جهاد حسين
كاتب سوداني
لا شك أنّ صورة الدين وأبجدياته تأخذ صورة العصر الذي تتفاعل معه وتتنزل فيه؛ فمتى ما كانت اللحظة مشرقة ارتفعت معها التصورات الدينية السائدة، ومتى ما انحدرت تراجع معها، وتكون هذه اللحظة نفسها نتاجاً لعوامل مركبة؛ من ضمنها طريقة التعاطي والجدل مع التصورات الدينية، التي تُنتج واقعاً يعيد إنتاجها بهذا الشكل.
إنّ من مؤشرات الانحدار التي انعكست من وإلى التصورات الدينية والحالة الدينية في العالم الإسلامي هي تنامي ظاهرة الكراهية والتحريض ومحاربة الاختلاف؛ التي يمكن رصدها من خلال موجة التحشيد المتبادلة بين الأنساق والجماعات التي تجلّت في الآونة الأخيرة بصورةٍ صارخة في مواقع التواصل والمقالات والندوات، إذ غدا التحريض الذي قوامه التكفير ونتيجته التصفيات الجسدية والنفسية والعقلية والسياسية؛ من الأكثر تداولاً على المنصات الرقمية منها والواقعية، وأصبح هذا النهج من العوامل والأسلحة التي تلوّح بها الكثير من الجماعات في وجه المخالفين، وتكون في معظمها لأجل مكاسب سياسية؛ من خلال حشد العاطفة العقدية للجماهير لتكون النتيجة النهائية هي الاحتقان والعنف المتبادل بين فئات المجتمع؛ ليتحول من مجتمع مدني متعدد ومتسامح إلى مجتمع تسوده الكراهية.
إنّ الصراع على الحكم في العالم العربي، خصوصاً بعد “الربيع العربي”، جعل التحريض سيد المشهد؛ إذ أصبح الصراع على الدولة الحديثة بطبيعة الحال صراعاً بغير أدواتها؛ إذ اعتبرت الكثير من الجماعات، خصوصاً من حملة الأيديولوجيا المتشددة، أنّ الوصول إلى سدّة الحكم ومن ثم الحفاظ عليه هو الحل السحري لمشكلات العالم العربي الذي اعتادت شعوبه القمع والعنف المشرعن بواسطة الديمقراطيات الصورية.
وقد أثبت التاريخ، كما يقول كانط، أنّ عصابة من الشياطين يمكنها أن تنشئ دولة إذا ما امتلكت القدر الكافي من الذكاء، وفي هذه الحالة يصبح الوصول إلى الحكم وإدارة الدولة هو الشغل الشاغل في ذاته بغض الطرف عن دور الدولة في النهوض بالمجتمعات، وقد لاحظنا ذلك من خلال التجربة السودانية؛ إذ اجتهدت الدولة سياسياً واقتصادياً في الحفاظ على نفسها والمجموعة التي تديرها أكثر من اجتهادها في خلق دولة حديثة بالمعنى الكامل للمصطلح والذي بشّرت به قبل ربع قرن من الزمان؛ إذ انصرفت عن المجتمع ونهضته بمحاولة معالجة تشوهاتها.
إنّ أحد الصراعات الداخلية بين مكونات الكيان الإسلامي الذي يدير السودان؛ قادته إلى الدخول في موجة تحريض متبادل وتُهم بالمروق عن الدين؛ إذ أصبح التيار المحافظ يحرّض ضد التيارات الإصلاحية والمتصالحة جزئياً مع منجزات العالم الحديث؛ خصوصاً تلك التي تهتم بسؤال التنمية بعيداً عن الأيديولوجيا؛ بإظهارها كقائد لموجة الإلحاد والمروق عن الدين. ويمكن رصد ذلك منذ بداية المفاصلة المشهورة التي انقسم على إثرها الإسلاميون إلى حزبين؛ إذ بين ليلةٍ وضحاها أصبح الشيخ المؤسس لهذا التيار الإسلامي في شكله الجديد، حسن الترابي، “زنديقاً ومارقاً”؛ وذلك حين تصالح الحزب الذي قاد المرحلة الأخيرة مع التيارات المحافظة لضرب التيار التجديدي سياسياً وجماهيرياً، وذات الأمر يحدث في هذه الأيام من تحريضٍ ديني، ويبدو أنّ التيار الإسلامي في السودان يمارس ضد بعضه البعض ذات الخطاب الإقصائي الذي مارسه من قبل ضد معارضيه.
إن الدولة، للأسف، في عرفنا السائد؛ ليست إلا أداةً للسيطرة والهندسة الاجتماعية ونشر الأيديولوجيات والتصورات الخاصة، لتصبح الشعوب فئران تجارب للأيديولوجيات المختلفة، وهنا تتراجع الدولة الحديثة عن دورها في خلق عقد اجتماعي قوامه التعدد والتنافس السلمي عليها، والذي يقوم على ما تقدمه للمجتمع من رفاه اقتصادي وتطور علمي وثقافي وتربوي.
إن خطاب الكراهية تتم شرعنته في مجتمعاتنا من خلال استدعاء إرثٍ كبيرٍ بعضه ديني وبعضه قبلي، الأمر الذي يجعله خطاباً مستقراً في نفوس هذه المجتمعات وهذه الشعوب، وهنا لا بد من فعل تنويريٍ طويل النفس والبال؛ يلفظ لوثة الكراهية من التاريخ لتخرج مباشرةً من عقول وقلوب هذه المجتمعات.
نقلاً عن حفريات