محمد الحمامصي
التحولات التي تشهدها المنطقة تظهر صراعات كبيرة للسيطرة بين ثلاثة مشاريع كبرى لإيران وتركيا وإسرائيل، وكل طرف لديه أوراق بسط النفوذ، وما يجمع بين هذه المشاريع أنها تضع مصر المنكفئة في الواجهة.
تتهدد الأمن القومي المصري بؤر أزمات تتفاقم تحدياتها يوما بعد آخر، مثل الأزمة اليمنية، الأزمة السودانية، والأزمة السورية، أزمة سد النهضة، وأزمة الصراع على الغاز بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وأخيرا ما استجد من الأزمة الفلسطينية، لكن ما يشكل خطرا مع وجود هذه البؤر هو ما تلقيه تأثيرات الاضطرابات والأزمات الدولية والصراع بين القوى الإقليمية (إيران ـ تركيا ـ إسرائيل) التي تسعى كل منها إلى بسط النفوذ والهيمنة وفرض الإرادة داخل المنطقة وتحقيق مشاريعها السياسية.
تأثيرات هذا الصراع بين الثلاثي على الأمن القومي المصري، كان محور كتاب “إيران.. تركيا.. إسرائيل.. وصراع القوى في الشرق الأوسط” للباحث د. محمد رمضان أبوشعيشع مدرس العلوم السياسية ـ جامعة الإسكندرية.
وأكد أبوشعيشع أن الصراع الإقليمي في منطقة الشرق بين القوى الإقليمية الثلاث على الهيمنة وبسط النفوذ ينبع من أن كل دولة لديها مجموعة من المصالح والأهداف الوطنية في الشرق الأوسط، انطلاقا من أن كل دولة تتوفر فيها عناصر القوة الشاملة مثل إسرائيل، فضلا عن وجود إرث تاريخي في قيادة الإقليم مثل تركيا وإيران.
تسعى الدول من خلال هذا إلى استئناف دورها داخل النسق الإقليمي للشرق الأوسط، وإن كانت كل قوة من الدول الثلاث ينقصها بعض معايير القوة لوصفها بإقليمية، إلا أن لديها رغبة حقيقية في تحقيق مشروعها السياسي الذي يعبّر عن مصالحها وغاياتها القومية إزاء منطقة الشرق الأوسط.
يدور المشروع السياسي الإيراني حول سعي طهران إلى ما يعرف بالهلال الشيعي، الذي يمتد من داخل العمق الإيراني إلى قلب العالم العربي، عن طريق توغلها كفاعل رئيسي بالأزمة السورية، لكي تضمن سيطرة نفوذها على سوريا، ومن ثم تقديم كافة أنواع الدعم اللوجستي والعسكري إلى حزب الله في لبنان.
وتحاصر إيران من خلال هذا الهلال المنطقة عبر طريق التكامل مع شيعة الخليج، ومعززة ذلك الحصار بالوجود العسكري في اليمن عن طريق جماعة الحوثيين، وبالتالي إنشاء مشروع إيراني جديد، هو الشرق الأوسط الإسلامي مع رفض أيّ مشروعات إصلاحية خارجية، وبالتحديد المشروع الذي تعمل عليه أميركا وإسرائيل، وهو مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وتقوم ثقافة إيران العسكرية والمقرونة برغبتها النووية على الاعتماد على الذات وعدم الثقة في الحلفاء الدوليين والإقليميين، نتيجة اختلاف المصالح ووجود الحلف الغربي الضاغط لعزلها. ويكتسب الأمر بعدا ثقافيا لأن حلفاء المنطقة يدينون بمذاهب كثيرة تختلف عن مذهب إيران الشيعي؛ إلا أنها باتت تتعامل الآن مع أعدائها بنوع من الصراع التعاوني وفقا لاعتبارات المصلحة المشتركة، وهو ما تفسره العلاقات الإيرانية ـ التركية داخل الأزمة السورية خلال هذه الفترة، عن طريق تقاسم النفوذ الإيراني – التركي في سوريا.
