محمد حسين الشيخ
“لا أحب الصهيونية، ولست مضطرًا لاعتناق شيء أفتخر به خارج اليهودية.. ومعاداة الصهيونية تقليد يهودي مثالي عظيم”، هكذا كتب الصحفي الأمريكي اليهودي الشهير فيليب فايس في مقال نشره عام 2009 على الموقع الإخباري الذي يشرف على تحريره “موندويس“، تحت عنوان “سأرفع رايتي الغريبة عاليًا: لماذا أقول إنني مناهض للصهيونية، وليس ما بعد الصهيونية”، تحدث خلاله عن مجموعة مبررات لمناهضته للصهيونية رغم أنه يهودي.
فيليب فايس، الصحفي الأمريكي اليهودي الأبرز الذي كرس جزءًا كبيرًا من حياته المهنية لمناهضة “إسرائيل”، متخصص في الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، ولا يكتب إلا عنها أو ما يشتبك بها منذ أكثر من 22 عامًا، بعد أن تبنى لأجل ذلك مشروعًا صحفيًا ما زال مستمرًا حتى يومنا هذا.
كيف بدأ تأييده لفلسطين؟
فايس المولود عام 1955 لأب وأم يهوديين، نشأ بمدينة نيويورك ودرس الأدب الإنجليزي بجامعة ييل التي تخرج فيها عام 1976، وبدأ حياته كاتبًا مستقلًا، وكان يراسل مجلات مثل هاربر ونيويورك تايمز وغيرها، ثم عمل مراسلًا لصحيفة “The American Lawyer”، أي أن حياته المهنية في البداية كانت بعيدة عن الاهتمام بفلسطين والصهيونية.
تنقل فايس بين أكثر من صحيفة حتى عمل في صحيفة النيويورك أوبزرفر “The New York Observer”، وخلال عمله بها كانت متابعة السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط قد سيطرت عليه خاصة بعد غزو العراق عام 2003، وفي القلب من ذلك كانت القضية الفلسطينية ونقد الصهيونية، فاقترح على رئيس تحريره بيتر كابلان عام 2005، أن يكون له بابًا في الصحيفة يتابع من خلاله ما يتعلق بالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ولكنه سيفعل ذلك من منظور يهودي تقدمي يساري، وليس صهيونيًا.
وبناء على ذلك بدأ فايس يكتب مدونته الخاصة تحت عنوان ثابت للتبويب وهو “Mondoweiss”، التي تعني “فايس لأقصى مدى”، كنوع من الدعابة المستوحاة من اسمه “فايس”، حسبما شرح في مقال له.
ولكن في عام 2006 وبعد شهرة المدونة الصحفية المخصصة لفايس، اشترى جاريد كوشنر، رجل الأعمال والسياسي اليهودي الداعم لـ”إسرائيل”، صحيفة النيويورك أوبزرفر، وكوشنر هو مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيما بعد، ومبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط.
في البداية سمح كوشنر باستمرار المدونة، ولكن الأمر لم يدم طويلًا، إذ أزعجته كتابات فيليب فايس المهاجمة لـ”إسرائيل”، فقرر إجباره على الاستقالة، وذلك في نفس العام 2006.
هذه الاستقالة كانت خيرًا بالنسبة لفيليب فايس، حسبما يقول، إذ دفعته إلى تحويل هذه الزاوية في صحيفة أوبزرفر إلى موقع إخباري كبير يحمل نفس الاسم، ويهتم بتوسع بالقضية الفلسطينية والصهيونية والصراع العربي الإسرائيلي والعلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، ودعمها لتل أبيب، وشاركه في تحريره الصحفي اليساري آدم هوارتز.
لم يكن موقع موندوفايس هو الوسيلة الوحيدة لإزعاج “إسرائيل” من جانب فايس، فهو كثير اللقاءات، وخاصة في فضاء الإعلام غير التقليدي مثل البودكاست والإعلام الرقمي، عبر منصات مستقلة قريبة من الشباب مثل radioopensource و Everan وIndiana Center for Middle East Peace، وغيرها.
وبجانب هذه اللقاءات، فقد ألف فايس مجموعة كتب منها “المحرمات الأمريكية: جريمة قتل في فيلق السلام”، ولكن أهمها الذي يتعلق بفلسطين هو كتاب “تقرير جولدستون: إرث التحقيق التاريخي في صراع غزة”. والكتاب شارك فيه مع فيليب وايس كلا من آدم هوارتز وليزي راتنر، وصدر عام 2011، وفيه استقصاءات وتحليل دقيق لتقرير جولدستون الصادر عن الأمم المتحدة الذي يناقش هجوم “إسرائيل” على غزة (2008-2009)، ويقول إن “إسرائيل” تعمدت قتل المدنيين الفلسطينيين، ويدعم الكتاب هذه الفرضية بل وبه شهادات ومعلومات حصرية عن الفظائع التي ارتكبتها “إسرائيل”.
