إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
سأقدّم في هذه المساحة ما تعلمته من نصر حامد أبو زيد.
لا يفضي التأويل العلمي إلى استنطاق النصوص الدينية بمعانٍ ودلالات محددة مسبقاً، وتفرض على النصوص من خارجها، وتهدر مستويات السياق المختلفة، والتي يستحيل فهم دلالة النصوص بمعزل عنها، والبديل تعليق النصوص في الهواء، بحيث تقبل كل ما يمكن أن تستنطق به، فتظل هيمنة مبدأ “شمولية النص” تتراكم التأويلات مخفية وجه الواقع ومزيفة الوعي، وهل بعد ذلك كله إلا الضياع.
يُعدّ الكشف عن مفهوم النص كشفاً عن آليات إنتاج المعرفة، ويعني “النص” الظهور، وفي الاصطلاح: التعيين، وصار مصطلح النص يعني ذلك الجزء الواضح الدلالة وضوحاً لايختلف عليه اثنان من أهل اللغة، ويعرّفه الشافعي بأنّه “المستغنى فيه بالتنزيل عن التأويل”، ويختلف عن النص “المتشابه” و”المحتمل”.
وهنا فإنّ الخطاب الديني المعاصر حين يتمسك بالمبدأ الفقهي “لا اجتهاد فيما فيه نص”، وحين يعيد إعلانه وطرحه دائماً في وجه أيّ محاولة للاجتهاد الحقيقي، إنّما يعتمد في الواقع على عملية مخادعة دلالية مغرضة، تتمثل في استخدام كلمة “نص” للدلالة على كل النصوص الدينية (القرآن الكريم والأحاديث النبوية)، بصرف النظر عن الوضوح والغموض، هذا الخلط بين دلالة النص الأصلية والدلالة المعاصرة التي تسبق إلى وعي المخاطب العادي، فيترسخ في الذهن تحريم الاجتهاد، وتدرك بذلك إلى أيّ حد يريد الخطاب الديني أن يحكم الحصار حول النصوص، لينفرد “الكهنوت” بسلطة التأويل والتفسير.
*إنّ ربط مركبة اللغة والمجاز بقاطرة الدين هو المسؤول عن حالة الارتباك والتشوش في فهم الظاهرة، ولكنّها مسؤولية جزئية*
يعني الانتقال من تحليل “النص” إلى تحليل دال “التأويل” الانتقال من مجال اللغة إلى مجال الثقافة العربية قبل الإسلام، وقد ورد دال “التأويل” في القرآن (17) مرة، ولكنّ دال “النص” غاب غياباً كاملاً، والتأويل يفهم لتحليل الرؤى والأحلام والأحاديث والطعام والأفعال والكتاب. في تفسير الطبري: التأويل أصله من آل الشيء إلى كذا، إذا صار إليه ورجع، يؤول أولاً، وأولته أنا صيرته إليه، وتأويل الأفعال في قصة موسى والعبد الصالح هو الكشف عن دلالتها التي كانت خفية بالنسبة إلى موسى، وتأويل الطعام في سورة/ قصة يوسف الكشف عن المصدر، وهو مختلف عن تأويل الأحلام، وتأويل المتشابهات من آيات القرآن.
المهم في سياقنا الراهن أنّ التأويل أداة معرفية، يمكن استخدامها لاستقراء الدلالات في موضوعات متعددة، الرؤى والأحلام، والأفعال الإنسانية، والأشياء، والنصوص اللغوية، وهذا يؤكد الافتراض بأنّ للثقافة العربية مفهوماً للنص بالمعنى السيموطيقي، بل يمكن القول إنّ تلك الثقافة قد طورت مع الإسلام مفهوماً للنص يشمل الكون كله من أعلى مرتبة إلى أدناها.
أمّا النص في تعريفه المعاصر، فهو سلسلة من العلامات المنتظمة في نسق من العلاقات تنتج معنى كليّاً يحمل رسالة.
يمكن حلّ إشكالية الفكر الديني الإسلامي، والفكر الديني بعامة، في مقولة ابن عربي في كتابه الفتوحات المكيّة: “الأمر محصور بين ربٍّ وعبد، فللربّ طريق، وللعبد طريق، فالعبد طريق الرب، فإليه غايته، والرب طريق العبد فإليه غايته.
