أحمد بان
كاتب مصري
ارتدت جماعة الإخوان منذ نشأتها العديد من الأقنعة، بحسب الهدف والشريحة التي تخاطبها، أو الهدف الذي تصبو إليه، ولأنّ المجتمع المصريّ مع نشأة الجماعة، كان يغلب على أنماط تدينه الطابع الصوفي الذي يختلط فيه حبّ آل البيت مع المذهب السنيّ، فقد اختارت لمرحلة التأسيس هذا الوجه الصوفي الهادئ، الذي كان وعاء خطة حسن البنا للوصول إلى أهدافه، ولم يكشف كثير من الباحثين أسباب اختيار هذا الوجه أو القناع في مرحلة التأسيس، لكن نصاً كاشفاً يحكيه حسن البنا في مذكراته، يوضح ملامح خطة الجماعة التي اختمرت في ذهنه، ليلقيها ربما على لسان شخص آخر، عبر حوار يريد أن يقنع أنّه دار بينه وبين فلاح شاب لم يتجاوز حينها الخامسة والعشرين، ووفق رواية البنا؛ فقد توفَّى في ريعان شبابه وقد كان نادر الذكاء ودقة الفهم.
في حوار بينه وبين الرجل حول الأولياء تطرق الحديث إلى سيدي أحمد البدوي بطنطا (له مقام مشهور في الدلتا يزوره ملايين الناس كل عام)؛ حيث بادر الرجل البنا سائلاً: أتدري ما نبأ سيدي أحمد البدوي؟ فقلت له: لقد كان ولياً كريماً وتقياً صالحاً وعالماً فاضلاً، فقال: ذلك فقط؟ فقلت له: هذا ما نعلم، فقال: اسمع وأنا أحدّثك:
“جاء السيد البدوي إلى مصر من مهجره في مكة، وكان أهله من المغرب، ولما نزل مصر كانت محكومة بالمماليك، مع أنّ ولايتهم لا تصحّ؛ لأنّهم ليسوا أحراراً، وهو سيد علوي اجتمع له النسب والعلم والولاية، وأهل البيت يرون الخلافة حقاً لهم، وقد انقرضت الخلافة العباسية، وانتهى أمرها في بغداد، وتفرقت أمم الإسلام دويلات صغيرة يحكمها أمراء تغلبوا عليها بالقوة، ومنهم المماليك هؤلاء، فهناك أمران يجب على السيد أن يجاهد في سبيلهما: إعادة الخلافة واستخلاص الحكم من أيدي المماليك الذين لا تصحّ ولايتهم، كيف يفعل هذا؟ لا بدّ من ترتيب محكم”.
يظهر هذا التمهيد ما يريد أن يصل إليه البنا من أهداف تأسيس جماعته: إعادة الخلافة، واستخلاص الحكم في مصر من يد من يحكمون، وهو ما أفصح عنه في رسائله؛ حيث يقول في رسالة “المؤتمر الخامس”، التي تظهر فيها طموحاته السياسية: “إنّ قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف”، وهو في فقرة أخرى يؤكّد، خلاف معتقد أهل السنّة، أنّ “الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من أركانه”.
وبالعودة إلى رواية البنا عن هذا الفلاح المفكر! الذي يوحي إليه بخطة عمل الجماعة، يقول: “فجمع بعض خواصه ومستشاريه (يقصد أحمد البدوي)، ومنهم سيدي مجاهد، وسيدي عبد العال، وأمثالهما، واتفقوا على نشر الدعوة وجمع الناس على الذكر والتلاوة”، وفي هذا السياق يذكر البنا في “رسالة التعاليم”، في وصف دعوته بالقول: “وأن تجمع مظاهرها في خمس كلمات أخرى البساطة والتلاوة والصلاة والجندية والخلق”، وهو تطابق لافت مع ما يلقيه على لسان الفلاح الشاب، بما يشي ربما بأنّ القصة مختلقة، يريد من خلالها أن يؤكّد في نفوس أتباعه أنّه ملهم موهوب، وأنّ السائرين معه في طريق الله يبعث الله إليهم الرسائل بتلك الطريقة، التي تضاف إلى طريقة الرؤى والأحلام التي كانت من أدواته في استلاب عقول أتباعه.
ثم يكمل البنا الرواية منتقلاً إلى الشعار الذي اختاره لجماعته، فيقول على لسان الرجل: “وجعلوا إشارات هذا الذكر السيف الخشبي، أو العصا الغليظة لتقوم مقام السيف، والطبل يجتمعون عليه، والبيرق ليكون علماً لهم، والدرقة، وهذه شعائر الأحمدية”، ألا يذكر ذلك بتشكيلات الإخوان وشعاراتهم؟ خاصة الجوالة وما ارتبط بها من شعارات وطرق، فضلاً عن شعار مصحف حوله سيفان وتحته كلمة “وأعدّوا”، أي كأنّ البنا يريد أن يلقي في نفوس أتباعه أنّ كلّ شعاراتهم ووسائلهم جاءت بطريق الإلهام، وهي طريقة درج عليها في مع أتباعه.
