محمود عبد الهادي
في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، كتبت في هذه الزاوية مقالا بعنوان (المعركة الفاضحة) التي ستفضح جميع الأطراف المشاركة في حرب الإبادة الصهيو-أميركية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والأطراف الداعمة لها ماديا ومعنويا، والأطراف العاجزة، وها هي الفضائح تتوالى على رأس الولايات المتحدة، الشريك الرئيسي للكيان الصهيوني في هذه الحرب، وراعية النظام العالمي القائم على القواعد على حد زعم قادتها.
أحدث هذه الفضائح رسالة التهديد التي بعث بها ١٢ عضوا جمهوريا من مجلس الشيوخ الأميركي إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، يحذرونه فيها من مغبة الإقدام على إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة سياسيين أو عسكريين من الكيان الصهيوني، وعلى رأسهم رئيس وزرائه ووزير دفاعه ورئيس أركانه، في خطوة تعتبر ضربة تدميرية شديدة تضاف إلى الضربات المتسارعة التي انهالت على النظام العالمي الأميركي وركائزه الفكرية والأخلاقية، وخاصة في أعقاب طوفان الأقصى.
عربدة بلا تجميل
الحديث عن عربدة الولايات المتحدة في العالم ليس جديدا، وهو أحد سلوكيات فرط القوة وشمول الهيمنة التي تعززت عالميا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي رسميا أواخر ديسمبر ١٩٩١م، وانتقال العالم من ثنائي القطبين إلى أحادي القطب، ودائما تكون العربدة تحت شعارات زائفة ومخادعة وبراقة للشعوب التي تجري العربدة على أراضيها وللشعب الأميركي على حد سواء، وأبرز هذه الشعارات: محاربة الإرهاب والاستبداد، وتعزيز الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان، والدفاع عن مصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وقد رأينا هذه العربدة كثيرا وخاصة في العقدين الأول والثاني من هذا القرن، في الصومال والعراق وأفغانستان واليمن وباكستان، ومؤخرا في تايوان وأوكرانيا.
إلا أن تحالف الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني في حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لم يجد شيئا من الشعارات السابقة يتستر خلفها، بعد أن تساقطت الأكاذيب التي أسس عليها الكيان الصهيوني هذا التحالف، حتى وجدت الولايات المتحدة نفسها متورطة تماما في هذه الحرب التي وضعت إدارة الرئيس بايدن في موقف تهاوت معه أحلامه بدوره رئاسية ثانية، مثلما تهاوت تحت أكوام الدمار وجثث النساء والأطفال والضعفاء في غزة؛ الشعارات والأحلام الوردية التي بشر بها العالم عند استلامه للسلطة مطلع العام ٢٠٢١م.
وقد جاءت الرسالة التي وجهها ١٢ عضوا جمهوريا من أعضاء الكونغرس الأميركي للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، لتظهر الوجه الحقيقي الولايات المتحدة الأميركية والنظام العالمي الذي تقوده والقواعد التي يقوم عليها والشعارات التي ترددها، حيث كانت الرسالة تهديدا مباشرا للمدعي العام وفريقه، وتحذيرا شديد اللهجة من مغبة الإقدام على إصدار أي مذكرة اعتقال في حق قادة الكيان الصهيوني، جاء فيه “إذا أصدرتم مذكرة اعتقال للقيادة الإسرائيلية، فسنفسر ذلك ليس فقط على أنه تهديد لسيادة إسرائيل، بل لسيادة الولايات المتحدة. لقد أظهرت بلادنا في قانون حماية أفراد الخدمة العسكرية الأمريكية المدى الذي سنذهب إليه لحماية تلك السيادة”. في إشارة إلى العقوبات التي أصدرتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في سبتمبر/ أيلول ٢٠٢٠م ضد المدعي العام السابق للمحكمة وفريقه ردا على قيام المحكمة بالنظر في ارتكاب القوات الأميركية جرائم حرب في أفغانستان.
وختمت الرسالة بالقول: “لن تتسامح الولايات المتحدة مع الهجمات المسيسة التي تشنها المحكمة الجنائية الدولية على حلفائنا. استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم. إذا مضيتم قدما في الإجراءات المشار إليها في التقرير، فسنتحرك لإنهاء كل الدعم الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية، ومعاقبة موظفيكم وشركائكم، ومنعكم وعائلاتكم من دخول الولايات المتحدة. لقد تم تحذيرك”.
