صابرين الجلاصي
إن التعددية تعني التنوع الذي يجمع بين الخصوصية والاختلاف باعتباره حتمية إنسانية، أما التعددية الدينية فهي تعني الابتعاد عن السجالات العقائدية وبالتالي الإقرار بأن كل الأديان تملك الحقيقة أو جانباً منها دون حكرها على دين دون غيره، والسؤال المطروح هنا هل أن المجتمعات العربية تقر هذا التعدد؟ وسؤالنا يخص المجتمعات المشرقية التي ألفت التنوع الديني والعقائدي والطائفي ضمن نسيجها الاجتماعي لقرون طويلة بعكس البلدان المغاربية التي مازالت هذا المفهوم حديثاً مقارنة بالأولى.
ومن خلال دراسة أكاديمية أجريناها وقد ذكرناها في مقالات سابقة في “الحل نت” حول ظاهرة التحول الديني، لفت انتباهنا أن المجتمع التونسي تهمين عليه فكرة أحادية الدين وأن كل تونسي هو بالضرورة مسلم، لذلك فالتعددية الدينية عنده تقف عند حدود الأقلية اليهودية لأنّها معلومة بالنسبة إليهم كما أن الطائفة اليهودية لا تشكل تهديداً لهم، بعكس الآخر غير المعلوم والذي يجهلونه، كما أنّه يدعو للانسلاخ عن “دين الجماعة”، فالمجتمع التونسي إذ ما تأملنا في ثقافته الموروثة خاصة من خلال الأمثال الشعبية نجد أن الآخر عبر التاريخ هو محط الشك دائماً، وهذا ما وضحناه في كتابنا الذي ذكرناه سابقاً وقد استقينا منه التالي.
بعض الأمثال الشعبية
إن المثل القائل: “اخدم مع النصارى واليهود وخلي جيرانك شهود”، يعكس تصور التونسي للآخر المختلف دينياً والذي يتأسس على أن العلاقة بينهم لا تكون محط ثقة لذلك وجب الحذر في تعاملاته معهم، وفي نفس السياق نجد المثل القائل “إذا كان اليهودي خرج من عيدو يا ويح الي يطيح في ايدو” ويعني أن اليهود بعد اعتزالهم التجارة وأشغالهم اليومية بسبب أعيادهم الدينية، فإن عودتهم تعني هيمنتهم على التجارة والسوق لذلك وجب عدم الإشفاق عليهم لأنهم لن يشفقوا على خصومهم، كما يستنكر التصاهر مع اليهود بقول” أذى 100 جنية ولا الزواج بيهودية”.
أما بخصوص النصارى فنجد “عيناني في النصارى ولا قعداني خسارة”، أي التحفيز على أهمية العمل حتى مع “العدو” في المعنى الضمني، أيضاً المثل القائل “الطول والخسارة كي سلوم النصارى” والذي يطلق على إنسان عديم النفع، وهنا سخرية مبطنة من مكونات المعالم الدينية المسيحية التي يعتقد أنها بلا نفع، هذا ونجد المثل القائل “الي شاف بر النصارى مشات حياته خسارة” وهو يعكس خوف التونسيين من الاختلاط بالمسيحيين والتطبع بطباعهم.
هذه بعض الأمثلة التي استقيناها من الموروث الشفوي المتداول والمحفوظ في الذاكرة الجماعية التونسية، رغم أن الأمثلة الخاصة باليهود أكثر من المسيحيين وربما يعود هذا إلى كثرة الاحتكاك والتعامل مع العنصر الأول مقارنة بالعنصر الثاني، كما لاحظنا أنه يوجد تمييز بين العنصرين فمثلاً المثل القائل” كول مع اليهود وما ترقدش معاهم وارقد مع النصارى وما تكلشمعاهم”، وهذا على أساس أن اليهود أكلهم “حلال” من المنظور الديني الإسلامي لأنهم يمارسون “الذبح الحلال”.
لكن عدم النوم في فراشهم يعود للأسطورة القائلة بأن اليهوديات نمن مع جثامين أزواجهن بعد موتهم على إثر أمر الإمام علي حتى لا ينقرض نسلهن، وبالتالي وحسب هذه الخرافة الشعبية فاليهود يتسمون برائحة “عفنة” والملاحظ إن أغلب التونسيين يعتقدون في صدق هذه الخرافة.
أما بالنسبة للنصارى فإن أكلهم ليس “حلالاً” بإعتبارهم يذبحون بطرق تختلف عن المسلمين كما أنّهم يأكلون لحم الخنزير الذي هو محرم حسب كلا العقيدتين الإسلامية واليهودية، أما بخصوص النوم في فراشهم ففي الاعتقاد الشعبي التونسي المسيحيين يتسمون بالنظافة مقارنة باليهود، وأحياناً نرى التونسيين يجمعون كلا الديانتين في إطار واحد وهو “الكفر” مثل المثل القائل “جور مؤمن ولا عدل كافر”، أي العيش في ظلم إنسان مسلم خير من العيش في عدل فرد غير مسلم.
“أداة للضبط الاجتماعي”!
