محمد الرميحي
سوف يبقى الإسلام الحركي في محيطنا العربي والشرق أوسطي ناشطاً، ويستمد نشاطه اكثر من الأزمات، يتعايش على اختلاط المفاهيم وضبابية التفسيرات، من اجل جلب المؤيّدين الى صفوفه وتعميق أفكار قريبة وعواطف إلى العامة من الناس، قد يأنسون لها. وأساس ذلك النشاط هو (المزايدة)، بكل أشكالها، حتى لو كانت على حساب أمن المجتمعات و استقرارها.
وفي أوقات يتزامن فيها شهر فضيل كرمضان، مع مأساة كبرى تجري لأهل غزة، فإنّ بيع تلك الأفكار يصبح سهلاً، وترويجها بين العامة يلقى ترحيباً رغم اعوجاجها الظاهر للعيان.
مثالان لديّ على ما تقدّم، أحدهما قديم، والآخر جديد، وهو المهمّ، حول محاولة تضليل الناس وحملهم على التفكير المعوج. اما الأول القديم، فكثير منا يتذكر 7 شباط (فبراير) 2012 والعيون والقلوب شاخصة وقتها إلى مصر، اكبر البلاد العربية وأقدمها في التطور. في وقتها وصل الى الحكم في مصر الإسلام الحركي (الإخواني)، وقد اكتسح ذلك الفصيل الانتخابات في ظل رفض ما سبق من ممارسات سياسية، وعُقدت جلسات مجلس الشعب التي تلت الانتخابات.
كان من بين الواصلين الى ذلك المجلس فريق من فئة الإسلام الحركي هو (السلفيون)، فكان أن وقف أحدهم، النائب محمود إسماعيل، والمناقشات بين أعضاء المجلس تُبث على الهواء، فرفع صوته بآذان الظهر في القاعة، من دون ان يهتم بأية قواعد منظّمة للجلسات.
خلال تلك الحادثة وقع رئيس المجلس الإخواني (سعد الكتاتني) المشهور بوجود بقعة داكنة وسط جبهته (دليل التقوى) في حرج، فقال لرافع الآذان (هناك مسجد يمكن أن تؤذن فيه)، ولكنه لم يستطع مقاطعته.
تلك صورة من صور المزايدة التي خلطت وتخلط بين السياسة وبين الدين، فتكاد تفسد الاثنين معاً حتى يومنا هذا.
قبل أقل من اسبوع نشر أحد التابعين للإسلام الحركي في الكويت فيديو قصيراً بلغة انكليزية (غير دقيقة) يخاطب جمهوراً من الناس، فيقول لهم (إنّ الشيعة هم فقط من يناصر حماس) وذكر الحوثيين، و”حزب الله” في لبنان والميليشيات في العراق.
أما السنّة، فلم يقوموا بالمناصرة، فربما كان ذلك الحديث موجّهاً لجمهور من الإخوة الشيعة، يرغب المتحدث في استمالة عواطفهم ودغدغة مشاعرهم.
تلك ليست محاولة لاختطاف جمهور آخر، ومزايدة فجّة، كما فعل محمود إسماعيل في 7 شباط (فبراير) 2012، ولكن أيضاً تضليل صريح، وكلاهما لا اكثر متصيّد سياسي يحاول اقتناص اللحظة لترويج سلعته الإنقلابية، فليس هناك عاقل لا يعرف أنّ التعاطف مع اهل غزة هو تعاطف أفقي، وليس هرمياً، كما ادّعى المتحدث، فيما يتجاهل عمداً كل الجهود السياسية والإغاثية التي يقوم بها كثيرون من العرب (بصرف النظر عن الانتماء الطائفي الضيّق)، من أجل نصرة دعم أهل غزة. فقذ ذهبت وفود من دول عربية (يصنّفها الأخ انّها سنّية) مصحوبة بالكثير من المعونات، وعدد من أطباء الإغاثة، لأنّ الموضوع أولاً انساني، وثانياً عربي يستحق كل جهد يُبذل.
لقد شجبت مجموعات إنسانية عدة، على مستوى العالم، ما يحدث في غزة، منهم مسيحيون في بلاد كثيرة، وأيضاً يهود وبوذيون، ومن كل الأديان والمذاهب تقريباً، وما يحدث هو سياسي بامتياز وليس طائفياً او دينياً كما قال ذلك المتصيّد للفرص.
وإلى جانب أنّ ما قاله ذلك الشخص، يؤسس للفتنة بين الطوائف الإسلامية في البلد الواحد، فعدد من مستمعيه قد يقنعهم ذلك الطرح المنحرف فيصدقونه، ما يعمّق شرخ المجتمعات التي تعاني الكثير من العلل، بسبب ذلك الاختطاف للمذاهب والأديان وتسخيرها للسياسة.
العجيب أنّ جسم الإسلام الحركي، لم يستنكر مثل تلك التصريحات الشاذة من المتشدّدين منه، ويبدو أنّ هذا هو الخط العام لمجاميع الإسلام الحركي، على قاعدة (كل ما يُضعف المجتمعات هو جائز لأنّ ذلك يسهّل القفز على السلطة)، وكما يبدو أنّ هناك (تعاضداً بين اهل التنظيم، ألا يقارع احدهم الأخير بالعلن) وإن كان على ضلال مبين، وخطأ يؤسس لفتنة بغيضة.
لم يقف أحد امام أطروحة ذلك المتشدّد من صفوف الإسلام الحركي، لا بالعلن ولا بالإشارة. ذلك أنّ تلك المجموعات تنتهز فرص الأزمات لزيادة الخلل في الأمن المجتمعي وزيادة شق الصف الوطني وبعث الوهن في هياكله، فينتقل بعضهم بسلاسة ومن دون تردّد بين (الدعوة للخلافة السنّية) التي تشدّد عليها أدبياتهم، والتي هي إحدى أسس دعوتهم المناقضة وغير القابلة بالمذاهب الإسلامية الأخرى، ينتقل الى (الخلافة الإمامية)، من دون كثير من الحرج أو حتى التفسير لجمهورهم، والذي تشكّل على قاعدة معرفية مضادة، بل معادية. إنّها السياسة، وهي اكثر أشكال السياسة فساداً الملتحفة بعباءة الدين.
اختطاف الإسلام لأسباب سياسية لم يغادر مسيرة العمل السياسي في فضائنا. وتاريخنا مشحون بأحداث مريرة لذلك الاختطاف، وما دامت هناك شرائح اجتماعية تتردّد في نقد ذلك الخلط المرضي بين السياسي والديني، فتلك الأصوات سوف تظلّ معنا، تدغدغ مشاعر العامة، وتزيّف وعيهم، والشريحة الأكبر التي لا تبين بوضوح ذلك الخلط المخل والتناقض الواضح في التسليع (اعتبار الدين سلعة سياسية) وخلط مقصود بين مفهوم الخير والشر، فسوف يظل مثل هؤلاء يلقون آذاناً صاغية لأفكارهم المدمّرة.
نقلاً عن “النهار العربي”