مبارك حسني
ارتأى أوليفييه روا، الفيلسوف الفرنسي، والباحث في العلوم السياسية، والمختصّ بدراسة الوضعيات المتأزمة، أن يورد في مقدمة كتابه، حادثاً يبدو “عديم الأهمية”، يتعلق بقانون سنّته شركات طيران أميركية، يسمح للركّاب بمرافقة حيواناتهم الأليفة، لأنها تدعمهم عاطفياً، وترغب في التقليل من مخاوفهم أثناء التحليق في الجو.
يستغرب روا، كيف أن ما كان سيُجابه بالرفض، أو يُعتبر إخلالاً بالنظام العام قبل عشرين أو ثلاثين عاماً، صار معياراً وقاعدة، بل أصبح قانوناً ينبغي الرضوخ له.
يرى في الأمر، أحد تجليات الأزمة الثقافية العامة، نتيجة تغيّر الرهانات داخل المجتمعات، وتغيّر ما كان بديهياً ومشتركاً داخل ثقافة متّفق عليها. عبر تبنّي ثقافة أخرى، يمارسها الناس في كل بقاع الأرض دون استثناء.
الحادث المذكور يُظهر أعراض أمرين اثنين برأيه، الأول هو المكانة التي صار يتمتّع بها الحيوان في عالمنا المعاصر (في الغرب على الأقل)، مقابل مكانة ما هو إنساني وأصبح غير مركزي.
الثاني، الحساسية الزائدة التي أصبح يتمتّع بها كثيرون، تجاه ما يعتبرونه جرحاً للمشاعر وازدراءً لخياراتهم الحياتية والسلوكية، أو “اعتداءاً نفسياً”.
يتحدث الكاتب عن زوال الفروقات بين الإنسان والحيوان والآلة.
إذ تبرز اتجاهات ثقافية جديدة تثير أسئلة بشأن مكانة الإنسان في العالم، وترفض هيمنته على الطبيعة، واستغلال الحيوانات، ووتطوّر الذكاء الاصطناعي الذي قد يهدّد البشر.
يقول موضحاً: “إذا تعذّر علينا تحديد مكانة الإنسان بين الحيوان والملاك، وإذا فقدنا هذا المحور العمودي لصالح محور أفقي، أي مسطّح، بحيث يتم تقليل الفروقات الدقيقة إلى ما لا نهاية، فهذا يعني أن الإنسانية في أزمة”. (صفحة 10 من النسخة الصادرة عن دار لوسوي، 231 ص، باريس 2022).
توسيع المعايير
يلخّص المؤلف 4 أسباب رئيسة لتسطيح العالم وهي: النيوليبرالية المعولمة، إزالة الحدود بين الدول، تنامي النزعة الفردية، والتكنولوجيا الجديدة، وخصوصاً الإنترنت.
إنها أزمة ثقافية بالأساس، ولا يتعلق الأمر بحرب ثقافات أو صراع حضارات كما نظر إليها الأميركي صمويل هنتنجتون مثلاً، أو أزمة قيم متعارف عليها، يتّضح فيها الفارق بين الخير والشر.
تمّ اختزال الثقافة في معايير وقواعد ورموز. فغزت النقاش الفكري الحالي، المُستقطِب والمتناقض، وحوّرت الموضوعات والثيمات، كي تتناول الأمور التالية:
النزعة النسوية وأزمة الذكورة، العنصرية والتمييز، الجندر ضد الجنس البيولوجي، الهوية الضيقة ضدّ الكونية، مشكلات الهجرة المُهدّدة لتوازن عالمي مفترض، سلوكات الإقصاء، الرقابة والدعوة إلى تطهير الأعمال الفنية والأدبية العظيمة، من تفاصيل صارت تعدّ مخلّة أو عنصرية أو تمسّ بالمعتقدات.
هذه المعايير المختزلة والمعولمة، لا ينبغي التشكيك فيها بل الامتثال إليها.
“لقد صار نقد العلامات الخارجية نقداً للأشخاص”، وبالتالي صار المرء مطالباً بالتفكير ألف مرة قبل الحديث عن أشياء كثيرة.
يكتب روا: “الإنسان الذي يتمتّع بعقل ووعي خاص به، وبشخصية مظلمة ومضيئة، وبتناقضات شتى، لم يعد مرجعاً، بل سيتم الحكم عليه بناءً على أفعاله وكلماته المتسلسلة، المنفصلة عن السياق والمحدّدة وفق مقياس أخلاقي”.
الجديد برأي الكاتب، هو أن فرض المعايير الجديدة، لم ينشأ عقب حركات سياسية جارفة، تنوي محاربة الظلم والاستبداد والقديم المتكلس، المعيق للتقدّم والازدهار، أو نتيجة ثورات اجتماعية واقتصادية، تروم تحسين وضع الناس والأمم، كما كان يحدث في الماضي.
جاءت تلك المعايير إثر موجة الحريات الفردية، وحركات حقوق الإنسان، والتقدّم العلمي والتكنولوجي الهائل، فأدت بشكل متناقض وغير متوقّع، إلى الوضع الحالي المأزوم للثقافة على المستوى العالمي، وساهم بذلك بشكل لا إرادي تقريباً، المحافظون والتقدّميون على حدّ سواء.