ما سبق جعل فيليب فايس محل هجوم من الصحافة المؤيدة لـ”إسرائيل” هو وموقعه “Mondoweiss” الذي وصفته صحيفة “واشنطن بوست” بأنه منصة للكراهية، واتهمته وكالة “تلجراف” اليهودية بعدم المهنية والكذب، وصار فايس وموقعه من العلامات التي يكرهها الصهاينة وأنصارهم في المجتمع الأمريكي، كما اتهم فايس بمعاداة السامية، وهو أمر يسخر منه كثيرًا.
ما الأفكار الرئيسية التي تسيطر على فيليب فايس بخصوص الصهيونية والقضية الفلسطينية؟ وما موقفه من طوفان الأقصى الذي بدا من تغطيته له من خلال موقعه “Mondoweiss”؟ هذا ما نلقي الضوء عليه.
“الصهيونية خطر على اليهود”
نشأ فايس في عائلة يهودية، ولكنها لم تكن عائلة متدينة، ورغم ذلك يعتبر فايس أن عائلته يهودية لأقصى مدى، موضحًا أن بيته هو الذي شكل اهتماماته الأخلاقية والفكرية والثقافية، حسبما يحكي في حوار له مع صحيفة “Highlands Current” الأسبوعية الأمريكية.
وفي مقال آخر له يرى أن الصهيونية تهدد السلام والعدالة في العالم، وتنتهك حقوق الإنسان، وتبرر القمع، وتمارس الفصل العنصري، وتغتصب أرض الغير عن طريق الاستيطان في فلسطين، كما أنها صارت تهدد الحرية السياسية في الولايات المتحدة، لأنها تجبر السياسيين الأمريكيين على تأييد أفعال القتل والسلب وانتهاك حقوق الإنسان، بل وتمويل هذه الجرائم بالمال والسلاح.
ويشير فايس في المقال الذي كتبه في 20 أبريل/نيسان 2024 إلى أن حرية التعبير في أمريكا باتت في خطر بسبب الصهاينة، مشيرًا إلى الاحتجاجات الطلابية الأمريكية ضد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، التي قوبلت بإجراءات لمحاصرتها ومنع تمددها والتضييق عليها واعتقال الكثير من المتظاهرين، بتحريض من اللوبي الصهيوني.
لكن فايس يعتبر في الوقت نفسه أن الصهيونية كانت إيديولوجية مبررة حين كانت أوروبا تقمع اليهود، حيث كانوا يهربون منها كلاجئين مضطهدين، ولكن هؤلاء المضطهدين تحولوا إلى عنصريين بعد أن تسيّد عليهم المتطرفون وبدأوا الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بالإرهاب والقوة منذ 76 عامًا، وهذا التيار الصهيوني المتطرف لم يسمح لأي يهودي أن يعترضه، وفي سبيل ذلك جرى اغتيال أي صوت يرفض سياسة العصابات الصهيونية في فلسطين، التي ما زالت تنتج زعماء “إسرائيل” حتى الآن.
يسرد فايس كذلك عددًا من قصص الاغتيال لليهود المعارضين لخطط العصابات الصهيونية، ومنهم حاييم أرلوسوروف الذي دعا إلى تعزيز قيم التعايش بين اليهود والعرب في فلسطين، ولكن العصابات الصهيونية اغتالته عام 1933، لأنها كانت تسعى وقتها إلى الاستيلاء على فلسطين وإعلان قيام “إسرائيل”، أما أرلوسوروف فكان يسعى فقط إلى عيش هادئ مع المسلمين والمسيحيين في دولة فلسطينية واحدة.
كما يذكر فايس أن سبب اغتيال الصهاينة لفولك برنادوت عام 1949، وهو الدبلوماسي الذي أنقذ آلاف اليهود من النازية خلال الحرب العالمية الثانية، يتضح في سعيه إلى تدويل مدينة القدس، وعدم خضوعها لـ”إسرائيل”، ولعل الجيل الحاليّ يتذكر جيدًا أيضًا كيف اغتيل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1955، لأنه أراد أن يحصل الفلسطينيون على جزء من أرضهم وإنشاء دولة لهم.
