عزالدين بوركة
يعدّ مقال/ كتاب “الجماعة الغامضة”، الذي نُشر عام 1983، للكاتب والمفكر الفرنسي “المنعزل” موريس بلانشو، وترجمه محمد مزيان ليصدر عن دار خطوط وظلال في الأردن، تأملا في طبيعة الجماعة، وفي فشل محاولات بناء جماعة متماسكة، والمفارقات الكامنة في فكرتها ذاتها، معتمدا على أفكار كل من جورج باطاي وجان لوك نانسي وميشيل فوكو لتطوير حججه، و”مواصلا التأمل الذي لم ينقطع”. ومفككا أسطورة الفضاء المشترك، الذي تتبناه الجماعة، في عزلتها عن المجتمع.
يجادل بلانشو بأن الجماعة ليست مجموعة من القيم والمعايير المشتركة التي تعطي القانون معنى وتسمح لها بالكلام، مرتابا في الوقت عينه من إمكانية أن تكون للجماعة مساحة من القيم والأعراف المشتركة التي تعطي معنى متماسكًا للقانون وللجماعة نفسها التي تحاول تذويب الفرد.
وهو ما يقوده إلى تحدي الفكرة القائلة إن الجماعة، أي جماعة، تقوم على مجموعة من القيم والأعراف المشتركة التي تعطي للقانون معنى.
الغياب والعطالة
يؤكد أن القانون بعيد عن أن يكون تعبيرًا واضحًا ونهائيًا عن الجماعة، فهو دائمًا غير مكتمل ومراوغ. إذ إنه، حسب صاحب “الكتاب الآتي”، أبكم ولا يمكن أبدًا أن يتم التقاطه بالكامل باللغة أو الفعل البشري.
يؤدي هذا المنظور إلى انتقاد عبادة القانون والخطب التي تدعي أنها تعطي شكلاً ملموسًا ومطولًا له.
فالجماعة تتصور نفسها بمعزل عن قوانين المجتمع، لكونها مضمرة وغير مصرح بها inavouable.
ما أسلفناه دفعه إلى تبني الرؤية القائلة إن أي محاولة لتعريف الجماعة بهذه الطريقة محكوم عليها بالفشل، لأن المجتمع الحقيقي يتميز دائمًا بالغياب الجوهري.
لهذا فالجماعة، بحسب بلانشو، أمر مستحيل: لا يمكن تحقيقه أو استيعابه بشكل كامل.
حيث أنه وفقًا له دائما، تعد الجماعة -بالتالي- الحركة التي يستكشف من خلالها كل فرد، خارج نفسه، إمكانيات عدم اكتماله الخاص، أو أخذا عن باطاي القائل “يوجد في صلب كل كائن مبدأ عدم الرضا (=النقص)”
(L’expérience intérieure, 1978, p.97). لتختفي الجماعة في الوقت نفسه الذي يظهر
فيه الفرد.
يعدّ الغياب مفهوما أساسا لفهم بلانشو لفكرة الجماعة. إذ لا يمكن تعريفها بما تحتويه أو بما تمثله، بل بما تفتقر إليه.
لكونها معرضة للتغيير والتحول باستمرار، دون أن تصل إلى حالة من الاكتمال أو الاستقرار.
وهذا ما يسميه “التفكير من الخارج”، وهو شكل من أشكال المظهر الخارجي الذي لا يمكن أبدًا دمجه أو تدجينه بالكامل بواسطة الهياكل الاجتماعية أو السياسية.
يقدم بلانشو مفهوم “الفكر من الخارج”، المستوحى من فلسفة ميشيل فوكو، لوصف شكل من أشكال الخارج الراديكالي الذي يفلت من سيطرة الهياكل الاجتماعية والقانونية القائمة. الجماعة، من هذا المنظور، ليست مكانًا للسيادة أو الهوية الثابتة، ولكنها مساحة من التعرض حيث يكون الأفراد على اتصال دائم مع الآخر الذي يصارعهم ويسعى إلى تحولهم والسيطرة عليهم. وذلك لأن “جوهر كل كائن هو موضع نزاع من قبل كائن آخر ودون هوادة”.
وهو في الآن نفسه يجعل من الجماعة “متناهية”؛ وبالتالي، فإنها تتحلل في اللحظة نفسها التي يظهر فيها الفرد نفسه.
إذ إن “الجماعة ليست صورة مصغرة للمجتمع، ولا تزيد على أنها لا تتطلع إلى التماهي (جماعي)”.
