إبرهيم غرايبة
ما هي الدولة الإسلامية؟ هل هي قائمة بالفعل في العالم الإسلامي أم ليس لها وجود؟ أم أنها قائمة على نحو متفاوت ومختلف بين دولة وأخرى، وباختلاف في مستويات تطبيقها ومفاهيمها ونسبيتها؟ فمنظمة المؤتمر الإسلامي تضم في عضويتها ستاً وخمسين دولة “إسلامية”، وهي دول قائمة بالفعل وتعتبر نفسها إسلامية، وتنص دساتيرها في الغالب على أن دين الدولة هو الإسلام، وأنه مصدر رئيس للتشريع.
إن صفة الإسلام أو عدمه، لا تطلق على هيئات أو مؤسسات أو دول أو حكومات أو جمعيات؛ فالإسلام أو الكفر يتعلقان بالأفراد فقط، ومن ثم فإن تسمية “الإسلامية” التي نشأت في العقود الأخيرة وصارت تطلق على الدول والجماعات والشركات التجارية والاستثمارية، وحتى المستشفيات، لا تعني أبداً نقيض الكفر أو أن سواها ليس مسلماً أو كافراً.
ومصادر الفقه في التراث الإسلامي تصف الدول بدار الإسلام أو دار الكفر أو دار الحرب أو دار الذمة؛ أي دولة المسلمين أو دولة غير المسلمين، والفرق واضح وكبير بين المصطلحين. ويدعو بعض المفكرين إلى استخدام مصطلح الفكر السياسي لدى المسلمين، وليس الفكر السياسي الإسلامي، باعتبار أن المسلمين يجتهدون في اختيار وسائل الحكم والإدارة، ويقتربون بذلك من الإسلام أو يبتعدون، ولكن ذلك لا يعني أن ممارساتهم هي الإسلام، كما لا يعني مجانبتهم الصواب أنهم ليسوا مسلمين.
فالدول الإسلامية بالمفهوم الاصطلاحي قائمة بالفعل، والحديث عن العمل على إقامتها هو سعي الى تحقيق ما هو محقق.ولكن هذا لا يعني أبداً الحكم على جهود الحركات والدول والمجتمعات الإسلامية نحو إقامة الدولة الإسلامية بأنه تكرار أو وهم وعبث، ولكنه في معظمه محاولة لتطبيق الشريعة الإسلامية وزيادة الاقتراب من الإسلام؛ فالحديث إذن عن تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة والحكم.
وتطبق الدول الإسلامية القائمة اليوم الشريعة الإسلامية؛ بمعنى أنها مصدر للتشريع وباعتبار انسجام الأحكام معها، إلا في حالات تقل أو تزيد من بلد إلى آخر، ولا ينفي عن دولة أو حكومة صفة الإسلام إن لم يطبق القائمون عليها أو حكامها بعض أحكام الشريعة الإسلامية. ولم يحدث بالفعل، ولن يحدث، أن طبقت الشريعة الإسلامية على نحو كامل في التاريخ والجغرافيا منذ وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن فهم أحكام الشريعة وتطبيقها يتضمنان قدراً كبيراً من الاجتهاد والتقدير لا بد من أن يحتملا الخطأ والتقصير، وهذا ما يدل عليه الاختلاف بين الفقهاء والحكام والمذاهب الفقهية والفكرية.
وهكذا، فإننا نجد في التاريخ والجغرافيا نماذج متعددة ومختلفة للدولة الإسلامية؛ ففي المشهد المعاصر نرى السعودية وإيران والسودان وتركيا، وتحديدًا تجربة حزب الرفاه وحزب العدالة والتنمية، إضافة إلى الأنموذج التقليدي السائد للدولة الإسلامية المختلف عن النماذج السابقة، مثل المغرب والأردن والكويت وباكستان وأندونيسيا وسائر الدول الإسلامية.
