كريتر نت – متابعات
في خضم الحاجة المتزايدة إلى التعاون في حل الصراعات، فإن النظام الحالي للعلاقات الدولية متوتر بسبب عبء المنافسات الجيوسياسية والجيواقتصادية الناشئة منذ فترة طويلة. وفي هذا السياق، تدخل جهات فاعلة جديدة، مثل دول الخليج، إلى ساحة الوساطة الدولية، وتلعب دورا مهما في سد الفجوات التي خلفتها القوى التقليدية.
وتعكس المشاركة المتزايدة لدول الخليج في جهود الوساطة النفوذ المتزايد للقوى المتوسطة في السياسة الدولية وهي أيضا انعكاس لنضال الوسطاء التقليديين للتكيف مع التعقيدات التي يفرضها عالم متعدد الأقطاب ومترابط على نحو متزايد.
وفي بعض الأحيان، تجد القوى التقليدية في مجال الوساطة، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أن أساليبها التي تمت تجربتها واختبارها غير مناسبة لخصائص الصراعات الجديدة، والمتجذرة بعمق في السياقات المحلية وديناميكيات القوة الإقليمية.
وربما يحتاج نهجها في الوساطة، والذي يعتمد غالبا على عمليات رسمية ومنظمة وقانونية، إلى أن يكون أكثر مرونة للتكيف مع الطبيعة المتغيرة والديناميكية لهذه الصراعات.
وعلاوة على ذلك، فإن تاريخ التدخل السياسي والاقتصادي والعسكري في مناطق الصراع، والذي يمكن أن يؤدي إلى تصور التحيز أو المصالح الخاصة، يجعل من الصعب على نحو متزايد أن يُنظر إلى بعض البلدان على أنها وسطاء محايدون وغير متحيزين.
وتحت ضغط الرأي العام، فإن إعطاء الأولوية لتحقيق نتائج سريعة وملموسة قد يدفع نحو التوصل إلى تسويات سريعة لا تعالج بشكل كاف الأسباب الجذرية الكامنة وراء الصراعات. وينبع هذا النهج في الكثير من الأحيان من الافتقار إلى الحساسية تجاه الدوافع التاريخية، وثقافة “التقدم” بأي ثمن، ونهج “مقاس واحد يناسب الجميع” في التعامل مع الأنظمة السياسية وأنظمة الحكم. وقد أدى هذا النهج إلى إعاقة الفعالية ولا تتشاطره الجهات الفاعلة الإقليمية.
ويقول نيكولاي ملادينوف، المنسق الخاص السابق للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، في تقرير نشره معهد واشنطن إنه في المقابل، قد يكون أسلوب الوساطة الذي تتبعه دول الخليج أكثر ملاءمة للتغلب على هذه التحديات.
وكانت دول الخليج حاسمة في جهود الوساطة في النزاعات الإقليمية والدولية. وعلى سبيل المثال، كانت قطر نشطة، من خلال وساطتها الناجحة في الأزمة اللبنانية عام 2008، واستضافتها المحادثات بين الولايات المتحدة وطالبان في الدوحة.
ولعبت الكويت دورا حاسما في محاولة حل الخلاف القطري مع بعض دول مجلس التعاون الخليجي من عام 2017 إلى عام 2021. وقد حاولت المملكة العربية السعودية تقليديا التوسط في الصراع الفلسطيني الداخلي من خلال اتفاق مكة واستضافة محادثات جدة بين الأطراف المتحاربة السودانية. وقد سهّلت دبلوماسية عُمان السرية المناقشات المبكرة بين الولايات المتحدة وإيران والتي أدت إلى الاتفاق النووي لعام 2015. وتدخلت دولة الإمارات العربية المتحدة بنشاط في ساحة الوساطة، لاسيما من خلال دورها المحوري في اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018، وتسهيل عمليات تبادل أسرى الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وفي الساحة متعددة الأطراف من خلال استضافة قمة COP28 في دبي.
ويرى بعض المحللين أن الطبيعة الشخصية المميزة لنهج الوساطة في الخليج تتشابك مع الحكم الملكي، حيث تكون عملية صنع القرار مركزية للغاية. ويجادلون بأن هذا الاستقرار يسمح باتباع نهج ثابت في السياسة والدبلوماسية، بما في ذلك جهود الوساطة، والتي يمكن أن تكون مفيدة عند تنمية الثقة والتفاهم بين الأطراف المتنازعة.