ويوضح أبوشعيشع أن المشروع السياسي التركي في منطقة الشرق الأوسط يتعلق بانتهاج سياسة خارجية متعددة الأبعاد عرفت بـ”العثمانية الجديدة” فضلا عن اعتماد مفهوم العمق الإستراتيجي.
وتستفيد تركيا من جملة التغيرات التي حدثت داخل النسق الإقليمي للشرق الأوسط عقب ما عرف بثورات الربيع العربي عام 2011 عن طريق توظيف ميراثها العثماني التاريخي، والمميزات الجيوسياسية التي تتمتع بها، وتركيزها على الهوية المصبوغة بالدين الإسلامي في الانفتاح بالسياسة الخارجية على عدة جبهات في آن واحد، مثل دائرة الشرق الأوسط والدائرة الأوروبية بشكل متوازن، تمهيدا للهيمنة الإقليمية والعالمية التي تسعى إليها من قديم الزمان.
ويلاحظ أنه على الرغم من الاختلاف الجوهري بين قوة إيران الإقليمية ومذهبها الشيعي وبين تركيا بمرجعيتها حزب العدالة والتنمية السني، وتقاطع المصالح بين طهران وأنقرة؛ إلا أن هناك نوعا من الصراع التعاوني فيما بينهما، الذي يدرك فيه الطرفان أن بينهما تناحرا وتعارضا حول رغباتهما القومية بعيدة المدى؛ ولكن المصالح في المدى القريب تقتضي التعاون وتقاسم النفوذ فيما بينهما مثل تواجدهما في الأزمة السورية.
أما بالنسبة إلى إسرائيل فيرى أبوشعيشع أنها تسعى لكسر عزلتها عن بيئتها الإقليمية مع دول الجوار من خلال بناء علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية مع الدول العربية في المنطقة، والحيلولة دون توتر العلاقات بأيّ حال من الأحوال مع حليفها الإستراتيجي الولايات المتحدة.
وتوجد الكثير من المصالح المشتركة بين إسرائيل ودول الإقليم، لاسيما الرغبة المشتركة في معارضة البرنامج النووي الإيراني والسعي لتقليص نفوذ طهران في المنطقة، فضلا عن رغبة الطرفين في ضرب الجماعات الإسلامية الجهادية.
ولدى إسرائيل رغبة في إقامة علاقات اقتصادية مع دول القارة السمراء، بالإضافة إلى تعويض الدول الأفريقية لتل أبيب بالمياه لمواجهة الفقر المائي لديها.
ويمثل المستوى الأمني المحور الرئيسي للأهداف القومية الإسرائيلية في أجندة السياسة الخارجية، إذ تحتل الاعتبارات الأمنية المقام الأول في كافة الاتفاقيات والتسويات مع الدول العربية، حيث تتعدد بنود التعاون والتنسيق الأمني على حساب قضايا الصراع الرئيسية، المتمثلة في تحقيق السيادة على الأراضي الفلسطينية، وذلك للحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي والحفاظ على بقاء يهودية الدولة الإسرائيلية.
ويؤكد الكاتب أن مفهوم الأمن القومي المصري من أكثر المفاهيم المتداولة بشكل موسع في وسائل الإعلام، ومراكز الأبحاث والجامعات ودوائر صنع القرار المصري، لكن بصورة غير دقيقة من حيث مناقشته بصورة توضح مدلوله وماهية الجهات والمؤسسات المعنية بتحديد المفهوم وصياغته بما يحقق الأمن القومي للدولة، بالإضافة إلى الجدلية التي تدور حول المستوى الذي يمكن عنده القول إن الأمن القومي للدولة محقق فعليا.
وقد أدى وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي لحكم مصر إلى حدوث تطورات مهمة في رؤية مصر لأمنها القومي، حيث أصبح هناك تنوّع في استخدام أدوات السياسة الخارجية المصرية بين العسكرة مرة والدبلوماسية أخرى.
وأصبحت الأطراف المعنية بمناقشة مفهوم الأمن القومي ودلالاته أكثر توسعا وتنوعا لاسيما بعد توجيهات السيسي بإقامة عدد من دورات التوعية بالإستراتيجية والأمن القومي المصري تحت إشراف القوات المسلحة وتنظيم كلية الدفاع في أكاديمية ناصر العسكرية العليا، حتى يتم خلق طبقة من المثقفين بالمعاهد والجماعات والمؤسسات المصرية.
