هشام النجار
الجماعات الارهابية في جنوب آسيا تستفيد من تضارب الأجندات الدولية لتعزيز مكاسبها وتنشيط أذرعها. ويرى محللون أن المصالح الجيوسياسية للأطراف المتنافسة في المنطقة تزيد مخاطر الارهاب بدل تطويقه.
وعقدت الولايات المتحدة وروسيا تحالفات مع أطراف فاعلة في جنوب آسيا رأت كلاهما أنها لا غنى عنها للتصدي لخطر الإرهاب، بينما كرست الخطوات من الجانبين الابتعاد عن رؤى دولية موحدة، وهو ما استفادت منه جماعات إرهابية رئيسية بنسب متفاوتة.
وفي حين اقتربت موسكو من صياغة تعاون مشترك مع طالبان الأفغانية تُزال بمقتضاه الحركة من قائمة التنظيمات الإرهابية في روسيا، وقوبل ذلك باستجابة من طالبان التي أعلنت مؤخرًا استعدادها للتعاون الأمني مع روسيا، ودشنت واشنطن تعاونًا مع باكستان في مجال مكافحة الإرهاب حيث ركز الحوار الثنائي الذي استضافته الولايات المتحدة مايو الماضي على معالجة التحديات الأكثر إلحاحًا للأمن الإقليمي والعالمي.
وبموجب التعاون الأميركي – الباكستاني يتوسع التعاون في بناء القدرات ومجال مكافحة الإرهاب، بما في ذلك تبادل الخبرات الفنية والمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية وتوفير البنية التحتية لأمن الحدود، ويشمل تدريب أكثر من ثلاثمئة من رجال الشرطة الباكستانيين وعناصر الخطوط الأمامية وتعزيز المشاركات متعددة الأطراف، كما هو الحال في الأمم المتحدة والمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب.
ووافق مجلس الشيوخ الأميركي من قبل على توفير 200 مليون دولار مخصصة بموجب برنامج التمويل العسكري الأجنبي لدعم قدرات مكافحة الإرهاب والتمرد المسلح في باكستان.
ولا تحل مقاربات واشنطن وموسكو الأحادية معضلة الإرهاب في جنوب ووسط آسيا بل تزيدها تعقيدًا، فالتعاون بين واشنطن وإسلام أباد لكبح نشاط حركة طالبان باكستان يتناقض مع تعاون مُواز بين روسيا وطالبان الأفغانية التي تُعد الداعم الرئيسي لطالبان باكستان.
مقاربات واشنطن وموسكو الأحادية معضلة لا تحل الإرهاب في جنوب ووسط آسيا بل تزيدها تعقيدًا
وفي الوقت الذي ترى فيه موسكو أن تمكين طالبان الأفغانية من إحكام سيطرتها على السلطة والمساعدة في إنجاح مشروعها في الحكم عبر منحها المشروعية الدولية والتعاون الأمني والاقتصادي الإقليمي هو السبيل لتقويض الفرع الإقليمي النشط لتنظيم الدولة المعروف باسم داعش خراسان، ترى واشنطن العكس، حيث يصب منح المشروعية والدعم لسلطة طالبان في مصلحة التنظيمات الإرهابية الأجنبية والعابرة للحدود.
ودلت الأحداث في اتجاهات مختلفة على استفادة الجماعات الإرهابية الرئيسية النشطة سواء ذات الأهداف المحلية (طالبان باكستان) أو العالمية (داعش خراسان) من التحالفات المتضاربة التي عكست ارتباكًا دوليًا على ضوء نتائج الحرب في أوكرانيا.
وزادت وتيرة عمليات حركة طالبان باكستان ضد الجيش والأجهزة الأمنية الباكستانية، فيما وصل تهديد داعش خراسان من وسط آسيا إلى العمق الروسي عقب الهجوم الأكثر خطورة الذي شن في مارس الماضي واستهدف قاعة مسرح كوروكوس سيتي هول بالقرب من موسكو.
وخلفت هجمات حركة طالبان باكستان في صفوف الجيش والشرطة الباكستانييْن في مايو الماضي 90 قتيلًا و130 جريحًا، ونُفذت معظم الهجمات عن طريق الاستهداف المباشر والقنص إلى جانب تكتيك حرب العصابات عبر الاستعانة بأسلحة الليزر التي تتناسب مع طبيعة الهجمات الإرهابية التي بلغت خلال شهر واحد 98 هجومًا.