ومع ذلك، فإن إسناد أسلوب الوساطة الخليجي فقط إلى نظامه السياسي قد يتجاهل ميلا ثقافيا أكثر عمقا نحو تعزيز العلاقات الدائمة لحل النزاعات. وعلى النقيض من التركيز الغربي على تحديد المشاكل بسرعة وتنفيذ التدخلات، فإن النهج الخليجي يؤكد بشكل كبير على البناء البطيء والدقيق للثقة والعلاقة.
السمات المميزة
هناك اعتراف متزايد في منطقة الخليج بالعلاقة التكافلية بين الاستقرار الإقليمي والرخاء الوطني. ويتجلى هذا بشكل أوضح في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي ركزت على خفض التصعيد والتطبيع مع الدول الحيوية في المنطقة، وهي إيران وإسرائيل وتركيا وقطر وسوريا، وركزت على تنويع اقتصادها. وبالمثل، فإن تهدئة المملكة العربية السعودية مع إيران هو جزء من تركيز السياسة الخارجية الأكثر أهمية على دعم خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية (رؤية 2030).
وبينما تسعى جميع بلدان المنطقة نحو مستقبل يتجاوز الهيدروكربونات، فإنها تدرك بشكل متزايد أن التنويع الاقتصادي المستدام يعتمد على السلام والأمن في المنطقة وخارجها. وبالتالي، فإن مشاركة دول الخليج في الوساطة تتعلق بالمساهمة في اتفاق إقليمي بقدر ما تتعلق بحماية مصالحها الاقتصادية، وخطوط إمداد الموارد، وطرق التجارة، وفي نهاية المطاف، نجاح إستراتيجيات التنويع الاقتصادي.
ويمثل التركيز على الاستقرار، وهو خروج عن نهج الدول الغربية الذي يركز عادة على تعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في جهود حل النزاعات، جانبا رئيسيا من إستراتيجية الوساطة لدول الخليج، إذ يمثل نهجهم أكثر واقعية وأقل توجيهية، وهو ما يمكن أن يوفر شعورا بالطمأنينة في مواجهة الصراعات المعقدة.
كما طورت دول الخليج أيضا أساليب مميزة للوساطة تتميز بالتكتم والتركيز على تكوين علاقات دائمة.
وهذه الطريقة متجذرة في النسيج الاجتماعي والثقافي للمنطقة، حيث تتم الدبلوماسية في الكثير من الأحيان بعيدا عن أعين الجمهور وحيث يتم تقييم دقة المفاوضات على إظهار الخلاف العلني وهو نهج غارق في التقاليد العربية.
ومن خلال التأكيد على هذا الأسلوب، أصبحت دول الخليج بارعة في توفير بيئة آمنة وجديرة بالثقة للأطراف المتصارعة التي قد تكون حذرة من التداعيات المحتملة للدبلوماسية العامة رفيعة المستوى.
وتستخدم عُمان مزيجا من الدبلوماسية التقليدية والحكمة الثقافية، مع إعطاء الأولوية للوساطة وعدم التدخل. ويتميز أسلوب حل النزاعات في عمان بنهج عملي ودبلوماسي، مع التركيز على الوساطة وحل المشكلات وبناء الثقة.
وتتركز جهود مسقط في المقام الأول على الشرق الأوسط وجواره المباشر، بهدف تحقيق نتائج مربحة للجانبين بدلا من تحقيق مكاسب سريعة.
وتتأثر أنشطة الوساطة العمانية أيضا بدورها الفريد كميسر للقناة الخلفية، مما يتيح أشكالا معينة من التدخل في ظل ظروف معينة. ومن المرجح أن تحدث وساطتها في المواقف التي تقبل فيها الدول المجاورة أفعالها.
وعلاوة على ذلك، يتأثر أسلوب عمان بالتزامها بالحفاظ على ثقة جميع الأطراف المشاركة في عملية الوساطة وشراكاتها الإستراتيجية مع الشركاء الأساسيين مثل الولايات المتحدة.
