محمد الحمامصي
ليست أشكال الفرجة الشعبية أقل مكانة من غيرها، بل هي ضاربة في أعماق المجتمعات وجزء ينحت تكويناتها الثقافية وحتى الهووية، ومن هنا فإن محاولة تعميم شكل واحد من الفرجة في الفن تبدو مغلوطة، وهو ما تواجهه أشكال متعددة من الفرجات لا تزال تقاوم للظهور والاستمرار.
ويقول الروائي والمسرحي الروسي مكسيم غوركي في البطل الشعبي الروسي بتروشكا “إنه ينتصر على الجميع وعلى كل شيء: الشرطة، والقساوسة، وحتى الشيطان والموت، ويبقى خالدا لا يموت. ولقد جسد الشعب الكادح نفسه في هذه الشخصية الخشنة ووجد انتصاره على الجميع وعلى كل المصاعب”.
هذه الرؤية يفتتح بها القاص والناقد المسرحي اليمني هايل علي المذابي كتابه “الفرجة الشعبية المقاومة الثقافية وصناعة الوعي في عصر الاستعمار”، الصادر عن الهيئة العربية للمسرح، مؤكدا أنه “لا تزال القيمة الإنسانية، منذ الأزل، لا متغيرا بنيويا في تكوين أي مجتمع في أي عصر، وهي ما يعطى لأشكال الفرجة الشعبية، قيمة وأهمية، وهي أيضا السبب في بقاء أعمال فنية كثيرة في خانة الخلود”.
مفهوم الفرجة الشعبية
يقول المذابي “حين صاغ عالم الأنثروبولوجيا كلود لفي شتراوس نظريته ‘القرابة’ ومن قبله العالم النرويجي كارل يونج ما سماه الأنماط البدئية أو النماذج العليا صاغاها بناء على ما يصطلح على تسميته بالقيمة، والتشابه بين الحضارات ناشئ على أساس مجموع تلك القيم التي لا يمكن أن تختل في المنظومة البنيوية لأي مجتمع إلا باختلال الموازين فهي إذن لا متغير في أي بناء اجتماعي، والآخرون ما هم إلا نحن ولكن في صور مختلفة أما القيم المترسخة فهي واحدة، وطالما أن الغرائز السيكولوجية للذرية البشرية واحدة فإن القيم التي تعبر عنها الإنسانية لا بد أن تكون واحدة باختلاف نسبي في الثقافات”.
ويضيف “لقد عبّرت شعوب الأرض، عبر تاريخ البشرية الطويل، عن تلك القيم التي تختزلها منظومتها البنيوية، من خلال أدوات عدّة، لولا أن معظمها يتسق مع السياقات الفنية التي ابتدعها الإنسان عبر التاريخ؛ بالإضافة إلى تلك الأدوات فإن الضرورة التي اقتضت استخدامها للتعبير عن القيم لم تكن في حالة من السلام، أي إنها لم تكن دواعي متعة ورفاه كما هو الشائع عن الممارسات الفنية عموما في أوقات رخاء الشعوب واستقرارها، ولكنها أيضا مثلت فعل مقاومة ثقافيا غايته خلق حالة مغايرة عن الحالات السابقة وسعيا في سبيل تغييرها، وكذلك كان استخدامها في سبيل صناعة وعي جمعي بضرورة ما يجب الانتقال إليه والتغيير إليه، وكذلك ما يجب استيعابه وإدراكه من أخطار تقوض حرية المجتمع، وسعيا إلى استقلاله من كل أشكال الوصاية، والتحرر من الهيمنة الاستعمارية التي تكبل الشعب، وتضع قيودها على معصميه”.
ويتابع “من ضمن تلك القوالب والأدوات الفنية ما يصطلح على تسميته بـ’الفرجة الشعبية’، والتي مثل حضور أشكالها المتعددة والمختلفة من شعب إلى شعب في مسار النضال من أجل الحرية والخلاص والاستقلال حضورا هاما، ربما لم يستطع أي شكل فني آخر أن يجد له حظوة مماثلة لحظوة حضورها ذاك في تلك الأوقات العصيبة التي مرت بها الشعوب حتى في أوقات الرخاء والاستقرار، ولطالما أدّت أشكال الفرجة الشعبية دور فعل المقاومة الثقافية والفنية، ودور صناعة الوعي وإعادة صياغة الوعي الجمعي للشعوب المستعمرة، وبما يتناسب مع طموحات الحرية والرغبة في الاستقلال”.