يستطرد البنا في الرواية على لسان الفلاح الشاب، فيقول: “فإذا اجتمع الناس على ذكر الله، وتعلموا أحكام الدين، استطاعوا بعد ذلك أن يشعروا، ويدركوا، ما عليه مجتمعهم من فساد في الحكم، وضياع في الخلافة، فدفعتهم النخوة الدينية، واعتقاد واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى الجهاد في سبيل تصحيح هذه الأوضاع، وكان هؤلاء الأتباع يجتمعون كلّ عام، واختار السيد طنطا مركزاً لحركته لتوسطها في البلدان العامرة، وبعدها عن مقرّ الحكم، فإذا اجتمع الأتباع سنوياً على هيئة مولد، استطاع هو أن يدرك إلى أيّ مدى تأثر الناس بالدعوة”. ويبدو أنّ الموالد التي انخرط الإخوان في تنظيمها، سواء تظاهرات أو مسيرات أو مؤتمرات انتخابية، تمثل تماهياً مع تلك الخطة.
ثمّ يكمل البنا: لكنّه لا يكشف لهم عن نفسه، بل يعتكف فوق السطح، ويضرب اللثام مضاعفاً، ليكون ذلك أهيب في نفوسهم، وهذا هو عرف ذاك الزمان، (وقد أصبح عرف الجماعة الأثير هو السرية والغموض الذي يريد أن يبرر له نفسياً البنا بتلك الرواية)، حتى كان أتباعه يشيعون أن النظرة بموته، فمن أراد أن ينظر إلى القطب، فليستغنِ عن حياته في سبيل هذه النظرة، وهكذا انتشرت هذه الدعوة حتى اجتمع عليها خلق كثيرون.
يبدو أنّ هذه الرواية يمكن أن تفسر ما كان الإخوان يحبّون أن يشيعوه عن مرشدهم، وقد كانوا يردّدون في مجالسهم: أنّه (أي البنا) صاحب قدرات خاصة، كما تشهد بذلك مثلاً رواية أحد أعضاء الجماعة بأنّه اصطحبه دون أن يخبره إلى أحد كبار المنومين المغناطيسيين، الذي حاول جاهداً أن ينوّمه، لكنه فشل، فأسرّ لصاحبه قائلاً عن البنا: إنّ هذا الرجل صاحب قوة روحية عظيمة.
يكمل البنا الرواية قائلاً: “لكنّ الظروف لم تكن مواتية لتنجح هذه الحركة، فقد تولى مصر الظاهر بيبرس البندقداري، فانتصر على الصليبيين مرات، وانتصر على التتار مع المظفر قظر، ولمع اسمه، وارتفع نجمه، وأحبّته العامة، ولم يكتف بذلك؛ بل استقدم أحد أبناء العباسيين، وبايعه بالخلافة فعلاً، فقضى على المشروع من أساسه، ولم يقف عند هذا الحد، بل أحسن السياسة مع السيد، واتصل به ورفع من منزلته، وكلفه بأن يكون القيّم على توزيع الأسرى حين تخليصهم من بلاد الأعداء لأهليهم، لما في ذلك من تكريم وإعزاز، وكل ذلك قبل تمام هذا المشروع الخطير، واستمر الحكم فعلياً في المماليك، واسمياً لهذا الخليفة الصوري، حيناً من الدهر”.
يقول البنا: كنت أسمع هذا التعليل والتسلسل في تاريخ السيد البدوي، وأنا أعجَب لعقلية هذا الشاب الفلاح، الذي لم يتعلم أكثر من التعليم الأول في القرية، وكم في مصر من ذكاء مقبور وعقل موفور، لو وجد من يعمل على إظهاره من حيز القوة إلى حيز الفعل؟! وما تزال كلمات الشيخ الصاوي دراز، رحمه الله، تتمثل لي، كأنما أسمعها الآن، وفيها عبرة وفيها طرافة، والأمور بيد الله، {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}”.
تشهد الأحداث اللاحقة أنّ البنا حاول أن يخرج هذا المشروع بالفعل إلى حيّز الوجود متمثّلاً تلك الرواية، التي ساقها، لتكشف كيف تبلورت فكرة الجماعة لديه، وكيف تبلور مشروعها وخططها، وربما وسائلها.
سعى حسن البنا، وفق ما قال، للوصول إلى مراده عبر مراحل دعوته: بالتعريف والتكوين والتنفيذ، وقد كان يعتقد أنّه يحتاج إلى ثلاثة عقود حتى يكتمل مشروعه، بواقع عشرة أعوام لكل مرحلة، وهو ما أغراه بالانتقال من مربع الدعوة والتربية الذي توسّل بالقناع الصوفي الهادئ، وتجميع الناس في موالد، لتصل جماعته بعد سنوات إلى تجمع رابعة العام 2013، الذي كان المولد الأخير للجماعة، الذي لم يكن صوفياً أبداً، بل معسكراً لإعلان الحرب، ضمّ كلّ أطياف “الجهاد المسلح” الذي توعد الشعب والحكومة بالأحزمة الناسفة والمفخخات، التي انطلقت شظاياها بعد 30 يونيو، لتتهدد أمن المصريين حتى الساعة، وتثبت أنّ القناع الصوفي لم يكن سوى حيلة لجأت إليها الجماعة لتمرّ عبر الوعي الجمعي للشعب المصري المتدين بطبيعته، دون أن تمر قيم التصوف إلى نفوس الإخوان، كاشفة عن جماعة كفّرت المجتمع واستعلت عليه، واصطدمت معه في النهاية، بعد أن أدرك حقيقتها.
نقلا عن حفريات