وتؤيد دولة الإمارات العربية المتحدة الدبلوماسية السرية القائمة على الإجماع، مما يعزز الاستقرار على المدى الطويل والشراكات القوية.
ويمثل التوازن بين المصالح الوطنية والصالح العام، وبناء العلاقات القوية، والاتساق، والابتكار، ونهج التفاوض الإيجابي، والمثابرة أسلوب حل النزاعات في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وتتعامل دولة الإمارات العربية المتحدة مع الصراع من خلال تطوير تفاهمات طويلة المدى والبقاء منفتحة على الحلول المطورة محليا.
وينبع نهج أبوظبي من حاجتها إلى الأمن والاستقرار في المنطقة الأوسع مع انتقال البلاد من الاعتماد على عائدات النفط إلى اقتصاد مستدام ومتنوع.
ويتميز أسلوب دولة الإمارات العربية المتحدة بشكل واضح بنهج هادئ وسري، والثقة في قدرتها على ضمان السرية، والقدرة على التحدث مع جميع أطراف الصراع.
والتركيز على الحلول التوافقية متجذر بعمق في التاريخ الفيدرالي للبلاد، وقيم التسامح وهويتها الوطنية. ومن المرجح أن تمتنع الإمارات عن البحث بنشاط عن فرص الوساطة. وقد توافق إذا كانت الظروف تتوافق مع مصالحها وحيث ترى أنها يمكن أن تلعب دورا أو تضمن نتيجة مربحة للجانبين.
التحديات والفرص
على الرغم من النفوذ المتزايد لدول الخليج في الوساطة الدولية، إلا أنها تواجه العديد من التحديات والقيود التي يمكن أن تؤثر على فعالية وتصور جهودها.
ويتمثل أحد التحديات الكبيرة في إمكانية النظر إلى وساطتها على أنها متحيزة أو مدفوعة بالمصلحة الذاتية، لاسيما في الحالات التي تكون فيها لديها علاقات قوية مع أحد الأطراف المتنازعة.
وهذا التصور للتحيز يمكن أن يقوض مصداقيتها كوسطاء ويحد من قبول بعض الجهات الفاعلة لجهودها.
وعلاوة على ذلك، رغم فعاليته في بعض السياقات، فإن الاعتماد على العلاقات الشخصية وقنوات الاتصال غير الرسمية قد يحد من قدرتها على الانخراط في عمليات أكثر رسمية ومؤسسية.
ومع استمرار دول الخليج في توسيع دورها في الوساطة، فإنها ستحتاج إلى التغلب على هذه التحديات والقيود لضمان فعالية واستدامة جهودها على المدى الطويل.
ومن المرجح أن يستمر دور دول الخليج في الوساطة الدولية في التطور والتوسع، حيث تتشكل بفعل عوامل مختلفة، بما في ذلك المشهد الجيوسياسي المتغير، والتحولات بين الأجيال، والتقدم التكنولوجي.
ومع استمرار ديناميكيات القوة العالمية في التحول نحو عالم متعدد الأقطاب أكثر، فإن دول الخليج في وضع جيد لتأكيد نفوذها والاضطلاع بدور أكثر بروزا في حل الصراعات.
ويمكّن موقعها الإستراتيجي ونفوذها الاقتصادي وقدراتها الدبلوماسية المتنامية من لعب دور أكثر نشاطا في تشكيل نتائج النزاعات الإقليمية والدولية.
وعلاوة على ذلك، مع ظهور جيل أصغر من القادة في دول الخليج، فمن المرجح أن يجلبوا وجهات نظر جديدة وأساليب مبتكرة للوساطة، بالاعتماد على تعرضهم للتعليم العالمي، والشبكات المتنوعة، والذكاء التكنولوجي.
ويمكن أن يؤدي هذا التغيير بين الأجيال إلى أسلوب وساطة أكثر ديناميكية وتكيفا يستفيد من أدوات الاتصال الجديدة وتبادل المعلومات وأدوات ومنصات بناء الثقة.
وبينما نتطلع إلى المستقبل، فإن دول الخليج مستعدة للعب دور أكثر أهمية في تشكيل معالم السلام والأمن الدوليين، وسيكون نهجها في الوساطة عاملا حاسما في تحديد نجاح هذه الجهود.