حسن إسميك
الإسلام السياسي، أو الإسلاموية أو الأصولية الإسلامية، مصطلحات مختلفة، توصّف أيديولوجيا سياسية واحدة تفترض أنه يجب إعادة تشكيل الدول الحديثة من كل النواحي، الدستورية والاقتصادية والقضائية… وفقاً لما يُنظر إليه على أنه إحياء أو عودة إلى الممارسة الإسلامية الأصيلة، لذا تنطوي هذه الأيديولوجيا دائماً على ما يصفه أصحابها بالدين الصحيح، أو الفهم الصحيح للدين، معتبرين كل مخالف لها مخالفاً لأصول الدين.
لهذه الأيديولوجيا آباء كثر … حسن البنا، سيد قطب، أبو الأعلى المودودي، حسن الترابي، روح الله الخميني. وقامت على أساسها أحزاب وحركات وجماعات مختلفة، متطرفة في الغالب، استطاع بعضها إخفاء هذا التطرف عبر الانخراط في العملية السياسية في بلاده، وبعضها الآخر تبنى العنف المسلح وسيلة للهيمنة والسيطرة والتسلط.
كان لهذه الكيانات السياسية تجارب كثيرة على امتداد القرن الأخير من عمر المنطقة، وفي دول عربية عدة. اختلفت هذه التجارب من حيث الحجم والتأثير، لكن معظمها يتشارك النتيجة ذاتها، وهي الفشل.
للإسلام السياسي، وتنظيمه الأبرز والأهم، “الإخوان المسلمين”، وجود وحضور في معظم الدول العربية، ناهيك بعلاقات تجمع ما بين فروع هذا التنظيم، ومجلس عالمي ينظّم هذه العلاقات، وتبادل دائم للخبرات والتجارب، ليس فقط في الدول المتقاربة مثل سوريا والأردن وفلسطين، بل مع تلك الأبعد، مثل المغرب وتونس، ورغم ذلك لم يستطع الإخوان امتلاك السلطة في معظم الحالات، ولم يستطيعوا الاستمرار فيها عندما فازوا بها. ولهذه الحالة بعدٌ كاشف، إذ تُظهر أن التيار السياسي الإسلامي يعاني مشكلات بنيوية كبيرة، وأن أتباعه والمنضوين في أحزابه يفتقرون إلى القاعدة الجماهيرية، أو إلى القبول العام.
في انتخابات 8 أيلول (سبتمبر) الماضي في المغرب، تعرّض أكبر حزب إسلاموي في هذا البلد، حزب العدالة والتنمية، لهزيمة كبرى. لم يتحصّل هذا الحزب، بعد 12 عاماً في السلطة، إلا على 13 مقعداً برلمانياً، بعدما كان قد حاز في انتخابات عام 2016،بـ 125 مقعداً. توقع الجميع أن يفقد الحزب بعض الأصوات في تلك الانتخابات، لكنّ أحداً لم يتوقع هذه الهزيمة الساحقة، حتى زعيم الحزب ونائبه فقدا مقعديهما، ما دفعهما إلى الاستقالة الفورية… ويرى مراقبون أن ما حصل في المغرب كان مسماراً آخرَ – وربما أخيراً – يُدقّ في نعش الإسلام السياسي، بعدما شهد وجوده، وسلطته، تراجعاً كبيراً وواضحاً في العديد من البلدان العربية والإسلامية.
تصدى محللون وباحثون من مشارب مختلفة لهذا السقوط المدوّي للإسلام السياسي في المغرب، وأعطوا آراء مختلفة وتفسيرات وأسباباً عديدة، لكن السبب الأوضح والأبرز والذي اتفق عليه أغلبهم هو أن الحزب الذي يحمل اسم “العدالة” و”التنمية” قد فشل في تحقيق أي منهما، أي أنه ببساطة أخفق في الوفاء بوعوده الانتخابية.