التسطيح أو إلغاء الثقافة الرفيعة
بالنسبة للكاتب، يكمن سبب الأزمة في تحوّلات بدّلت العالم على أربع مستويات منذ عام 1960وهي:
“تحوّل القيم مع الثورات الشبابية في الستينيات من القرن الماضي، التي نادت بالحريات الفردية في مجال الحب والعلاقات بين الرجل والمرأة، وحرية التصرّف في الجسد (قنّنت مثلاً الحق في الاجهاض للمرأة في دول غربية عدّة) ؛ ثورة الأنترنت، العولمة المالية التي جاءت بها الليبرالية الجديدة، عولمة الفضاء وحركة انتقال البشر الواسعة، مع انتفاء الارتباط بأمكنة محددة”.
لكن السؤال يتعلق بماهية هذه الثقافة الجديدة المستندة على هذه المعايير والقواعد، وهل تشكّل مجرد انتقال نحو نموذج ثقافي آخر، مختلف عما هو تقليدي ومحافظ وسيادي وأبوي، نحو ما هو ليبرالي وافتراضي ورقمي وكوزموبوليتاني؟
الإنسان الأفقي
يجيب الكاتب: “الثقافة الجديدة لا تتّسم بالعمق ولا بالتجديد على مستوى المضامين والطروحات، فقد تمّ تسطيح المعرفة والتواصل والممارسات الحياتية المختلفة والمعتقدات والعلاقات الاجتماعية وسواها، فأعطتنا الإنسان الأفقي، الذي يستند إلى محتوى ثقافي مبتسر، متداول ومشترك بين الكل، مشاع عبر وسائل التواصل”.
من علامات ذلك مثلاً، انتشار “الجلوبيش”، وهو لغة سطحية وسيطة لا يتعدى قاموسها 1500 كلمة مأخوذة من الإنجليزية، يتم التواصل بها عالمياً، الأمر الذي يقف حاجزاً من دون استعمال اللغة الإنجليزية الحقيقية الثرية بموروثها الأدبي والعلمي.
كذلك ذيوع قراءة قصص الصور المتحركة “المانجا” اليابانية الشهيرة، التي لا تمكّن من يكتفي بمطالعتها، من اكتشاف الثقافة اليابانية خصيبة الخيال والإبداع. ثم هناك استعمال “الإيموجيات” للتعبير عن العواطف.
ناهيك على أن انتشار الإنترنت، الذي لا يجعلنا نقابل إلا الأشخاص الذين نتشابه معهم، أي الذين نستعمل وإياهم العالم الافتراضي نفسه، باللغة والتقنيات التواصلية نفسها، بعكس ما يحدث في الواقع الحي، حيث نلتقي أشخاصاً مختلفين عنا.
“هذه إحدى الأوجه الرئيسة لسطوة المعايير، المرادفة لعملية إلغاء ثقافة الثقافات، أي تذويب ما تحمله الثقافة الحقيقية والعالمة، بترويج الثقافات الفرعية، جرّاء العولمة، وهي تستقلّ عن الثقافة السائدة الحاضنة لها، فيتم اختزالها في رموز تواصلية منفصلة عن الثقافات الحقيقية”. (ص. 48).
“لقد تراجعت الثقافة الحقيقية والعالمة، بمعناها الأنثروبولوجي الخاص بمجتمع أو أمّة، وبمعناها التراكمي الإبداعي، وسادت الثقافات الفرعية التي ليست سوى ثقافة مجموعات، ثقافة مسطّحة، وهي تنتظم في كل مكان حول اهتمام واحد، فتنشره حتى يصير هو المعيار والقاعدة: مثلا ثقافة مشجّعي كرة القدم، ثقافة الهيب الهوب، المنتشرة في كل مدن العالم”.
التصريح بالهوية
هو تشخيص لما يطلق عليه “ثقافات بلا ثقافة”. ثقافات تُنمّي الانعزال الهوياتي بمختلف تجلياته في المجتمع الغربي، وتعاني من تبعاته وتأثيراته مجتمعات أخرى، ومنها مجتمعنا العربي الإسلامي، وتقضي على المشترك الثقافي “الضمني” و”البديهي” كقاسم مشترك، لإحلال سلطة مفروضة، على مستوى التواصل.
يقول روا: “عندما تختفي الضمنية المشتركة، يجب استبدالها بالصريح الذي يمكن أن يكون أي شيء، من طاووس على متن طائرة، إلى تمساح يتم اقتياده، كما شوهد في شوارع نيويورك. الطريقة الوحيدة لضمان وجود علامات الهوية هي إظهارها”.
لا يقدم أوليفييه روا، جواباً محدداً يسهل الاعتماد عليه، بل يصل في الفصل الثامن والأخير من الكتاب إلى أن هذه الأزمة، هي أزمة تمسّ المنحى الإنساني ككل.
ويسأل عن سبل توفير ثقافةٍ مقاومة أو مضادة، دون التمسك بنزعة حنينية للماضي، ثقافة لها عمق، وبإمكانها أن تتجاوز وتنتصر على إمبراطورية المعايير وسيادة الرموز.
يتم ذلك عبر توفير خيال مشترك، يتجاوز الفرد المحصّن بثقافة الأقلية، ليعانق الجماعة والثقافة الجامعة للأكثرية.
وهو ما يمكن تحقيقه بالابتعاد عن آثار العالم الافتراضي، واعتناق التعدّد المجتمعي واعتماد البعد الإنساني.
نقلاً عن “الشرق نيوز”