إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
تعني “نهايات” هنا انتهاء مرحلة وبداية مرحلة أخرى، و هي حالة فيها من الخوف والتداخل والفوضى والشك ما يجعل التفكير صعباً والرؤية معدومة تقريباً، وهي حالة أصابت الأفكار والنظريات والموارد والأعمال جميعها عندما هبت على العالم موجة المعلوماتية والعولمة، ولا بد أنّ الخطاب الديني قد تعرض لهذه الموجة، ويحتاج أيضاً أن يشكّل مفاهيم وحالات ومعاني وأفكاراً جديدة مختلفة عمّا درج عليه الخطاب طوال العقود والقرون الماضية.
هذه النهايات تمتد وتطال كل ما درجت عليه الأمم والدول والمجتمعات.
الجميل (والمخيف أيضاً) في هذه المرحلة الجديدة في وجهة الحضارات والمجتمعات أنّ المجال مفتوح (فوضى) لجميع الناس للتفكير والاقتراح على قدم المساواة تقريباً، فهي مرحلة منقطعة عمّا سبقها، وتكاد تكون الخبرات والتجارب السابقة غير كافية أو عاجزة عن تلبية وإجابة الأسئلة والمتطلبات الجديدة.
تعيد تداعيات المعلوماتية والاتصال وفهمها صياغة خطاب ديني جديد يأخذ بالاعتبار هذه التحولات التي صنعت عصراً جديداً، وحولت البشرية إلى مرحلة جديدة هي الأهم في مسارها على مدى التاريخ بعد مرحلتي الزراعة والصناعة.
إنّ الخطاب الديني والتحوّلات الحضارية والاجتماعية والأحداث الكبرى الجارية والمصاحبة لهذه التحولات قضية تصلح موضوعاً لتفكير وحوار طويل وممتد، فهي تثير شبكة من الأسئلة والتداعيات والإشكاليات والأفكار المتصلة، والتي تحتاج إلى بحث عميق، وعصف ذهني حول قضايا وتداعيات ربما لم تُبحث من قبل على نحو منهجي وموضوعي. وربما تستطيع مجموعات من المثقفين – وخاصة من الجيل الذي شهد هذه التحوّلات وراقبها- أن تُجري عمليات تفكير وعصف ذهني وحوارات تخرج بمجموعة من الأفكار في مرحلة جديدة تختلف أدواتها ومداخل العمل فيها كثيراً عن المرحلة السابقة.
هذه السيادة للنسبية تجعل الخطاب نسبياً أيضاً (نهاية المطلقية) والشبكية التي تترسخ في المعرفة والإدارة تزيد من شأن المجتمعات والأفراد على حساب الجماعات المنظمة (نهاية الجماعات)، وحالة الشك والفوضى التي تعم الأفكار والفلسفات تجعل من الصعب وصف الأهداف والمطالب بأوصاف يقينية، ولكنّها حالة متحركة وعائمة (من الدولة الإسلامية إلى دولة المسلمين، ومن الإسلاميّة عموماً إلى المرجعيّة الإسلاميّة)، وبتغير مفهوم السياسة (ما بعد السياسة)، فإنّ الخطاب يتحول من السياسة إلى الإصلاح، ومن الإسلام هو الحل إلى الإصلاح هو الحل، وفي حالة المساواة والشبكية فإنّ التواصل والعمل والبحث (والفتوى أيضاً) تتحول من الهرميّة إلى الشبكيّة، ومن التلقي إلى المشاركة، ومن الحتميّة والأحاديّة إلى الانتقاء والتعدّديّة، ومن أحاديّة الصواب إلى تعدّديّته، وفي حالة الشك والفوضى فإنّ الخطاب يتحول من الكمال أو مظنة الصواب والكمال إلى محاولة الاقتراب منه (نهاية الصواب)، ومن المثاليّة إلى التراكم، فالاستيعاب، فالإبداع، فالتراكم مرة أخرى، ومن وَهْم الصواب إلى حقيقة السؤال، ومن لذّة اليقين إلى حرية الشك، ومن متعة الوصاية إلى مشاركة المجتمع، ومن “غيتو” الجماعات والتنظيمات إلى فضاء الزمان والمكان، ويحتاج الخطاب أيضاً إلى التمييز بين المقدّس وبين التراث والإنساني، والتمييز بين النص وبين قراءاته وتفسيره، والتمييز بين الدين والدولة.
تصعد البدائل أيضاً على نحو غير مسبوق يؤشر إلى الخوف والشك وعدم اليقين، ورغم أنّ البدائل في الاقتصاد والطب والإعلام والتعليم والعمل والنضال ليست أمراً جديداً في الحياة البشرية، لكنّها تأخذ اليوم مرحلة من الازدهار والنمو، ولم تعد تنشط في الأقبية السرية، بل إنّها تصعد لتشكّل بديلاً حقيقيّاً، وربما تقترب من النصر والغلبة على المنظومة المؤسسية التقليدية، وإن لم تلغها، فإنّها تهزها من جذورها، وتعيد تعريفها.
الصحف والمؤسسات الإعلامية تواجه حقيقة أنّ المدونات و”الإعلام الشخصي” تقدم مصادر للمعلومات والمعرفة والتواصل ربما تتفوق عليها، والتعليم عبر الإنترنت يُغيّر كثيراً من معنى ودور المدارس والجامعات والأساتذة، والسفارات والدبلوماسية تأخذ أدواراً ومفاهيم جديدة في حالة التعولم الاتصالاتي والمعلوماتية السائدة، فالإنترنت والفضائيات (الشبكات) تمكّن من الاطلاع على الصحف ووسائل الإعلام في أيّ بلد على النحو الذي يلغي وظائف كثير من الدبلوماسيين.
وفي الأنظمة الإلكترونية المتاحة يمكن تنفيذ كثير من الخدمات والأعمال الحكومية التي تلغي أو تغير من دور القنصليات، وكذا الحال بالنسبة إلى العلاقات الثقافية والتجارية، بل وكثير من أعمال التجسس، فإنّها لم تعد تحتاج إلى سفارات وغطاء دبلوماسي، وفي العولمة الجارية تلغي أو تغير أدوار ووظائف الجمارك والبنوك المركزية والرقابة المالية والإعلامية وتنظيم ومراقبة تدفق الأموال وتحويلها، والمهن وأنظمة العمل والمؤسسات عامة تواجه تحديات وإغراءات وفرص أعمال جديدة بلا أنظمة ولا أمكنة، ومن ثم فإنّ قوانين العمل والعلاقة بين العاملين وبين أرباب العمل والمؤسسات تواجه أسئلة جديدة عن معناها وجدواها.
الحديث عن بدائل تلوح في الأفق في الإعلام والتعليم والعمل والموارد وكل شيء تقريباً أصبح شيئاً من الماضي، أو يكاد يكون كذلك، ولكنّه واقع جديد يتشكّل، ويفرض نفسه، ويعمل في حياتنا القائمة كلها تغييراً وإلغاء على نحو جذري. وبطبيعة الحال، فإنّ الهيكل الديني يبدو معرّضاً للتغيير مثل جميع القطاعات والمؤسسات.
الإنسان متجه ليكون قادراً على تعليم نفسه بنفسه وكذلك مداواتها، وأن يحصل بنفسه أيضاً على الاحتياجات والمعلومات والأخبار والتواصل مع العالم كله، وعلى قدر من الكفاءة والمساواة التي تمنحها المؤسسات المعقدة والمطورة، وبطبيعة الحال فإنّ عالم الدين وهيكله ومؤسساته القائمة منذ قرون تواجه حالة خوف من الانقراض.
نقلا عن حفريات