رسلان عامر
كاتب سوري
لو طرحنا السؤال عن السبب الذي يجعل الناس يتدينون بشكل عام، فلا شك أنّ الإجابة الأبسط والأكثر مباشرة ستكون لأنّ الدين موجود في بيئاتهم المجتمعية، وهو يستمر بالتوارث الاجتماعي المتواتر، فينشأ الناس غالباً على دين آبائهم، وإن كان هذا لا ينطبق على الجميع، ولا يعني بالضرورة تطابق الأجيال الجديدة مع القديمة.
وفي المحصلة يبقى الدين أمراً واقعاً، وهو في المجتمعات المحافظة شديد الحضور كمّاً وكيفاً، كما أنّه وثيق الارتباط بالمحافظة، ويعززها ويتعزز بها بشدة! وفي هذه المجتمعات يلعب الدين دوراً محورياً في الحياتين؛ العامة والخاصة، وهو يحتل الحيز الأوسع من الثقافة، ويشكل القاعدة الأساسية للتشريع والأخلاق.
*في المجتمعات المحافظة يلعب الدين دوراً محورياً في الحياتين العامة والخاصة ويحتل الحيز الأوسع من الثقافة*
لكن ربط الدين فقط بالتقليد الاجتماعي، لا يعطي صورة متكاملة الأبعاد عن الأسباب التي تجعل الشخص يحافظ على دينه، وتجعل الدين القضية الأصعب على التغير!
وهنا لا بد من الرجوع إلى النظريات العلمية التي تفسر الدين كظاهرة، والتي يمكن تصنيفها في أصناف أربعة:
الأول منها معرفي؛ ويعيد الدين إلى تدني المستوى المعرفي عند الشعوب البدائية، التي كانت تعجز عن تفسير ظواهر الطبيعة فتضع خلف كل ظاهرة إلهاً، ثم تتقرب منه بالعبادة طمعاً برضاه ونعمته أو اتقاءً لغضبه وشره، والثاني منها هو نفعي، حيث يفسر الدين بوجوب ربط الأخلاق والقوانين والسلطات بمرجعية فوق بشرية، كي لا يختلف عليها الناس ويتنافسوا، فكل قانون أو خـُلق أو سلطان بشري المرجعية يمكن ببساطة أن يظهر له منافس أو مناوئ بشري، أما عندما تغدو المرجعية سماوية، فلا أحد يتجرأ على معارضتها ومنافستها.
أما التفسير الثالث فهو تفسير فطري، يرى في الدين فطرة، ويربطه بالحاجة الروحية عند الناس وضرورة وجود المقدس في حياتهم، فيما يرى التفسير الرابع أنّ الدين سببه وجداني، وعن طريقه يحل الإنسان مشكلة الموت وغاية الحياة والعدالة المفقودة في الحياة؛ وبالطبع في المواقف العلمية المعاصرة من الدين لا يؤخذ بأي من تلك التفاسير على حدة، بل تؤخذ بشكل متفاعل متكامل، ويفسر الدين نشأةً واستمراريةً من خلالها.
واقعياً إذا ما نظرنا إلى حال غالبية المتدينين اليوم، فسنجد أن أسباب تدينهم تدور في فلك تلك المحاور الأربعة، فما يزال الدين حتى اليوم ظاهرة إيمانية تسليمية، ولا يمكن تأسيسها على العقل والمنطق، فهذا ميدان العلم والفلسفة، ودور العقل في الدين يأتي في المرتبة الثانية بعد الإيمان والتسليم، فهو يسخّر لخدمة العقيدة ويؤطَّر بها، ويمنع عليه تجاوزها أو وضعها موضع الشك والنقد والمساءلة!
*التدين اللاعقلاني كارثي النتائج على أصحابه لكن من الخطأ ربطه بالدين وحده*
كما أنّ الدين ما يزال الميدان الرئيس الذي يستوعب النشاط الروحي للناس، ويلبي حاجتهم إلى ما هو مقدس ومثالي في حياتهم، وهو يعطي الأجوبة والحلول الكافية لأسئلة ماذا بعد الموت وما هي غاية الحياة، وعن طريق الحساب والثواب والعقاب في العالم الآخر تتحقق العدالة المرجوة، الغائبة في هذا العالم وينتصر الخير على الشر! كما أنه مايزال أساس الأخلاق والشرائع والسلطات في المجتمعات المحافظة بشكل رئيس.
وحتى في المجتمعات المتقدمة حيث تختلف جذرياً آلية التعاطي معه، ما يزال الدين يلعب دوراً روحياً وأخلاقياً على المستوى الفردي في حياة المتدينين.
لكن لو تأملنا في حال كل من المجتمعات المحافظة والمتقدمة على حد سواء، فسنجد أنه ثمة أزمة إنسانية حقيقية في كلا العالمين، رغم الاختلافات العديدة والكبيرة في أسبابها وأشكالها.