كل هذه القصص وغيرها جعلت فايس يقول باطمئنان إن “إسرائيل” دولة إرهابية، وإن المشكلة تكمن في الصهيونية كعقيدة وأيديولوجيا تدمر كل شيء يعترضها، وهي بذلك لا تدمر الفلسطينيين فقط، ولكن تدمر اليهودية كثقافة وتشوهها في العالم كله، وتجعلها تبدو للناس كثقافة عنصرية.
فايس المناضل التقدمي: مقاطعة “إسرائيل” وآمال اليهود
فيليب فايس يمارس عمله الصحفي وفي داخله الناشط الحقوقي الذي يمارس دورًا داعمًا للقضية الفلسطينية ومعاديًا للصهيونية، من خلال لقاءاته الإعلامية وكتاباته التي تمثل في حد ذاتها نشاطًا سياسيًا، ومشاركته في فعاليات معارضة لـ”إسرائيل”.
ولعل نشاطاته الأبرز تركز على محورين أساسيين، الأول هو دعم المقاطعة الدولية لـ”إسرائيل”، والثاني هو العمل على تشكيل لوبي يهودي معادِ للوبي الصهيوني الداعم لـ”إسرائيل”.
وعن ذلك يقول إن جزءًا كبيرًا من عمله هو محاولة نقل الأزمة الفلسطينية إلى الولايات المتحدة، وإحداث أزمة في السياسة الخارجية الأمريكية، وفي الصهيونية نفسها كفكرة، باعتبار أن الغطاء الأمريكي لو انكشف عن “إسرائيل” أو تغيرت سياستها تجاهها فإن كل شيء يمكن أن يتغير.
ينضم فيليب فايس أيضًا إلى المناصرين والداعمين لـ”حركة مقاطعة إسرائيل BDS“، التي تدعو دول العالم إلى سحب استثماراتها من الكيان الصهيوني ووقف التعاون معه في شتى المجالات، عقابًا له على ممارساته في فلسطين، وتوصف الحركة في الأوساط المناصرة للكيان الصهيوني بأنها معادية للسامية.
ويبشر فايس كثيرًا ويحتفي بتمدد حركة المقاطعة وازدياد شعبيتها لدى اليسار الأمريكي، ويحتفي بالبرلمانيين الذين يتبنون ذلك من داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، معتقدًا أن ذلك سيغير خريطة الصراع العربي الإسرائيلي.
بالتوازي مع ذلك، يدعو فايس منذ عام 2007 اليهود ذوي الميول اليسارية إلى اتحاد يجمعهم ليواجه منظمة الأيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية) واللوبي الصهيوني، معتبرًا أن ذلك هو الأمل اليهودي العظيم، لأن اليهود اليساريين في الولايات المتحدة غرباء أمام المنظمات اليهودية الداعمة لـ”إسرائيل” مثل أيباك، وآن لهم أن يكون لهم كيان متحد يحارب الصهيونية ويعمل على إظهار الوجه اليهودي الآخر.
ويعول فايس على الشباب اليهود اليساريين في الولايات المتحدة لبدء تكوين هذا اللوبي المناهض للصهيونية، مقتبسًا ما قاله الصحفي الفلسطيني الأمريكي علي أبو نعمة: “أقابل هؤلاء الشباب طوال الوقت في الجامعات بجميع أنحاء البلاد”، باعتبار أن هذا الجيل من الشباب اليهود ليس مرتبطًا بالقصص اليهودية العاطفية التي تدعم الصهيونية، ويريدون نقاشًا حرًا ومفتوحًا عن الصواب والخطأ بشأن “إسرائيل”.
ويعتبر فايس أن رجال الأعمال اليهود المناصرين للصهيونية هم العائق الأهم، لأنهم يمولون الحملات الانتخابية، وبالتالي يحسب السياسيين الأمريكيين حسابات كثيرة قبل انتقادهم لـ”إسرائيل”، خوفًا من تراجع التمويل أو حجبه عنهم، وأن الأمل اليهودي العظيم هو فصل المال اليهودي الليبرالي عن المال اليهودي الصهيوني المتشدد.
وبعيدًا عن اليهود، فإن فايس يعول على اليسار الأمريكي عمومًا فهو يعتبر أن التقدميين اليساريين هم الأمل في الضغط على الإدارة الأمريكية لتحقيق العدالة في فلسطين، واستغلال الجهات الدولية التي تدعم قضيته مثل المحكمة الجنائية الدولية التي أدانت الكيان الصهيوني مرات مختلفة.
