في إطار التعبير اللفظي، وربما الإرهاب الفكري لمن يحاول التعبير عن رأي مخالف لما هو سائد حتى لو كان ذلك السائد كذباً فجاً يتناقض مع الحقائق على الأرض. وبلغ ذلك التطرف أن تحظر دول غربية تدعي الديمقراطية وحرية الرأي وحقوق الإنسان منافذ إعلامية لمجرد أنها تقدم صورة مغايرة لخطاب التحريض التعبوي الغربي.
لم يكن غريباً إذاً أن نرى تصعيداً لذلك الإرهاب الفكري مع حرب غزة، وتكميم الأفواه وانتهاك الأصول التقليدية للتفكير النقدي وطغيان موجة من «المكارثية» الجيدة في الأوساط الأكاديمية والإعلامية وغيرها. فمجرد ذكر كلمة فلسطين أصبح في بعض الأحيان يمثل مخاطرة، ليس فقط لطردك من عملك وربما مقاضاتك بتهم ملفقة ومزيفة، بل أيضاً تعرضك لغضب قطعان من الغوغاء العنصريين.
يذكرك ذلك الإرهاب الفكري والعنصرية اللفظية بممارسات الجماعات المتطرفة المنبثقة عن تنظيم الإخوان في جامعاتنا في الثمانينات من القرن الماضي قبل أن تتحول إلى العنف المسلح. ويبدو ذلك الخطر أكبر في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة التي ينتشر فيها السلاح بيد المواطنين، وحتى في بعض أوروبا التي بها مستويات من العنف لا يستهان بها.
يصعب تجاهل زيادة حوادث حرق البيوت وإلقاء مواد كيميائية على سكان من أصول مهاجرة من قبل عنصريين بيض في بعض دول أوروبا. أما في الولايات المتحدة فهناك زيادة واضحة في عمليات القتل العشوائي بالسلاح الناري، أو حتى الدهس بالشاحنات الصغيرة، في المدارس والجامعات والساحات وأحياء المدن. صحيح أنه ليست كل تلك العمليات الإرهابية تستهدف مهاجرين أو ملونين من قبل عنصريين بيض، لكن انتشار تلك الممارسات يشجع المتطرفين على الإرهاب المسلح.
وكان في اقتحام جماعات العنصريين البيض مبنى الكابيتول في واشنطن مطلع عام 2021 مظاهر واضحة تؤشر على هذا الإرهاب الأبيض القادم. والأخطر أن الأمر لا يقتصر على الولايات المتحدة، بل إنه في بعض دول أوروبا التي كانت تعرف تقليدياً قبل سنوات بأنها بلاد تسامح وسلام كالسويد مثلاً أصبحنا نرى تصعيداً واضحاً لخطاب الكراهية والعنف ضد «الآخر». وتلك مقدمة منطقية للإرهاب الأبيض. والمثير في حالة مثل السويد أن ذلك لا ينتشر فقط بين متطرفين سويديين فحسب، بل هناك مهاجرون روس في السويد (وطبعاً هم بيض من أصل قوقازي أيضاً) يتشددون في تطرفهم تجاه مهاجرين آخرين.
في ظل استمرار تجريف السياسة في الغرب وأيضاً التردي الاقتصادي وزيادة كلفة المعيشة وانتهازية السياسيين والقادة المشجعة على التطرف والعنصرية يتوقع منطقياً أن تستمر موجة الإرهاب الأبيض وتتعمق. ولن يكون مستغرباً أبداً أن يتحول الإرهاب الفكري واللفظي إلى إرهاب مسلح يتبنى تكتيكات شاعت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وبما أنه مستبعد في ظل ظروف العالم الحالية اندلاع حرب عالمية ثالثة، فالأغلب أن تلك التيارات المتشددة والمتطرفة لن تجد منفذاً للتعبير عن عنفها الهمجي سوى الإرهاب.
نقلا عن “الخليج” الإماراتية