ففي المجتمعات المتقدمة الغربية، تراجع دور الدين جذرياً حتى عن حياة الفرد والمجتمع، وقد ساهمت الثورة العلمية المعرفية بشكل جوهري في هذا، لكن هذه الثورة العلمية المعرفية التي حررت العقل البشري، لم تطلقه في السبيل الإنساني، وإنما وظّفته لخدمة حضارة مادية جسدية، تسيطر عليها ثقافة الاستهلاك اللاثقافية، والغائية النفعية الأنانية والنزعة الفردية المفرطة، وهكذا فقد الإنسان موقعه الإنساني في مجتمعه، واغترب عن ذاته، فهذه الحضارة التي أقصت الدين وحررت العقل، لم تقدم للعقل البديل الإنساني الروحي، فجعلته عقلاً وظيفياً خاضعاً لسلطة الأطماع والشهوات، وبالرغم من أنها أعادت تنظيم المجتمع البشري، وطورت بنيانه بما يخدم صالحها، فهي لم تجلب السعادة الحقيقية، ولم تخلص الإنسان من غربته عن إنسانيته أو انحرافه عنها، ولم تلغِ التناقضات والتوترات الاجتماعية، ولم تحقق السلام، وما زال للعنف حضوره الكبير في عالم الفرد الخاص.. وبين مكونات المجتمع، وفي علاقة المجتمع مع غيره من المجتمعات.
ويكفي أن نشير إلى أنّ هذه الحضارة المادية العلمية، تسببت في حربين عالميتين بين الدول المتقدمة، التي شهدت بنفسها العديد من الثورات والانتفاضات الداخلية، القابلة حتى الآن للتجدد، والتي -أي تلك الدول- مارست وما تزال تمارس سياسات الاستعمار الكارثية بأشكالها المختلفة بحق غيرها من الشعوب، ومازالت حتى اليوم تتصارع على استغلالهم.. وتشعل الصراعات المدمرة من أجل ذلك!
أما في المجتمعات المحافظة، فلم يُقصَ الدين، لكن المُقصى فعلياً هو العقل، الذي لا يلعب إلا دوراً هامشياً في حياة شعوبها ذات المستويات العلمية والمعرفية المتدنية، وفي هذه الأجواء غير السوية، لا يحتاج المرء لبذل الجهد ليستخلص أنّ الدين غالباً يتحول إلى تقليد ميكانيكي، ولا يلعب دوراً روحياً إنسانياً حقيقياً في حياة كل من الفرد والمجتمع إلا لدى قلة قليلة، ومع غياب العقلانية، تتفشى الأمية المعرفية، ولا يأخذ المجتمع سبيله إلى التطور العلمي، الضروري بدوره للتطور الاجتماعي والاقتصادي، وتبقى الأوضاع المعيشية في حالة ومن التردي والتوتر، وهذا يقترن أيضاً بحالة التعصب الديني المرتبطة بدورها بكل من الوضع الثقافي المتدني، والوضع المعاشي السيئ، وهكذا يصبح الشخص المتدين وسيلة سهلة للاستغلال من قبل ذوي المصالح الخبيثة الداخليبن والخارجيين، الذين يستغلون جهله المعرفي وإحساسه بالغبن الاجتماعي وعصبيته المعتقدية، فيعمدون إلى التحريض الديني، ونشر التطرف والدفع إلى العنف، وتجييش وتجنيد المتطرفين المتزايدين كيفاً وكمّاً بما يخدم أغراضهم وأهدافهم، التي تكون انعكاساتها مأساوية على وضع هذه الشعوب!
*الحضارة التي أقصت الدين وحررت العقل لم تقدم العقل البديل الإنساني الروحي فجعلته وظيفياً خاضعاً لسلطة الأطماع والشهوات*
من الواضح تماماً أن التدين اللاعقلاني هو كارثي النتائج على أصحابه، لكن من الخطأ ربطه بالدين وحده، واستثناء بقية الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والمصالح الداخلية والخارجية الفاعلة، فهو يرتبط بكل تلك الظروف ويؤثر ويتأثر بها بشكل فعال!
لكن الحضارة العلمية المادية ليست قطعاً البديل، فهي حضارة لا تؤنسن علمها وعقلها، ولا تضعهما في خدمة الإنسان، وهي حضارة مصلحة واستهلاك وجسد، وهي بدورها تقصي الروح الإنسانية، وبدلاً من الارتقاء بإنسانية الإنسان تفعل العكس، رغم مظاهرها التي تبدو وكأنها حررت الإنسان وأطلقت طاقاته ولبّت حاجته، وجل ما فعلته فعلياً يخدم الإنسان بشكل رئيس بجانبه الجسدي، وحتى هذه الخدمة لا يتساوى فيها الجميع، فأعداد الفقراء والمحرومين فيها مازالت غفيرة، وهي في ازدياد، واحتمالات انفجار صراع حقيقي كبيرة!
هذه المجتمعات العلمية المادية تحتاج إلى حل، ونحن بحاجة إلى حل! هم بحاجة إلى تفعيل الروح، ونحن بحاجة إلى تفعيل العقل، وهذا يقتضي منا الاستفادة من تجربتهم في جانبها العقلي والعلمي، لكنهم على الصعيد الروحي لا يستطيعون أن يكونوا لنا قدوة، وعلينا أن نبحث عن طريقنا الخاص في هذا المجال، وبما أننا شعوب متدينة، فمن الواقعية العملية أن نقول إنّه يجدر بنا البدء بعقلنة تديننا، وجعل العقلانية أساس علاقتنا مع الدين، والتحرر من تبعيتنا للسلف وتخارجنا مع الحاضر وإغراقنا في الغيبية والتسليم.
نقلا عن حفريات