يقول جهم بن صفوان (ت 128هـ): “لا فضل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنّه هو الفاعل، وأنّ الناس بما تنسب إليه أفعالهم على المجاز، إلا أنّه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختياراً له منفرداً بذلك، كما خلق له طولاً كان به طويلاً، ولوناً كان به متلوناً”.
هذا التصور “ينفي عن العالم الذي نعيش به كل صفات الفعالية والحركة، على المستويين الطبيعي والإنساني على السواء”، “تصور يهدر قوانين الطبيعة، وما يترتب على ذلك من عزل الإنسان عن إمكانية فهمها، واستثمارها لصالحه فقط، فالأخطر من ذلك ما يؤدي إليه من نفي للإنسان ولعالمه نفياً شبه تام يحصره داخل دائرة “المجاز”.
ردّ عبد القاهر الجرجاني دلالة الفعل إلى دلالة الوصف. وفي ذلك يجب التفرقة بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي بهدف إسناد الأفعال لغير الله. واعتماد مقولة “التأويل” الوجه الآخر لمقولة “المجاز” أداة تصنيفية للأنماط البلاغية ولتفريعاتها الدقيقة، وقد ترتب على ذلك أن ارتبط المجاز بالوهم والتخييل والتقدير، في حين تحددت وظيفة التأويل في ردة المجاز إلى الحقيقة والمعقول.
لقد تحول الصراع الديني والديني السياسي إلى صراع على اللغة ومن يمتلكها، فاللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن المعرفة، بل هي في الأساس أداة التعرف الوحيدة على العالم والذات، من ثم هي أهم أدوات الإنسان في امتلاك هذا العالم والتعامل معه، فإذا لم تكن اللغة ملكاً للإنسان ومحصلة لإبداعه الاجتماعي، فلا مجال لأيّ حديث عن إدراكه للعالم أو عن فهمه له، إذ يتحول الإنسان ذاته إلى مجرد “ظرف” تلقى إليه المعرفة من مصدر خارجي فيحتويها.
هل هناك علاقة بين هذا المفهوم الذي صاغته جماعات فكرية تمثل بالضرورة قوى اجتماعية ذات مصالح محددة، وبين الدلالة اللغوية الأصيلة لكلمة “عقل” في اللغة العربية؟ إنّ الدلالة التي اعتمد عليها كلّ من يشككون في قدرة “العقل” على إنتاج المعرفة، فقالوا إنّه سمّي كذلك لأنه”يمسك” المعرفة التي تأتيه من الخارج.
وسطية الأشاعرة لم يكن لها أن تصمد طويلاً على وسطيتها، فمقولة “الكسب” توسط بين الجبرية والاعتزال تنتهي في التحليل الأخير إلى الانحياز للجبرية وتكريسها، خاصة حين يتحرك الواقع الاجتماعي الاقتصادي نحو مزيد من القهر لحرية الإنسان ومحاصرة جسده وروحه، وإذا كان للوسطية، أيّ وسطية فكرية، أن تواصل الحياة مبقية على وسطيتها، فإنّ حياتها مشروطة بمناخ من الحرية الاجتماعية والسياسية والفكرية، مناخ يسمح بممارسة الصراع الفكري الحر، لكنّها بحكم تلفيقيتها تنحاز إلى الطرف الذي يحرك الواقع في اتجاهه، وذلك لأنّ تلفيقيتها ليست تلفيقاً على مستوى الفكر فقط، لكنّها تتجاوز التلفيقية إلى التبريرية بحكم بنيتها التلفيقية ذاتها.
صار مشروع الإمام الغزالي هو السائد والمهيمن في تاريخ الفكر الديني، حتى توحد إلى حدّ التطابق بالإسلام في الوعي الديني الوسيط والحديث والمعاصر.
وبعده بقرن من الزمان جاء ابن عربي لكي يصوغ نظريته المزدوجة لطبيعة اللغة ودلالتها.