لا يقتصر الإخلاف بالوعود على الحالة المغربية وحسب، بل هو إحدى المشكلات الرئيسة لدى الإسلام السياسي عموماً. لطالما كانت وعود هذا التيار “طوباوية”، لكن ذلك لم يكن عن حسن نية، فقد صيغت هذه الوعود على أساس المأمول لدى الشعوب العربية المتعبة، وليس على أساس الممكن، ما يعني أن الوفاء بها مستحيل، وأن فشلها محتوم من لحظة إطلاقها، وليس وضعها إلا محاولة للّعب على مشاعر الناس، وزرع آمال زائفة لديهم، لتحقيق مكاسب سياسية لفئات محددة ضيقة، ومصالح شخصية لأفراد فقط.
تترافق هذه الوعود أيضاً مع شعارات رنانة، لكنها مفرغة: “الإسلام هو الحل”… ماذا يعني هذا الشعار الذي رفعه “الإخوان المسلمون” في مصر إبّان ثورتها مطلع العقد الفائت؟ ماذا قصدت “الجماعة” به؟ قد يبدو هذا الشعار جذاباً بالنسبة إلى البعض، إلا أنه فضفاض وواهم، وإقصائي أيضاً، ولا يوضح ماهية أو يضع تصوراً عن السبل التي سيتبعها التنظيم لحل الأزمات المركبة التي تعانيها مصر أو غيرها من الدول العربية على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الثقافية والأيديولوجية.
استخدام المصطلحات أو الشعارات الإسلامية لأغراض سياسية هو كذلك جزء من سبب آخر من أسباب الإخفاق الذي عاشه ويعيشه الإسلام السياسي في المنطقة، ألا وهو تقديس ما هو غير مقدس والتسييس المتعمد للدين. لا يتردد الإسلامويون في تبني الأفكار العلمانية وإضفاء صفات دينية عليها، عندما يتناسب ذلك مع أهدافهم ويخدم مصالحهم. وعلى سبيل المثال، جمع الخميني المفهوم الحديث للجمهورية وأضاف صفة “إسلامية” ليشكل دولة ذات طبيعة ثيوقراطية أصولية.
يركز الإسلامويون تركيزاً مفرطاً على “أسلمة” كل شيء، لكن باستخدام مدخل تاريخي ضيق الأفق للنظرة العالمية للإسلام، واعتماد تفسير للشريعة الإسلامية يتعارض مع عالم علماني وعصري وليبرالي، مع أن الإسلام لا يتعارض مع ذلك أبداً. وكأنهم يحاولون بعث دولة القرن الهجري الأول في منتصف القرن الخامس عشر، متجاهلين بذلك السياقات والخصال والسمات الأخلاقية والثقافية التي جعلت من الدولة الإسلامية الأولى مركز إشعاع حضاري للعالم كله. هذه النظرة الرجعية والانعزالية والتضييقية تقف عائقاً في وجه تحقيق أي نجاح في الكوكب المعولم الذي نعيش فيه اليوم.
إذاً، يحاول الإسلامويون أن يضفوا على نشاطهم السياسي صفة “المقدس”، مع أنهم لا يختلفون في شيء عن بقية الأحزاب والحركات السياسية، من ناحية الألاعيب والخداع والنزعة التسلطية الشمولية، وليس “خطابهم الديني” إلا وسيلة للاستقطاب والتحشيد. وبالعودة إلى مصر، فبمجرد وصول الإخوان إلى السلطة، عمدوا إلى محاولة إقصاء كل التيارات والفاعلين السياسيين الآخرين، بل رفضوا حتى التحاور والتعاون معهم، ولو أن مؤسسة الجيش في مصر كانت أضعف، أو أن قيادتها كانت أقل حزماً وحسماً في تلك المرحلة، لكانت الأمور قد اختلفت، ولكانت الأوضاع في مصر قد تطورت إلى ما لا تُحمد عقباه.