وإنها عكس المجتمع الميال إلى العمل تسعى إلى العطالة والخمول.
يستخدم بلانشو مفهوم “العطالة” لوصف الطبيعة غير المكتملة والمجزأة للجماعة.
فهذا المفهوم لا يعني مجرد غياب العمل أو الإنتاجية، بل هو حالة وجودية حيث تهرب الجماعة من أي شكل من أشكال الإنجاز أو الهدف.
ترتبط هذه الفكرة ارتباطًا وثيقًا بفكر جورج باطاي، الذي استكشف فكرة أن التجربة الإنسانية الأكثر أصالة تكمن في لحظات الإنفاق المفرط وغير المنتج، في مواجهة المنطق النفعي للمجتمع الرأسمالي.
إذ “على خلاف الخليّة الاجتماعية، تمنع الجماعة نفسها من أن تعمل وهي ليست لها كغاية أية قيمة إنتاجية”.
وهو ما يترتب عليه أن الجماعة العاطلة هي تلك التي ترفض أن تضع نفسها في عمل مكتمل.
فهي تظل مفتوحة وغير محددة ومتحركة باستمرار. وقد أخذ بلانشو هذا المفهوم من كتابات جان لوك نانسي، الذي قام بتطويره في مقاله “الجماعة العاطلة”، حيث يؤكد أن الجماعة الحقيقية هي التي تعترف بمحدوديتها وعدم قدرتها على تشكيل نفسها في كليتها. وبالتالي، فإنها دائمًا في طور التكوين، ولم تتشكل أو تكتمل أبدًا.
أراد جان لوك نانسي، في مقاله هذا، إعادة التفكير في معنى الجماعة في مرحلة ما بعد الشيوعية.
وكما كتب “كان الأمر يتعلق بالتشكيك في معنى أو محتوى كلمة مثل ‘الجماعة’، التي لم تقترح أي شيء آخر غير ‘الشيوعية’، دون فقدان الثقة السياسية حيث سقطت الأخيرة”.
ثم سيرفض هذا المفكر طريقين رسمتهما الفلسفة. الأول، الوحدة، التي تشير إلى الاندماج الكامل للأفراد في الجماعة، مثلما نتبين مع مفهوم العمل في أنظمة شمولية مثل الفاشية. أما الأطروحة الثانية، وهي نظرية الهوية، فتشير إلى فكرة كفاية الفرد.
إلا أن نانسي أكد في هذا الموضوع أن “الفردانية تنسى أن مسألة الذرة هي قضية عالم” (La communauté désœuvrée, 1986, p. 17-18).
وفي نهاية المطاف رفض فلسفات الجماعة هذه، لأن العمل كان يشكل دائمًا الأفق الذي لا يمكن تجاوزه، بينما تنأى هي بنفسها عنه لصالح فكرة الكسل والعطالة.
ويوضح الفيلسوف هذا المصطلح المستعار من بلانشو بقوله “يشير إلى حركة العمل (…) التي لا تسمح له بإنجازه بالمعنى الكامل بل تفتحه على غياب معناه أو المعنى بشكل عام. والعطالة هي التي لا ينتمي بها العمل إلى عمل المكتمل، ولا إلى عمل غير المكتمل”.
وباختصار، دافع نانسي عن فكرة أنه يجب علينا الاتفاق على أن الجماعة لا تتأسس على مشروع (مستدام في الزمن)، بل على أساس وجودي.
الحب جماعة الأحبة
في أحد الجوانب الأساسية للكتاب يقف بلانشو عند استكشاف ما يسميه بـ”جماعة الأحبة”. على عكس الأشكال المؤسسية للمجتمع، تعتمد هذه الجماعة على علاقات شخصية مكثفة وغالبًا ما تكون سريعة الزوال.
ولا تخضع هذه العلاقات لقوانين أو أعراف اجتماعية، بل لديناميكية الرغبة والضعف. لأن أفرادها، يقول بلانشو، “يريدون أن يتطلعوا بعدُ، فقط، إلى الكائنات التي لا يكون لهم أن يقتربوا منها من خلال أي انفعال عاطفي صخب”.
ويرى بلانشو في الحب شكلا من أشكال المظهر الخارجي الجذري حيث يواجه الأفراد اختلاف الآخر دون أن يتمكنوا من امتلاكه بالكامل. الحب، في هذا السياق، يصبح تجربة الخسارة والهجر.