وكما يبدو فإن ظروف حصار المثقفين والفنانين الاستعمارية، وفق المذابي، قد هيأت ليكون حضور أشكال الفرجة الشعبية، كشكل وحيد في الساحة وكأنه بديل إجباري وخيار اضطراري تحول من فرضية إمتاع المتلقي إلى المساهمة في إعادة صياغة وعيه بما يتلاءم مع ما يجب أن يؤول التغيير إليه، وذلك نظرا لما فرضه الاستعمار من حصار خانق على كل أدوات الممارسة الثقافية وصناعة الوعي الإعلامية، ليأتي دور الفرجة الشعبية تبعا لذلك دورا عظيما ومهما ورياديا وملهما على الساحة، كأداة صناعة وعي ووسيلة إعلامية، وسبيلا للخلاص، وقد كانت الفرجة الشعبية فرصة لتخفيف القالب دون الحاجة إلى تخفيف المفاهيم، مما ساهم بدوره في زيادة الوعي وتحققه والارتقاء بمضامينه دون الحاجة إلى الابتذال في المفاهيم عند تخفيفها فيما لو كان القالب ثقيلا، خصوصا على صعيد المقاومة وصعيد صناعة الوعي الجمعي بمخاطر الهيمنة الاستعمارية ووجوب السعي نحو التحرر والخلاص والاستقلال.
ويوضح المذابي أنه تبعا لتلك الأهمية فقد سعى في كتابه هذا إلى التأصيل أولا لمفهوم الفرجة الشعبية والتعريف بكافة سياقاتها، بالإضافة إلى تحديد معالمها ورسم خارطة تفصيلية لأشكال الفرجة الشعبية والتي تختلف من قطر إلى قطر ومن ثقافة إلى ثقافة سواء أكان ذلك عربيا أو عالميا، قديما أو حديثا أو مستحدثا.
كما مهد الكتاب نظريا لسياقات ذلك الدور الذي لعبته الفرجة الشعبية وأشكالها في المقاومة الثقافية وصناعة الوعي في عصور الاستعمار، وبعد ذلك قام بتقديم تعريفات وصفية لكل ما يتعلق ببقية عنوان الكتاب؛ المقاومة الثقافية وشروطها والأسباب التي تستدعي حضورها ثم مفهوم صناعة الوعي وتوضيح علاقته وارتباطه الحيوي الوثيق بالأشكال الفنية والثقافية، وانتقالا إلى التعريف بدور الفرجة الشعبية في صناعة الوعي وتحديد أهم الرموز والأعلام التي استخدمتها في تاريخ الفن الغربي والعربي واشتهرت بذلك، لينتقل من ثم إلى الحديث عن دور الفرجة الشعبية في المقاومة الثقافية وصناعة الوعي في عصور الاستعمار متخذا من نموذج المقاومة الفنية الفلسطينية والجزائرية في مسار الفرجة الشعبية مادة تستند عليها الفكرة ثم انتهى بالحديث عن التجربة اليمنية كنموذج للبحث الذي يتناوله الكتاب.
العرب والمسرح
يؤكد المذابي أن الصورة الفرجوية التي تقدمها أنواع الفرجة الشعبية، وهي نسخة عن الأصل، لا تحتوي بالضرورة على مظاهر الإمبريالية التي كما تبدو من خلال نظريتي كارل يونج وشتراوس أنها مظهر مكتسب مع تقادم الزمن، في حين أن تلك النماذج العليا التي تم نقلها في سياق اللامتغيرات البنيوية تعبر عن قيم إنسانية ومبادئ سامية، لذلك فإن كنا سنقدم صورة فرجوية فالأحرى بنا اختيار ما يناهض ظاهرة الاستعمار وإذا أردنا أن نقضي على مظاهر الإمبريالية فكل ما علينا هو الترويج لقيم المساواة والعدالة الاجتماعية وقيم الحرية من خلال فنون الفرجة.
يشير الكاتب إلى أن دور الفرجة الشعبية إذن هو إعادة الإنسانية إلى نقطة الصفر في اللامتغيرات البنيوية أي نقطة الانطلاق عندما كانت كل القيم الإنسانية في حالة ثبات في المكونات البنيوية للمجتمع، وتحديد ما هو مكتسب من قيم سيئة مثل نزعة الاستعمار التي تمثل قيمة سوداء، وإلغاؤها وإعادة تثبيت ما هو أصيل من تلك القيم كقيمة المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والتي اهتزت وتأثرت بسبب التحولات والتغيرات الحاصلة بسبب المعطيات الجديدة مع كل عصر.