ولم يقتصر تهديد داعش خراسان العابر للحدود على الداخل الروسي، حيث ذكرت شبكة (إن بي سي نيوز) في 11 يونيو الجاري اعتقال فريق عمل مكافحة الإرهاب التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي ثمانية أشخاص طاجيكيين على صلة بداعش، وأن الأجهزة الأميركية على علم بوجود تهديد إرهابي محتمل ينبع من أوربا الوسطى.
فيمَا تسعى موسكو لرفع الحركة من قوائم الإرهاب، ترى واشنطن أن الحركة توفر مساحات متزايدة للجماعات الإرهابية مقارنة بالفترة التي سبقت الانسحاب الأميركي
وبعد أن كانت موسكو تعتبر واشنطن بداية القرن الحالي شريكًا، تغير الحال وباتت واشنطن شريكًا للإرهاب بالنسبة لروسيا أو على الأقل داعمًا غير مباشر له (وفق قناعات في موسكو) بعد عودة طالبان إلى السلطة والتغييرات التي طرأت على العلاقات الأميركية – الروسية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وتنامي خطر تنظيم داعش الذي استفاد مقاتلوه من ذوي الأصول الروسية ومن آسيا الوسطى من الحرب الأوكرانية في تجميع المقاتلين وتدريبهم، وتاليًا تهديدهم بشكل جدي لروسيا ومصالحها.
وتتناقض الرؤى والمصالح بشأن العلاقة مع طالبان بين روسيا والولايات المتحدة، وفيمَا تسعى موسكو لرفع الحركة من قوائم الإرهاب وتدشن شراكة معها لتخفيف العزلة والعقوبات الغربية المفروضة عليها، ترى واشنطن أن الحركة توفر مساحات متزايدة للجماعات الإرهابية مقارنة بالفترة التي سبقت الانسحاب الأميركي.
وتربط التقارير الأمنية الرسمية والدراسات البحثية الأميركية بين تشكيل داعش خراسان تهديدًا متزايدًا يمتد إلى ما هو أبعد من أفغانستان ومحيطها الإقليمي، وعودة حركة طالبان باكستان كتهديد أمني إقليمي، فضلًا عن النفوذ المتزايد لتنظيم القاعدة وفروعه في جنوب آسيا، وتلقي الدعم والاستفادة من الغطاء الأمني من قادة حركة طالبان.
وتكشف الشراكة الممتدة بين واشنطن وإسلام أباد لمكافحة طالبان فرع باكستان (تحريك باكستان) عن تناقض مشابه يؤدي بدوره إلى نتائج عكسية، ليس فقط لحرص طالبان باكستان على إعاقتها كونها تهدد قياداتها داخل أفغانستان، إنما أيضًا لاهتمام إسلام أباد فقط بالحصول على الدعم الأميركي لإضعاف الحركة من دون أن تكون مستعدة لتصبح شريكًا كاملًا ونقطة انطلاق لعمليات مكافحة الإرهاب الأميركية في المنطقة.
مكافحة الإرهاب لم تعد توفر أرضية مشتركة بين روسيا والغرب لمواجهة التهديد ذاته
وتؤدي شراكة شاملة بين باكستان والولايات المتحدة في هذا الاتجاه إلى خلق المزيد من التعقيدات الأمنية لإسلام أباد التي تدرك جيدًا أن الاستقرار الحقيقي وإبقاء الأوضاع الأمنية تحت السيطرة مهمان. وقد تنامت الهجمات الإرهابية من حركة مدعومة من حكام أفغانستان الجدد، ما جعل الباب مواربًا مع طالبان الأفغانية وعدم إيصال العلاقات معها إلى نقطة اللاعودة.
ويقود تطوير التعاون الأمني بين واشنطن وإسلام أباد إلى المزيد من التدهور بعد أن أعادت حركة طالبان باكستان ترتيب صفوفها وأصبحت في وضع أقوى مما كانت عليه في السابق نتيجة استغلال اتفاق السلام القصير عام 2021 والهدنة في العام 2022 وسيطرة طالبان الأفغانية على الحكم، وهي التي تخشى ممارسة المزيد من الضغوط على فرعها الباكستاني حتى لا تتسبب في تصاعد حدة الانقسامات وانتقال المزيد من عناصره إلى صفوف غريمها داعش خراسان.