يتعرض العشاق لشكل من أشكال المجتمع الذي يتفكك ويصلح نفسه باستمرار، وبالتالي يفلت من أي شكل من أشكال الإغلاق أو التعريف المستقر، فـ”الحب لم يعرف القانون أبدا”.
في أعمال بلانشو، بشكل إجمالي، غالبا ما يتم استكشاف الحب في جوهره الغامض والمتناقض.
إذ بالنسبة إلى صاحب “كتابة الفاجعة”، الحب ليس مجرد علاقة متناغمة بين شخصين، بل هو بالأحرى تجربة للآخر وفقدان الذات.
إذ يرى بلانشو في الحب تجربة يواجه فيها الفرد الآخر بكل غرابته. وهذا يمكن أن يؤدي إلى شكل من أشكال التمركز حول الذات، حيث يتم فقدان الهوية الفردية في العلاقة مع الآخرين.
لهذا فالحب الحقيقي يعني تحلل الأنا في العلاقة مع الآخر. إنه استسلام الذات الذي يفتح الطريق لتجربة السمو أو النشوة.
وهو ما يجعل منه رهين الاستحالة وغير متحقق المنال.
إنه غياب، بل يرتبط الحب عنده ارتباطًا وثيقًا بالموت، ليس فقط بسبب البعد المأساوي للعديد من قصص الحب، ولكن أيضًا لأن تجربة الحب يمكن أن تؤدي إلى المواجهة مع المحدودية الإنسانية.
إذ أن ما يعنيه الموت عنده، هو ذلك النقص في الإحساس والنقص في الحب. فالعشق لا يحضر إلا ناقصا مستحيل الكمال.
بالنسبة إلى بلانشو، فإن العلاقة بين العشاق تخلق مجتمعًا متميزًا عن بقية العالم.
كلاهما منفصلان عن العالم الخارجي ولا يمكن الوصول إليهما، ما يخلق نوعًا من العزلة في مجال وجودهما.
لهذا يطرح أن التواصل بين الأحبة دائمًا يكون غير مكتمل وغامضا. وعلى الرغم من أنهما يشتركان في علاقة حميمة عميقة، إلا أنه لا تزال هناك مسافة وغموض يمنعان الفهم الكامل للآخر. وغالبًا، مثلما يذهب، ما تتميز العلاقة بين العشاق بالمواجهة مع الموت والمحدودية الإنسانية.
هذا الوعي بالموت يمكن أن يزيد من حدة العلاقة الحميمة بين العشاق، ولكنه يمكن أيضًا أن يخلق التوتر والقلق بشأن عدم ثبات علاقتهم.
يقول في هذا الصدد “جماعة الأحبة التي يريدها هؤلاء أم لا، يستمتعون بها أم لا، كونها مترابطة عن صدفة، من خلال ‘الحب الأحمق’ ومعاناة الموت، لها كغاية جوهرية تهديم المجتمع”.
إن أفكار بلانشو حول المجتمع لها آثار عميقة على الفلسفة الاجتماعية والسياسية.
ومن خلال الإصرار على عدم اكتمال واحتمال أي شكل من أشكال المجتمع، يدعونا بلانشو إلى إعادة التفكير في مفاهيم التضامن والتعاون.
وبدلا من السعي إلى بناء مجتمعات متجانسة ومستقرة، يقترح أنه ينبغي لنا أن نتقبل هشاشة الروابط البشرية وعدم استقرارها.
ينتقد بلانشو النماذج التقليدية للجماعة التي تعتمد على الهويات الثابتة والهياكل الصارمة. إنه يقدم رؤية أكثر مرونة وديناميكية للمجتمع، حيث يكون الأفراد على علاقة مستمرة مع الآخر الذي يحولهم ويتنازع معهم.
يتحدى هذا المنظور مفاهيم السيادة والانتماء، ما يمهد الطريق لمفهوم أكثر انفتاحًا وشمولاً للحياة المشتركة.
لهذا يعد مفهوم “الجماعة المضمرة” عملا معقدا وغنيا يفكك المفاهيم التقليدية للجماعات، ويقدم انعكاسًا عميقًا على عدم الاكتمال والخارجية.
من خلال تسليط الضوء على فكرة الكسل واستكشاف ديناميكيات جماعة الأحبة، يدعونا بلانشو إلى إعادة التفكير في أسس التواصل الاجتماعي والسياسة. حيث توفر رؤيته للجماعة والمجتمع والفرد مساحة للعرض والتحول المستمر لوجهات نظر جديدة لفهم التحديات المعاصرة للعيش معًا.
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي
نقلا عن العرب اللندنية