ويضيف أبوشعيشع أن الصراع الإقليمي بين إيران وتركيا وإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، قد أدى إلى عدة تهديدات وتحديات على منظومة الأمن القومي المصري، ومنها تزايد التهديدات الإسرائيلية في سوريا، وتفاقم ملف اللاجئين السوريين والهجرة غير الشرعية لمصر، والتمدد التركي في العمق السوري بما يمثله من ضغط على مصر ومصالحها هناك، وزيادة النفوذ الإيراني في سوريا وخطره على مرجعية مصر السنية بالإضافة إلى تهديدات الميليشيات الحوثية في اليمن، بما يهدد الغايات القومية لمصر في نطاق مضيق باب المندب وأمن البحر الأحمر وأهمية هذه المنطقة الجيوسياسية كمدخل جنوبي لقناة السويس المصرية.
ويلفت أبوشعيشع إلى أن مخاطر الأتراك على الأمن القومي المصري زادت بسبب إرسال تركيا للمرتزقة إلى ليبيا، وأطماع أنقرة في الثروات الطبيعية كالغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، بما يؤثر سلبيا على الدائرة الغربية لأمن مصر القومي.
كما تأتي المخاطر من تحركات إسرائيل في إثيوبيا وتمويل بناء سد النهضة الإثيوبي للتأثير على البعد المائي لمصر كبعد رئيسي لأمن مصر القومي.
وتؤثر الأهداف الإسرائيلية في فلسطين على أمن مصر القومي، لاسيما بعد وضوح مغزى صفقة القرن الأميركية لتحقيق أطماع إسرائيل ليس في غزة فقط؛ وإنما في سيناء المصرية.
إن هناك تبدلا في شأن عملية تطويل حصار الدول وفقا لنظرية الصراع، إذ سادت خلال المرحلة الراهنة حالة من الأقواس أو دوائر الأزمات، بدلا عن نظرية الأحلاف العسكرية التي كان لها دور عظيم في مرحلة الحرب الباردة، ومن ثم تسعى القوى الإقليمية إلى الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، لاسيما بالتأثير على قوة مصر الشاملة في الإقليم من خلال صناعة أقواس من الأزمات على النقاط الحيوية لمصر بما يؤثر على أمنها القومي، مثل الأزمة السورية، والأزمة الليبية، وأزمة سد النهضة وأزمة الصراع على الطاقة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
ويخلص أبوشعيشع إلى أن الصراع الإقليمي بمنطقة الشرق الأوسط بين إيران وتركيا وإسرائيل على قيادة الإقليم يرجع إلى وجود مشروع سياسي لكل منها تجاه المنطقة، الأمر الذي يشكل تهديدا واضحا لمنظومة الأمن الإقليمي بصفة عامة، ويؤثر على الأمن القومي المصري بصفة خاصة.
ويولد هذا الصراع عدة مخاطر ضمنية داخل منطقة الشرق الأوسط مثل الإرهاب العابر للحدود، والذي يؤثر سلبيا على أمن مصر القومي، وقد ساعدت العوامل المحلية والإقليمية داخل المنطقة على انتشار الإرهاب في مصر كاستشراء النار في الهشيم، بسبب حدوث ما عرف بثورات الربيع العربي عام 2011.
لكن مصر استطاعت أن تتصدى لجملة التهديدات والتحديات والمخاطر الناتجة عن الصراع الإقليمي بالمنطقة؛ عقب استقرار الأوضاع السياسية بها؛ نتيجة حدوث ثورتين متتاليتين عام 2011 و2013، إلى أن وصل السيسي إلى الحكم فعمل على وضع إستراتيجية وطنية لمجابهة هذه المخاطر والتصدي للمشاريع السياسية للقوى الإقليمية في الشرق الأوسط، والتخلص من أقواس الأزمات المحيطة بدوائر الأمن القومي المصري بشكل تدريجي.
المصدر : العرب اللندنية