وقد ذهب البعض بعيدًا في تفسير الآيات والأحاديث، وتوصل إلى أحكام عن الدول والحكومات، مثل تفسير قوله تعالى: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، وقوله تعالى: “أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون”، في أن الحكومات والدول، وأحياناً المجتمعات، القائمة اليوم هي كافرة لأنها لا تحكم بما أنزل الله، وهو حكم متسرع لا يأخذ بالاعتبار معنى “الحكم” في الآية واللغة، ولا ينسجم مع الفهم الذي استقرت عليه الأمة، وأجمعت عليه طوال تاريخها؛ فالحكم و”الجهل” مسألة قضايا لا تخص الحكم والسياسة فقط، ولكنها تشمل جميع الأفعال والأقوال، والكفر له أحكامه وشروطه.
واعتبار الحكومات والدول الإسلامية القائمة اليوم كافرة فيه شطط وتناقض واعتساف، فهل هي مثل إسرائيل أو بريطانيا على سبيل المثال؟ وهل يعني عدم تطبيق أي حكم أنزله الله كفراً؟ فتكفر إذن جميع الدول التي قامت بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأنه ما من حاكم إلا ولم يطبق حكماً أنزله الله، فالكمال والعصمة مستحيلان، والحكم أيضاً يشمل كل الأفعال كالقضاء والإدارة والتدريس، فهل يكفر كل من يخطئ أو يخالف الشريعة الإسلامية في أعماله، إن أخطأ في تصحيح ورقة امتحان، أو في اختيار الموظفين والمفاضلة بينهم، أو لم يعدل بين أبنائه؟ فهي أفعال وغيرها كثير هي “حكم”، وعندما تفهم الآية “ومن لم يحكم…” بأنها تعني الحكومات والدول فمن يكفر؟ هل هو رئيس الدولة أم الوزراء، أم النواب، أم القضاة، أم جميعهم؟ بل إن الحكم يشمل كل موظفي الحكومة والدولة حتى أئمة المساجد ومؤذنيها.
ويبقى السؤال قائماً ومشروعاً لا تلغيه المقاربة السابقة، وهو: هل يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية اليوم في أنظمة الحكم والإدارة العصرية؟ وهل يتعارض النظام الإسلامي أم يتوافق مع مفاهيم الدولة الحديثة ومع حقوق الإنسان المتعارف عليها؟
إن النظام الإسلامي ليس أحكاماً جاهزة تطبق، ولكنه قواعد عامة ومقاصد كلية وأهداف وغايات وفلسفة يسعى المسلمون إلى تطبيقها، ولهذا فقد اختلفت النماذج الإسلامية في الحكم اختلافاً كبيراً، كان بعضها متقدماً في تحقيق الحريات والحقوق العامة، وبعضها الآخر يبالغ في الظلم والتسلط، ولا أحد يستطيع أن ينفي صفة الإسلام عن أي من هذه الأنظمة. وما يمكن اعتباره هنا هو ما قاله ابن القيم في كتابه “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية”، السياسة الشرعية مدارها العدل، ولو لم ينص عليه وحي، ذلك أن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت إمارات الحق وأسفر وجهه بأي طريق كان فثمة شرع الله ودينه؟ وعرف السياسة الشرعية بأنها “ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول ولا نزل به وحي، فأي طريق استخرج بها العدل فهي من الدين”.
والخلاصة أن المسلمين يجتهدون في إقامة دولتهم وأنظمتهم العصرية بما يحقق ما يرون أنه عدل وصلاح وحرية، وينتقون من أنظمة الحكم والانتخاب والإدارة ما يقترب بهم من ذلك، وينجحون أو يفشلون، ويتفاوتون في النجاح والفشل، ولكنهم في ذلك كله لا يفقدون صفة الإسلام ولا يكتسبونها، فليس هناك دولة كافرة تقابل الدولة الإسلامية، أو هي إسلامية بمعنى نسبتها إلى المسلمين، وليس ذلك حكمًا شرعيًا يمكن إطلاقه أو نزعه عن الدول.
ولكن يظل السؤال قائمًا وملحًا: ما موقع الدين في الدول والمجتمعات، وأين يقع فضاؤه ومجال عمله وتطبيقه؟
نقلا عن “مؤمنون بلا حدود”