ولا تخشى طالبان الأفغانية من انشقاقات في صفوف فرعها الباكستاني فقط (تحريك باكستان) إنما أيضًا من انشقاقات داخلها، حيث سبق وتسببت الخلافات بشأن التحالفات مع روسيا أو باكستان أو الصين أو غيرها في انقسامات كبيرة بين المتشددين والبراغماتيين داخل الحركة، ما أدى إلى انتقال مماثل لعدد من قياداتها العليا والوسيطة وشريحة من مقاتليها إلى صفوف داعش خراسان.
وبدت حركة طالبان الأفغانية في مختلف المراحل غير مستعدة للتخلي أولًا عن علاقتها الوطيدة بـ(تحريك طالبان) وثانيًا بالقاعدة وهما من يبايعان زعيمها الأعلى هبة الله أخوندزاده ولا يعترفان معها بالحدود الباكستانية – الأفغانية التي قسمت القبائل البشتونية على جانبي الحدود، ويدعمانها في صراعها ضد القوى المعارضة لحكمها.
وقصد المسؤولون في روسيا خلق واقع إقليمي لا يتسق مع الترتيبات الأميركية ويلبي بعض الاحتياجات الأمنية المحدودة لموسكو، بالنظر إلى أن استخبارات طالبان التي يسيطر عليها وزير الداخلية والقيادي النافذ في الحركة سراج الدين حقاني، هي من تدير الجماعات المسلحة الأجنبية بمن فيها داعش خراسان وفقًا لطبيعة علاقات طالبان مع بلدهم الأصلي.
وتتمركز الجماعات المسلحة الطاجيكية وعناصر وناشطو ولاية داعش خراسان بالقرب من حدود أفغانستان من طاجيكستان، مزودة بأحدث الأسلحة التي خلفتها القوات الأميركية قبل انسحابها، على خلفية العلاقات المضطربة بين حكومة طالبان والحكومة الطاجيكية، لا وفقًا لإمكانيات وقدرات وجهود فرع داعش المنفردة.
وجاء التحضير لاعتراف دبلوماسي روسي بحكومة طالبان والاقتراب من إرساء تعاون أمني شامل بين الطرفين ضمن جهود متعلقة بمسارين، الأول كبح تهديد داعش خراسان لروسيا عبر علاقات مباشرة مع منابع ومراكز حركته داخل العمق الأفغاني، والثاني إعادة هيكلة التحالفات والشراكات المتعلقة بمكافحة الإرهاب بعد وصول تنظيم داعش إلى حدود روسيا وتوجيهه ضربات في العمق الروسي.
ولن تحقق التحالفات والشراكات الأمنية المتناقضة لكل من الولايات المتحدة وروسيا مع باكستان أو طالبان الأفغانية اختراقًا نوعيًا وفارقًا للأوضاع القائمة، بل من المرجح أن تكرس نفوذ الجماعات الإرهابية، حيث يتخلى الروس والأميركان طوعًا عن شراكات دولية تعزز الثقة وتدعم التعاون وتبادل المعلومات الإستخباراتية، لصالح شراكات مع أطراف لاتزال تستضيف تنظيمات إرهابية مسلحة وتتعاون معها.
ومع تحول الإرهاب في نظر الروس إلى أداة بيد الغرب والولايات المتحدة ضمن أدوات الصراع القائم بين المحورين الشرقي والغربي لم تعد مكافحة الإرهاب توفر أرضية مشتركة بين روسيا والغرب لمواجهة التهديد ذاته، وما دام الطرفان يعتقدان أن كليهما خصمًا رئيسيًا للآخر؛ فإن مختلف التنظيمات الإرهابية ستنعم بمراحل انتعاش وتمدد رغم نشوء شراكات محدودة قد تثبط بعض الهجمات في اتجاه معين لكن تظل معها التنظيمات الرئيسية تعمل وفي حالة نمو وتطور.
هشام النجار
كاتب مصري
المصدر : العرب اللندنية