أما حين تحصل خصومة بين طرفين غير مسلمين يقول التونسي “ربي سلط الكفار على الفجار”، وهنا نلاحظ أن الأمثال الشعبية تضبط سلوك الأفراد وتبلور علاقاتهم الاجتماعية، فهذا الموروث المحتكم إلى الماضي يعد أداة للضبط الاجتماعي بل عند بعض الأفراد تعد الأمثال قاعدة حياتية مسلماً بها باعتبارها مبنية على خبرات سابقة تم توارثها، وبالتالي فإنّها تعكس صورة الآخر في المجتمع وتضبط كيفية تعايش هذا المجتمع مع هؤلاء المختلفين.
والآخر في الأمثال الشعبية التونسية هو محط ريبة وشك وعدم ثقة كما، إنّه “الكافر” في تصورات الأفراد، وبالتالي فإنّ المعاملة معه يجب أن يشوبها الحذر، وهذا ما بقي متجذراً في علاقة التونسيين مع الآخر وبالأخص اليهود.
ترسم الأمثال الشعبية صوراً نمطية تترسخ في الذاكرة الجمعية وتصبح مستبطنة بشكل واعي ولا واعي في الآن ذاته، وهو ما ينعكس على طبيعة العلاقات والتفاعلات بين الأفراد.
لكن رغم أن الأمثال الشعبية تضبط سبل التعايش مع الآخر إلاّ أن بعض الأفراد من المجتمع التونسي يقبل على التفاعل المطلق مع الآخر ويشاركه حتى في بعض طقوسه الاعتقادية، على الرغم من اختلاف الأديان.
وعلى سبيل ذلك، ذهاب الفتيات المسلمات بجزيرة جربة إلى كنس الغريبة والكتابة على بيضة وإنارة الشمع من أجل الزواج تماماً كما تفعل اليهوديات، أو مشاركة المسيحيين في خرجة “المادونا” أو السيدة “تراباني” من كنيسة حلق الواد كل سنة في 15 آب/ أغسطس وهذا الطقس التعبدي يعني انتهاء موسم الصيف وبالتالي فالبحر لم يعد صالحاً للغطس.
صورة الآخر المختلف في الأمثال الشعبية
الحقيقة إن المتأمل في صورة الأمثال الشعبية سواء كانت عربية أو حتى غربية بخصوص اليهود سنجد شبه إجماع على أن اليهود هم مرابين، غشاشين، يتظاهرون بالطيبة ويبطنون الشر، كما أنهم “قذرين” وغيرها من الصور السلبية والتي ترجمت في شكل أمثال شعبية، تزدريهم وتحقر منهم.
وعلى سبيل المثال، نجد المثل المغربي القائل “خسارة في اليهودي عينيه” بمعنى تمني أن يكون اليهود عميان حتى يكفوا عن الأذى، وفي مثل مغربي آخر نجد “بحال مقابر اليهود، البيوضا وقلة الرحمة” وهو يعني رغم أن قبور اليهود بيضاء، إلا أنها تفتقر إلى الرحمة لأنه في اعتقاد المسلمين أن من مات على غير الإسلام لن تطاله رحمة الله، وبالتالي فإن اليهود هم محرومين من رحمة الله.
وفي نفس السياق والمعنى نجد المثل الشامي القائل “زي فقرا اليهود، لا دنيا ولا آخرة”، كما أن اليهود لا يمكن الاعتماد عليهم لأنهم لا يقدمون المساعدة أبداً وهو ما يوضحه المثل التالي “احتاجوا لليهودي قال اليوم عيدي”.
أما في فرنسا فنجد أن أي مصدر للقذارة يقولون عنه: “إنه وسخ مثل اليهودي”، وفي بلغاريا نجد مثالاً يقول “هناك حيث وطئت قدم اليهودي، لن تنبت الحشائش”، وتقريباً يتفق هذا المثل مع المثل العربي القائل “يبني الناس، ويخرب ويحطم اليهود”، فمعنى أن اليهود في تمثلات دول أوروبا الشرقية هم مصدر الخراب والدمار وهو ما يمكن أن نفهم من خلاله سياسة الإبادة تجاههم، خاصة في الحرب العالمية الثانية، وازدراء اليهود طالهم حتى في الحضارات القديمة كالآشورية التي تقول عنهم” للشيطان عدة وجوه، إحداها وجه يهودي”.
أما المثل الروماني فيقول “إذا باض الديك البيض، عندئذ يصبح اليهودي إنساناً”، أما في مثل يوناني فنجد “إذا تحدث اليهودي عن السلام، فأعلم أن الحرب قادمة” ومن خلال هذا نفهم أن اليهودي شخصية لا يمكن الوثوق بها.
ترسم الأمثال الشعبية صوراً نمطية تترسخ في الذاكرة الجمعية وتصبح مستبطنة بشكل واعي ولا واعي في الآن ذاته، وهو ما ينعكس على طبيعة العلاقات والتفاعلات بين الأفراد، كما أن الآخر بغض النظر عن اختلافه دائماً ما تكون سمات النقص والتحقير من نصيبه، خاصة إذا كان في مجتمعات يمثل حضوره فيها أقلية، كما أن هذه الأمثال الشعبية غذت ومازالت تغذي إلى اليوم جذور الطائفية وكثيراً ما يتم اعتمادها في خطابات الكراهية.
المصدر : الحل نت