عادل نعمان
يقول السيد المسيح «إنجيل مرقس» عن معلمى وكتبة الشريعة: (إياكم ومعلمى الشريعة، يحبون المشى بالثياب الطويلة، والتحيات فى الساحات، ومكان الصدارة فى المجامع ومقاعد الشرف والولائم، يأكلون بيوت الأرامل، وهم يظهرون أنهم يطيلون الصلاة، هؤلاء ينالهم أشد العقاب).. وفى أيامه الأخيرة يدخل المسيح أورشليم ويدخل إلى الهيكل (ودخل يسوع الهيكل وطرد جميع الذين يبيعون ويشترون فيه، وقال لهم: جاء فى الكتاب بيتى بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) «إنجيل متى»، هؤلاء هم تجار الدين، يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، فى كل العصور والأديان.
والقرآن الكريم يؤكد: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).
والتجارة بالدين زادت وفاضت وطفحت خاصة على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعى، وحشروا وأقحموا دون وجه حق آيات الله فى الإعلان عن المنتجات أو التبرعات أو المساعدات خيرها وشرها، وزاد وغطى على هذه القنوات التى تكشف عن المستور وتعيد الغائب وتقرب الحبيب وتفك االسحر والأعمال وتشفى من الأوجاع والآلام وتجلب الرزق والنجاة من الحسد، وكذلك الطب النبوى والتداوى بالقرآن والرقية الشرعية، وهذه التجارة لا تنتشر إلا فى المجتمعات التى تتغلب فيها الخرافات على العمل والعلم، وهذا فيلسوفنا الكبير ابن رشد يقول: «إن التجارة بالأديان هى التجارة الرابحة فى المجتمعات التى ينتشر فيها الجهل، وإذا أردت ان تتحكم فى جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف دينى»، ويقول ابن خلدون: «الفتن التى تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جدًا فى عصور التراجع الفكرى للمجتمعات».
ولست أبرئ أحدًا من هذا الترويج، فهذه الفضائيات- وهى أهم وأعظم السبل- تعمل بتصاريح من هذه الدول التى تبثها، وتكتشف الأجهزة الرقابية والأمنية فسادًا وسرقات واختلاسات، وأقارب يتقاضون الملايين مرتبات تحت غطاء هذه الجمعيات الخيرية أو مؤسسات هؤلاء الدعاة، وكأن الأمر لا يعنيها طالما أن هذا المال المهدر ليس مالها، وزاد وغطى أن هذه القنوات الخاصة على السوشيال ميديا لتجار الدين من المشايخ والذين يزعمون كذبًا أنهم بهذه القنوات يدافعون عن الدين وعن الإسلام ضد الأفكار العلمانية والتنويرية والمد الإلحادى العنيف، وهم فى حقيقة الأمر يحققون الملايين من وراء هذه التجارة، والتى وصل الأمر فيها إلى التزييف والتضليل بهدف مغازلة أفكار البسطاء والجهلاء الذين يدفعون من جيوبهم هذه الملايين لهؤلاء التجار وتحقيق «التريند» المطلوب، والغريب فى هذا الأمر أنهم يتباهون بهذه الشهادات الموثقة والتى يحصلون عليها من هذه المواقع «يوتيوب مثلًا»، وتحقيق أعلى نسبة مشاهدة، وهم الذين يصدعون رؤوسنا صباح مساء عن دول الكفر والكافرين ووسائل العلم الحديثة فى تضليل شباب الأمة وخداعهم وانحرافهم عن جادة الصواب، ومنها وسائل السوشيال ميديا التى يستخدمونها.. وينسى هؤلاء أن مشايخهم قد حرّموا شرب الماء فى إناء يُستخدم فى شرب الخمر، فمن باب أولى ألا يحمّلوا أفكارهم على قنوات التضليل هذه كما يزعمون!!.
ولا أتصور أننا ببعيد عن المؤامرة على الشباب من جهات قريبة أكثر منها بعيدة، على محورين متناقضين: الأول، انشغاله واستهلاكه فى أمور دينية بعيدة كل البعد عن الدين الحق وعن صلب العقيدة، فلم نسمع لداعية يومًا دعوة عن النظافة الخاصة، أو ربط العمل بالتدين، أو تحريم ظاهرة الغش الجماعى، أو كراهية ارتكاب المخالفات المرورية، أو الدعوة إلى الالتزام بالقانون، أو محاربة التحرش وتجريمه وتحريمه.. بل بالعكس لقد سمعنا ممن يطلق عليهم الدعاة الجدد أن منهم مَن أباح للشباب التحرش بغير المحجبات، ومنهم من اعتبر أن سفور المرأة قد أسقط عنها رخصة الحماية، وأن تبرجها إلحاح منها فى عرض نفسها على الرجل، وهذه دعوة واضحة للشباب للتحرش بها.
والثانى، إغراقه فى التافه من الأمور بنماذج رديئة وأحداث ساقطة ورخيصة، بل وتكريم من يروج لهذا السقوط وهذا العبث، بل وإنتاج أفلام ذات أبعاد اجتماعية رديئة تحت دعاوى الفن الراقى، وهو أمر يدعونا للتأمل جيدًا والتفكير بأمانة لإنقاذ هذا الشباب حتى لا ينصرف عن العلم الجاد والعمل المخلص ويتفرغ للتافه من الأمور، سواء دينية أو فنية، وليس من طريق لسقوط أى دولة وشبابها سوى بانشغالهم عن الدنيا إلى الآخرة، وتغييب عقولهم عن الواقع الذى يعيشونه والانصراف إلى ثقافة الموت وكره الحياة الدنيا وانتظار الآخرة، وهذا هو التكليف الذى من أجله خُلق، أما كارثة الكوارث فهى انصرافهم عن تحصيل العلم الذى يصنع المستقبل وتقليد هذه النماذج الفنية الرديئة، والعمل للوصول إليها وليس لغيرها.
«الدولة المدنية هى الحل»
نقلاً عن “المصري اليوم”