لقد حاول المعتزلة والفلاسفة العقليون أن يقودوا مركبة المجاز في اتجاه تثبيت حقيقة العلم والإنسان، ولكنّ الذين حاولوا قيادتها في الاتجاه الآخر كتبت لهم الغلبة لأسباب تاريخية بالمعنى السوسيولوجي للتاريخ، وليس لهذه الغلبة علاقة بالسلامة الفكرية الاعتقادية كما يحاول الأتباع المعاصرون؛ أتباع الأشاعرة عامة والغزالي خاصة أن يؤكدوا، فللطريقين سندهما الاعتقادي في الطبيعة المزدوحة للحقيقة الدينية.
*لغة النص، وإن كانت تستمد مرجعيتها من اللغة الأم (اللسان)، فإنّ لغة ذات نظام خاص ينبغي على المهتمين بالدراسات القرآنية العكوف على دراستها من أجل اكتشاف ملامح تلك الخصوصية، وذلك بالطبع دون إهمال علاقتها بالأصل الذي تولدت عنه*
إنّ ربط مركبة اللغة والمجاز بقاطرة الدين هو المسؤول عن حالة الارتباك والتشوش في فهم الظاهرة، ولكنّها مسؤولية جزئية، فالمسؤولية الكبرى تقع على عاتق ربط مركبة الحياة كلها بكل مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية والأخلاقية بعجلة الدين والعقيدة.
ومن الضروري الإشارة إلى أنّ هذا الربط ليس جزءاً من العقيدة ذاتها، بل هو ربط حدث في لحظة تاريخية محددة من جانب قوى اجتماعية بعينها في معركة الصراع الاجتماعي والفكري في تاريخنا.
لقد كانت الأجيال الأولى من المسلمين تدرك أنّ مجال الوحي والعقيدة مستقل عن مجال الخبرة والفعالية الإنسانية والطبيعية، ولم يتداخل المجالان إلا في سياق الصراع الذي أصل الإمام الشافعي من خلاله “هيمنة” مجال الدين والعقيدة على مجالات الحياة كلها، وكان هذا التأصيل بمثابة المهاد الذي أقام عليه الأشاعرة نسقهم الفكري.
صار النص القرآني في الوعي الإسلامي نصاً ثابتاً، جمدته الروح والتفسيرات التي تراكمت عليه منذ القرن الأول الهجري حتى نهاية القرن الخامس الهجري تقريباً، وظلت ملاصقة له ومحيطة به منذ ذلك التاريخ حتى الآن.
لغة النص، وإن كانت تستمد مرجعيتها من اللغة الأم (اللسان)، فإنّ لغة ذات نظام خاص ينبغي على المهتمين بالدراسات القرآنية العكوف على دراستها من أجل اكتشاف ملامح تلك الخصوصية، وذلك بالطبع دون إهمال علاقتها بالأصل الذي تولدت عنه.
النص القرآني، وإن كان يعتمد مرجعية اللغة العربية، فإنّه يتجاوزها مخضعاً معطياتها لطبيعته بوصفه نصاً دينياً.
إنّ العالم أو العوالم التي تشير إليها اللغة من خلال نظامها الرمزي هي العالم أو العوالم المستوعبة في التصورات والمفاهيم الذهنية لأصحاب تلك اللغة والمتعاملين بها. لكنّ النص الديني يسعى لإدماج هذه التصورات واستيعابها داخل نسق من التصورات والمفاهيم لا يتطابق مع ما تدل عليه اللغة التي يستند إليها، لذلك لا بدّ من إخضاع تلك اللغة لآليات الاستبعاد ـ غياب الدال “عالم” ـ والإقصاء ـ وضع الدال “عالمين” في حالة الإضافة غالباً دون حالات الرفع التي تعني “الفاعلين” أو “الابتداء”. وعن طريق آليتي الاستبعاد والإقصاء يتم استيعاب الدلالة داخل نسق يضع الدال دائماً في حالتي النصب أو الجر، وذلك بعد أن ينقله من مجال الجزئي إلى مجال الكلي.
هكذا صار “العالمين” في مقام المفعولية ـ أي في مقام الخضوع، وتحت السيطرة والهيمنة الدائمين.
مواضيع ذات صلة:
– لماذا منع “الإخوان” نصر حامد أبو زيد من دخول ماليزيا؟
– مؤلفات نصر حامد أبو زيد للقراء مجاناً على موقع “هنداوي كتب”
– نصر حامد أبو زيد كما عرفته
نقلاً عن حفريات