ويتوقع فايس أن تبدو آثار قوة اليسار الأمريكي قريبًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لا سيما ما وصفه بالفقاعات اليسارية في مراكز الأبحاث والأجهزة المعنية بالسياسة الخارجية الأمريكية التي نفد صبرها تجاه “إسرائيل”، وبدأت تتجه إلى معاداة الصهيونية بشكل واضح، من منظور حقوقي ديمقراطي؛ لأن “إسرائيل” تريد إقامة ديمقراطية ولكن على أساس عرقي يهودي، وهو أمر يرفضه اليسار الديمقراطي، فالعنصرية العرقية تتعارض كلية مع الديمقراطية.
ما بعد طوفان الأقصى: حلم فايس يتحطم
بعد طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 نظر فايس إلى الأمر في إطار خلفياته التاريخية، فهو يعتبر أنه جزء من سلسلة الحروب التي بدأت عام 1948، مرورًا بـ1967 و1973 وما تلاهم من فصل عنصري وممارسات إسرائيلية عنصرية ضد الفلسطينيين، حيث طالب الغربيين بالنظر إلى حروب العبيد في جنوب الولايات المتحدة لنيل إنسانيتهم في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لفهم معنى نضال الفلسطينيين المحتلين.
يقدم فايس بنفسه نشرة أسبوعية على موقعه عن الوضع في فلسطين من وجهة نظره بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، بالإضافة إلى كتابات مختلفة عن الشأن الفلسطيني من كتاب معنيين بالقضية تنشر بشكل مستمر في الموقع، وبعضها من الداخل الفلسطيني نفسه، لينقل إلى المجتمع الأمريكي كل ما يحدث هناك من وجهة نظر لا يرونها في الإعلام التقليدي الداعم لـ”إسرائيل” والمسيطر على أغلب المشهد الأمريكي.
هاجم فايس الإعلام الأمريكي الذي يحاول الربط بين ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول بالمحرقة النازية لليهود، وقال إن الفلسطينيين ليس لهم علاقة بالهولوكوست كي يربطوا بينهم وبين ما جرى لليهود على يد النازيين في أربعينيات القرن العشرين، ولكن اضطهاد الفلسطينيين على مدى السنوات الـ76 الماضية هو الذي ينبغي ربط الأحداث به.
كما اعتبر أن ما تمارسه “إسرائيل” من تطهير عرقي للفلسطينيين وفصل عنصري هو السبب الذي دفع حركة حماس للنهوض، بدعم واضح وواسع من عموم الفلسطينيين، للهجوم على الإسرائيليين، مذكرًا الرأي العام الأمريكي باستيلاء “إسرائيل” على 80% من الأراضي الفلسطينية، فإن كانت هناك صدمة أو كارثة فهي التي يعيشها الفلسطينيون منذ عام 1948، يقول فايس في مقاله المنشور بتاريخ 21 فبراير/شباط 2024.
وفي 20 أبريل/نيسان، كتب فايس مقالًا بعنوان: “يجب فضح الصهيونية وتشويه سمعتها”، فهي السبب في معاملة الإسرائيليين على أنهم أقل شأنًا رغم أنهم يعيشون على أرضهم، وبالتالي يجب على الأمريكيين الذين يعيشون في مجتمع ديمقراطي أن يفضحوا الصهيونية ويشوهوا سمعتها.
وعبر فايس عن شعوره بالعجز أمام ما وصفه بجيش الإبادة الجماعية الإسرائيلي الذي يقتل المدنيين الفلسطينيين بوحشية، ويصف ما يحدث هناك بأنه نكبة جديدة للفلسطينيين، حسبما كتب تحت عنوان: “إيمان أمريكي محطم”، إذ يقول إنه يشعر بحزن شخصي لما أصاب أحلامه من تحطم، فقد كان يرى أن النضال السلمي الذي يمارسه في الولايات المتحدة، برفع نسبة المؤيدين لدولة واحدة علمانية ديمقراطية تجمع اليهود والمسلمين والمسيحيين ومقاطعة “إسرائيل” دوليًا، سيؤتي ثماره بالتدريج، ولكنه حزين لأن كل ذلك انهار بعد هجوم حماس وما أعقبه من إبادة إسرائيلية، وكان يتمنى لو أن أفكاره تحققت سلميًا دون هجوم حماس أو رد “إسرائيل”.
ومع ذلك، يرى أن الإيجابي في الأمر هو ظهور الفلسطينيين في وسائل الإعلام الغربية لشرح التاريخ الفلسطيني وتعريف الأجيال الجديدة بمعاناة شعبهم، وإحياء القضية داخل الرأي العام الأمريكي والغربي.
نقلا : نون بوست