ويرى أن ذلك دور حيوي جوهري يتعاظم في كل مرحلة من حيث أن المتلقي يتقبل هذه الاستعادة التي تؤديها الفرجة الشعبية على اعتبار أنها تقدم صورة عن الأصل وهي مقبولة لدى المتلقي فالمباشرة فجة تصدم المتلقي والواقع يعتبر حالة من المباشرة مهما كان الأسلوب الذي يتجلى أمام المتلقي إلا أنه يعتبر مباشرا، لذلك فالدور هنا في صناعة الوعي وصياغة الوجدان الاجتماعي هو دور فرجوي تقدمه الصورة من خلال قوالب الفرجة الشعبية والتي لطالما تلقاها المتلقي دائما بإيجابية.
يبين المذابي أن فنون الفرجة الشعبية، ليست مجرد وعاء فني فحسب إنها تجسيد للثقافة ذاتها، تجسيد لمنظومة هائلة من مكونات اللامتغيرات البنيوية في المجتمع الذي نعيش فيه، تجسيد للقيم المترسبة في الذهنية الحضارية التي تشكلت في الوعي الجمعي عبر الآلاف من السنين، ورغم هذه البساطة في المعنى الذي يحمله ويشير إليه مدلول الوعاء الفني للفرجة الشعبية بصنوفها والوظيفة التي تشغرها، إلا أن تجسيد هذه الوظيفة بكافة أبعاده يجب أن يتداخل فيه شرح تحقيقه مع مسائل الرياضيات الهندسية ومعادلات الفيزياء، بل ويجب الاحتكام في تجسيده إلى مقولة السبب والنتيجة.
المسائل الحسابية تحمل المنطق البديهي، الذي استساغته الذهنية البشرية عبر مراحل زمنية متعددة ومازالت تفعل ذلك حتى هذه اللحظة، والذي يمكن تجريد بساطته من وظيفته الحسابية وإسقاطه على عالم الفنون ووظائفها وعلى رأسها فنون الفرجة الشعبية، فالقول واحد زائد واحدا يكون ناتجه اثنين وهي من المسلمات البديهية وبالمثل فإن تحقيق الوظيفة القيمية في فنون الفرجة الشعبية يكون بذات المنطق الحسابي وأعني بلفظة “تحقيق” تمكين المعنى القيمي الذي تهدف إليه أبعاد المادة الفنية في الذهنية المتلقية، فالكلمات والملابس والأصوات والإشارات في فنون الفرجة الشعبية هي عبارة عن أرقام حسابية عندما نجمعها مع بعضها تعطينا ناتجا دلاليا لقيمة إنسانية نهدف من وراء عملنا الفني إلى تمكينها في ذهن المتلقي.
ويلفت إلى أن تحقيق هذه المعادلات في فنون الفرجة الشعبية يقتضي وجود فنان حقيقي مثقف إلى أعلى حد ملم بموروث وطنه، إنها خبرة البنّاء الطويلة في رصف الحجر وتشييد المداميك وإعلاء البنيان، ففنون الفرجة الشعبية بمكوناتها هي أحجار في يد الفنان يبني بها ما يشاء في ذهنية المتلقي إما قصورا وإما خرائب وأطلالا إما حضارة وإنسانا وإما تخلفا وجهلا وضلال. ولم تسلم هذه الأشكال الفرجوية من محاولة النيل منها من قبل القوى الاستعمارية، فتحت ذريعة تحديث المجتمع العربي، كانت الإستراتيجية الاستعمارية قوية ومحكمة ومؤثرة، فصورت هذه القوى أن الأشكال الفرجوية العربية تؤشر على المجتمع القديم ليستبطن الإنسان العربي تصورا سلبيا عن ذاته وتاريخه وثقافته، في محاولة لتتجه الذات العربية في المقابل إلى تبني النموذج المسرحي الغربي، فتأثير الخطاب الأوروبي المتمركز يحجب الاختلاف، حيث تبقى العديد من “الظواهر المسرحية محجوبة في دوائر الأشكال الشعبية العربية الإسلامية في التشخيص والاحتفال”.
ويوضح أن الفرجة العربية كانت مثار جدل واسع بين المستشرقين والعرب على حد سواء فيما إذا كانت أشكال الفرجة هذه عناصر مولدة للمسرح أو مسرحا بالفعل، ويعود ذلك إلى ثلاثة مواقف يمكن أن نلخصها في ما يلي: الأول: يرى أن أشكال الفرجة هذه على الرغم من احتوائها على عناصر درامية، ليست مسرحا، وفي هذا الصدد يقول محمد يوسف نجم “إذا أردنا الحديث عن المسرح، كفن له أصوله وأدبه، فعلينا أن نسقط من حديثنا ألوانا من التسلية الشعبية كخيال الظل والقره قوز وأعمال المقلدين والشعراء الشعبيين، فمثل هذه الألوان لا تندرج في سجل هذا الفن، وإن حوت بعض عناصره الشكلية”.