وترى الرسالة أن إصدار مذكرات اعتقال دولية ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين، تعتبر إجراءات غير شرعية تفتقر إلى أساس قانوني، وإذا تم تنفيذها فسوف تؤدي إلى فرض عقوبات أميركية شديدة على المحكمة وعلى المدعي العام، معتبرة أن دولة الكيان الصهيوني تقوم بإجراءات مشروعة للدفاع عن النفس ضد المعتدين المدعومين من إيران. وشددت الرسالة على أن “من شأن مذكرات الاعتقال هذه أن تضع المحكمة الجنائية الدولية في صف أكبر دولة راعية للإرهاب ووكيلتها”، أي أيران. كما أشارت الرسالة إلى أن إسرائيل والولايات المتحدة خارج نطاق الولاية القضائية للمحكمة لأنهما ليستا أعضاء فيها.
التمادي في العربدة
أي عربدة هذه التي تدفع الولايات المتحدة إلى الوقوف في وجه محكمة دولية أنشئت لتختص بمحاكمة الأفراد الذين يفلتون من العقاب، والمتهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب. أي عربدة هذه التي تدفع الولايات المتحدة إلى مخالفة مؤسسات النظام العالمي التي تزعم أنها مسؤولة عن حمايتها من أجل إقامة العدل والمساواة وحقوق الإنسان في العالم؟
ولكن؛ لماذا نستغرب قيام هذه العربدة من الولايات المتحدة ضد المحكمة الجنائية الدولية، وهي مسؤولية عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في حق ملايين البشر، ليس هذا وحسب، بل هي المسؤولة عن ارتكاب الكيان الصهيوني لأعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بما يوفره له من غطاء سياسي، وبما تقدمه له من دعم عسكري متواصل على مدى الشهور السبعة الماضية؟ في الواقع يجب ألا نستغرب ذلك، فالعدالة والمساواة والحقوق ليست ما تنص عليه المواثيق والمعاهدات، وإنما ما تراه دول الاستكبار العالمي المهيمنة بقوتها على تفسير هذه المواثيق والمعاهدات بما يتناسب مع مصالحها ومصالح حلفائها.
لقد نظرت المحكمة منذ بداية عملها عام ٢٠٠٢م في أكثر من ٤٠ قضية، وأصدرت أكثر من ٣٠ مذكرة اعتقال بحق الأشخاص المتهمين فيها، منهم ١٧ متهما لم يتم القبض عليها حتى الآن، من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال في مارس/ آذار من العام الماضي. وقد رحبت الرئيس الأميركي جو بايدن حينها بهذا القرار واعتبره نقطة قوية لصالح المحكمة لأن روسيا ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أوكرانيا، وهو نفسه الذي قام في بداية رئاسته؛ بإيقاف العقوبات التي فرضها سلفه على المدعي العام السابق للمحكمة.
وتماديا في عربدتها، وإمعاناً في التغطية على جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي يقوم بها الكيان الصهيوني، وحماية لقادته من الاعتقال، وتحسباً لقيام المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق قادته، شرع الأعضاء الجمهوريون في مجلس النواب الأميركي مؤخرا في إعداد تشريع احترازي لفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية. ووصل الأمر إلى حد قيام مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين بعقد اجتماع عبر الإنترنت مع مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية قبل أسبوع للتعبير عن مخاوفهم بشأن أوامر الاعتقال المحتملة، ومحذرين من عواقب ذلك على علاقة الولايات المتحدة بالمحكمة، والعقوبات التي ستفرضها عليها في حال إقدامها على ذلك.
فهل سترضخ المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام وفريقه للتهديدات الأميركية تجنبا للتعرض لعقوبات مماثلة لما تعرض له الأمين العام السابق، بل من المتوقع أن تكون أشد منها؟ أم ستلتزم بنزاهتها واستقلاليتها، وتواصل عملها دون التفات لهذه التهديدات، معتمدين على دعم الدول الأعضاء في المحكمة، ومن بينهم غالبية الدول الأوروبية؟
نقلا عن الجزيرة نت