في التجربة المصرية، سقطت عن الإسلام السياسي حجة وذريعة أنهم لم يحصلوا على فرصة حقيقية لتسلّم دفة القيادة في أي بلد عربي، فقد وصلوا إلى الرئاسة المصرية، أي إلى أعلى سلطة في واحدة من أهم وأعرق الدول العربية، وأعلاها مكانة على صعيد السياسة الإقليمية والدولية، وفي نفوس العرب كلهم أيضاً. فغيّر هذا الحدث الحسابات السياسية كثيراً في كل أنحاء المنطقة، وكانت له تداعيات مهمة على كل من جماعة الإخوان المسلمين والفهم الأوسع للإسلام السياسي. ومع ذلك، لم يدم حكمهم طويلاً، وأطيح الرئيس الإخواني محمد مرسي في 3 تموز (يوليو) 2013.
القاعدة الشعبيّة…
تدّعي التنظيمات المنضوية تحت راية هذا التيار، من إخوان وغيرهم، أن لها قاعدة شعبية عربية كبيرة، ظهرت في الانتخابات في بلدان عدة، وهذا ليس كذباً، لكنه تضليل. لا يمكن لأحد أن ينفي أن الشعوب العربية المسلمة مالت في مرحلة ما إلى هذا التيار، لكن أسباب ذلك لا ترتبط بأيديولوجيا الإسلام السياسي ولا بأداء أحزابه ولا رجالاته، بل إن هذا الميل تولد بالعموم عن خيبات عانتها هذه الشعوب بسبب سوء الأنظمة الحاكمة، خاصة تلك العسكرية وريثة ثورات منتصف القرن الماضي، والتي بقيت رهينة الفكر الراديكالي، اليساري عموماً، ولم تستطع بالتالي الانتقال بدولها إلى مصاف الدول الحداثية ذات القيادة والمجتمعات المدنية.
لكن الواقع قد تغيّر رغم هذه الأسباب، وأستطيع أن أقول بثقة إن وعي الشعب العربي يتطور بوتيرة أسرع من تطور ممثليه وحركاته السياسية، وهذا واضح في كل الدول العربية تقريباً، فالشعوب آخذة في الاستفادة من الثورة التقنية، في حين ما زالت الكيانات السياسية تقليدية في معظمها وما قبل حداثية، خاصة تلك التي تقوم على أيديولوجيا دينية. وكما حدث في المغرب، وقبله في تونس ومصر، لن يثق الناس مجدداً بوعود الأحزاب الإسلامية الأصولية ولن يصوّتوا لها، وكونها “إسلامية” لن يشكل ذلك بطاقة عبور لها نحو السلطة، أو “تعويذة” للبقاء فيها، ما لم تحقق إصلاحات سياسية حقيقية وتقدماً اقتصادياً يستطيع الشعب تلمسه.
قشّة القضيّة الفلسطينيّة
لقد بات الإسلام السياسي اليوم كالغريق الذي يتعلق بقشة، هذه القشة الوحيدة المتبقية هي القضية الفلسطينية، حيث تحاول الدول والتنظيمات التي تتبنى هذا الفكر وهذا التيار أن “تحتكر” القضية الفلسطينية، وأن تشرعن بقاءها ووجودها من خلال الظهور بمظهر الحارس الأمين على “المقدسات” وعلى “حقوق الفلسطينيين”، ورفع شعار القضاء على إسرائيل، وطرد اليهود من المنطقة. لكنه سيبقى مجرد شعار “طوباوي” آخر من شعارات الإسلام السياسي، مفرغ ومستحيل وإقصائي، وأبعد ما يكون عن حُسن النية…
إنّ احتكار هذا التيار للقضية الفلسطينية هو أمر بالغ الخطورة، ويتجاوز أي تهديد قد يشكله الإسلام السياسي في أي بلد آخر، فبقاء تنظيماته في السلطة في فلسطين يأتي على حساب دماء الفلسطينيين وأرواحهم، وعلى حساب الأمن والاستقرار وبناء السلام في المنطقة كلها. وقد آن للفلسطينيين أن يقوموا بما قام به أشقاؤهم في مصر وتونس والمغرب وغيرها من الدول العربية التي أسقطت رهانات “الإخوان المسلمين” وأقربائه، وحيّدتهم وضبطت وجودهم وإيقاع حركتهم في الدولة.