كما يزعم جيمس هاستينغ أن العرب لا يتوفرون على مسرح خاص بهم، وإنما على مسارح شعوب أخرى مكتوبة باللغة العربية. الثاني: يرى أن هذه الأشكال الفرجوية تمثل مسرحا خالصا يضم كل عناصر التمسرح التي تتقاطع مع النظرة الدرامية الأرسطية، وليس من الصواب قياسها على النموذج الأرسطي، وفي هذا الإطار يكشف المستشرق الألماني جورج جاكوب أن للعرب دراما وإن خالفت النهج الإغريقي، وأن معرفتهم للفن الدرامي أقدم مما نسب لمارون النقاش.
عثر جورج جاكوب (1862 – 1937) على ثلاث مخطوطات تتضمن مسرحيات “خيال الظل” مذيلة بتوقيع ابن دنيال. وبالتالي أثبت جاكوب أن للذات العربية أشكالا فرجوية مختلفة ومتعددة، ينبغي البحث في جمالياتها وقوانينها الدرامية الخاصة. الثالث: يرى أن هذه الأشكال مظاهر شبه درامية، أو هي نواة مولدة للمسرح، لكن أغلبها لم يتطور إلى الشكل الدرامي الأرسطي المعروف لأسباب منها ذاتية وأخرى موضوعية، في هذا السياق يرجع المستشرق جورج لاندو غياب المسرح في العالم العربي إلى العلل التالية: لم تكن الشعوب التي ارتبط بها العرب قد طورت المسرح بعد؛ كانت المرأة ممنوعة كليا من الظهور فوق الخشبة.
يخلص المذابي إلى أن الذات العربية لم تعرف المسرح بالمعنى الدقيق للكلمة والشكل، لكنها عرفت عبر تاريخها “فرجات” مثل: السامر الشعبي، الحكواتي، وغيرهما، لهذا كانت العودة إلى الممارسات الفنية والتقاليد الفرجوية المحلية عودة مطلوبة، لأنها تمثل الهوية التي عملت الممارسات الاستعمارية على طمسها وتشويهها، بغية التحرر من النزوع الغربي الرامي إلى الهيمنة والسيطرة، حيث جنح البعض إلى رفض الآخر كرد فعل لمقاومة عملية الهيمنة التي يمارسها الغرب لطمس الهوية الوطنية، لكن لا جدوى من التمسك بهوية نقية كخيار للمقاومة، لأن الثقافة والفن تجارب مشتركة، إذ لا بد من الوصل لا الفصل والانفتاح لا الانغلاق.
وغالبا ما تستعاد العناصر التراثية التي استبعدها المستعمر أثناء فعل المقاومة الثقافية والفنية، لأنها تمثل الهوية والذاكرة، لا ينبغي المبالغة في المقاومة المؤسسة على التعصب لما هو أصلي ومحلي مقابل العداء لما هو غربي، فهذا الخيار في جوهره تكرار للنموذج الاستشراقي الذي يعمد إلى إنتاج ذات الثنائيات الموهومة والتقسيمات التراتبية.
كما أن إدوارد سعيد يحذر من المبالغة في المقاومة المؤسسة على التعصب لما هو أصلي في مقابل العداء لما هو أوروبي، فاستبدال موظفين إداريين بيض بموظفين إداريين بلون آخر لا يحل المشكلة وإنما قد يزيدها تعقيدا، إذ “إن الرد على الاستعمار لا ينبغي أن يكون بقومية تعصبية وضيقة، وإنما بتقديم نمط من الوعي الخلاق الذي يمكن من تجاوز الانقسام العرقي الذي هو من مخلفات الاستعمار”.
وهكذا تصير المقاومة بمثابة عملية إعادة اكتشاف، وفك أسر ما كان مقموعا من قبل. وتلك هي التراجيديا الجزئية للمقاومة لأنها مطالبة باسترداد أشكال ما قبل استعمارية، ما دام الشعب المستعمر “لا يمكن أن يدير ظهره إلى فكرة وجود ثقافة جمعية ما قبل استعمارية وماض ينتظر من يجده”. وحتى لا يتحول هذا الوعي بالأشكال ما قبل الاستعمارية إلى نزعة شوفينية متعصبة وإلى صيغة تقديسية تخاطب الأموات، وجب تكسير الحواجز والحدود بين الفنون والثقافات للوصول إلى التشابك الفني.
المصدر : العرب اللندنية