من الثيوقراطيّة إلى الأوتوقراطيّة
لا يسعني في النهاية إلا أن أتفق إلى حد كبير مع الرأي الذي يقول إنّ الإخوان المسلمين، والإسلامويين في العموم، هم أحد أكبر الأخطار التي تتهدد استقرار المنطقة وازدهارها، ومنظومة علاقاتها وتحالفاتها الدولية. قد يجادل بعض المتعاطفين مع هذه الجماعة فيقولون، “هل ستُحلّ أزمات المنطقة اليوم بعدما فقد الإخوان السلطة في غير مكان من الوطن العربي؟”… ربما لا، لكن هذا لا ينفي عنهم ما لعبوه من أدوار في الماضي، ساهمت في ازدياد تعقيد المشكلات العربية، وزيادة تسلط الطرف المقابل وعدوانيته، ولم يعد خافياً كيف ساهمت “ثيوقراطية” الإسلام السياسي في تعميق “أوتوقراطية” بعض الأنظمة العربية، ناهيك بالحالات الكثيرة التي تواطأ فيها الإسلام السياسي مع أنظمة الدولة التي يدّعي أنها استبدادية وأنه يعارضها، خاصة عندما تتاح له فرص مقننة ومشروطة للمشاركة في السلطة ولو بالحد الأدنى.
لا يحق لأحد التشكيك في أيديولوجية الإسلام السياسي مطلقاً، ولهم فقط حق تفسير نصوص الدين، وإصدار الفتاوى التي غالباً ما تتعارض مع التقاليد الإسلامية. وبعد أن يخسروا النقاش الفكري والأيديولوجي والديموقراطي، لا يتوانون عن اللجوء إلى العنف أو الوسائل العسكرية في محاولة لكسب الجدال. وهذا ما يفسر إلى حد كبير لماذا طوّرت الإسلاموية – في شكل شبه عالمي – جناحاً عسكرياً أو ميليشيات تعمل بالتوازي مع الكيانات السياسية، ولماذا يميلون إلى الشمولية؟
كذلك سمح تسييس هذا التيار للدين بخلق وجهة نظر عالمية ترى أن الإسلام يتساهل مع العنف، فانتشرت ظاهرة ما يسمى “الإسلاموفوبيا”، وما زالت المؤسسات الإسلامية المرموقة والأصيلة تبذل الكثير من الجهد لتصحيح هذه النظرة والقضاء على هذه الحالة، فتضيّع الوقت والموارد بدلاً من استغلالها، بما فيه خير المجتمعات الإسلامية وازدهارها.
نقف اليوم أمام منعطف تاريخي كبير، صنعته الشعوب العربية، والقادة العرب الحقيقيون، يقول إن الإسلام السياسي مرفوض تماماً في بلداننا، الأمر الذي ظهر واضحاً من خلال التظاهرات ضدهم في السودان، ومن القضاء على المتطرفين أو طردهم كما في سوريا والعراق، من خلال الثورة ضدهم كما في مصر، أو الحد من دورهم كما هي الحال في الأردن وتونس، أو باستبعادهم من الصناديق الانتخابية كما حدث في المغرب. لقد انتهى العهد الذي مكّن أحزاب الإسلام السياسي في العالم العربي من استغلال الإسلام والديموقراطية على حد سواء للاستئثار بالسلطة وسط الثورات العربية، وبقي أن يخسروا “قشتهم” الأخيرة في فلسطين، فتعود القضية إلى حاضنتها الحقيقية الفلسطينية والعربية… عندها سيُفتح طريق السلام واسعاً، ليفضي إلى مستقبل آمن ومستقر ومزدهر للمنطقة كلها.
نقلا عن “مركز ستراتيجيكس”