سامح إسماعيل
ليس أمراً سهلاً الحديث عن عنف جماعة “الإخوان المسلمين”، رغم وفرة ما هو موثق ضدهم، ويفضح ممارساتهم، بجانب شهادات عديدة، بعضها من عناصر وقيادات انشقت عن التنظيم. غير أن الصعوبة ربما تكون في مناورات الجماعة التي تقوم على محاولة صناعة أكثر من حديث تاريخي وسرديات للتخفي وراءها، وهي سرديات تلفيقية تقوم بدور مزدوج، حيث تخفف من وطأة ارتباطها بالعنف لجهة أنه كان رد فعل على عنف السلطة ضدها، مثلاً، أو تحميل طرف في الجماعة مسؤولية ذلك، وأن العنف كان مرحلة مؤقتة وعرضية وقد تم التخلي عنها.
الجماعة هنا تعمل على المناورة الساذجة، وتقول في كل مرة تمارس فيها العنف أنها المرة الأخيرة و”عفا الله عما سلف”.
وتعد مسألة صناعة سرديات متعددة للتاريخ، تاريخ الجماعة، حيلة متكررة للتشويش على الحقائق والتعمية عن الوقائع، وجعل إثباتها بكافة تفاصيلها وملابساتها عملية ليست فقط شاقة إنما تضع حواجز بحيث تكون واقعة العنف داخل “الإخوان” ليس لها التأثير المدوي المطلوب في المجال العام، وبعيدة عن أجهزتها الحيوية المتصلة بالناس.
بيد أن ما جرى في 30 حزيران/ يونيو عام 2013، كان بمثابة لحظة مغايرة تماماً أفسدت حيل الجماعة الإسلاموية، وأربكت حساباتهم وجعلت كل مناوراتهم تذهب سدى.
حيث إن التعاطي السياسي مع الجماعة وفي ظل النبذ المجتمعي والاحتجاجات الشعبية بحقها، الأمر الذي قابلته الجماعة بالعنف والسلاح، لا يدع مجالاً للشك في توجهها الأصيل للعنف وتشكل تنظيمات مسلحة عرفت بعد ذلك باسم “حسم” وإدارتها حتى للتنظيمات الراديكالية والتي بدأت تتحرك في سيناء بمسميات عديدة.
العنف كخيار استراتيجي للجماعة
ولا يختلف ما جرى في مصر عن ما حدث في تونس، وإن كان في مصر هو الأوضح والأكثر دقة، وهو صفحة ضمن سجل “الإخوان” الذي يوثق ميلهم المؤسسي ناحية العنف، وأنه بمثابة خيار استراتيجي وضمن بنيتهم الهيكلية التنظيمية والحركية إلى جانب أدبياتهم العقائدية.
ويعد اغتيال القياديين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في فترة حكم “الترويكا” والعشرية السوداء لـ”الإخوان” يفضح وجود التنظيم السري أو التنظيم الخاص لـ”الإخوان” في تونس، وهو التنظيم المعني بإدارة العنف والتدريب على السلاح والمقاومة العسكرية للأنظمة والحكومات وقد تشكل في فترة مبكرة من نشوء الجماعة بمصر وفي ثلاثينات القرن الماضي.
في لقاء تلفزيوني عرض مؤخراً قام القيادي الإخواني الهارب وهو الناطق بلسان الجماعة محمد منتصر إن تدشين ما عرف “اللجان النوعية”، وهي المسؤولة عن العنف ضد الدولة، ونفذت عمليات اغتيال وتفجير طاولت مؤسسات وأجهزة الدولة فضلاً عن شخصيات عامة وحكومية، بدأ قبل نحو ستة أشهر من خروج التظاهرات في 30 حزيران/ يونيو.
هذا الحديث الذي قاله القيادي الهارب لـ”الإخوان”، يفضح استعداد الجماعة للعنف لمواجهة التظاهرات والمعارضة المصرية المدنية التي كانت تتشكل ضد “حكم المرشد”.
بل يكشف عن خيارهم الاستراتيجي نحو العنف لمواجهة التظاهرات والاحتجاجات التي طالبت بإسقاطهم، الأمر الذي يعني انغلاقهم أو رفضهم لأي حوار مجتمعي والبحث عن فرص وبدائل سياسية للوضع المأزوم الذي وصله حكم الجماعة في مصر.
ارتبطت حركات العنف الذي تشكلت بعد سقوط الجماعة، ومنها “حسم” بجماعة “الإخوان”، وضلوع القيادي الإخواني محمد كمال في التأسيس والتمويل والإدارة مع آخرين، وهي الحركة التي نفذت عمليات مسلحة منذ عام 2014 في مصر، طاولت اغتيال النائب العام هشام بركات، وقد صنفتها الولايات المتحدة قبل سنوات ضمن المنظمات الإرهابية.
العنف في بنية الجماعة
عام 2018، أدرجت وزارة الخارجية الأميركية التنظيم مع تنظيمات مماثلة في مصر، منها “حسم” و”لواء الثورة”، وجمعيهم نشط واصطف مع “الإخوان” في مجال العنف والتحريض على المدنيين، على لائحة الإرهاب، وذكر وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، أن الإجراءات الأميركية الجديدة، تبتغي حرمان هذه الجماعات من الموارد التي تحتاجها، لجهة تخطيط وتنفيذ أنشطتها الإرهابية، حيث تتم محاصرتها مالياً، بعد إدراجها على الفور في اللائحة”.
حديث “الإخوان” عن العنف في ظل تعدد المصادر وتوفر المراجع الصحفية والتاريخية، بدا مرناً في القبول به وتمريره والإشارة إلى تورطهم فيه، لكن مع التلميح بأنه ليس في صلب دعوتهم إنما دفعوا إليه دفعاً واضطراراً، الأمر الذي يدخل إلى حيز أو مبدأ المظلومية التي يتم الترويج لها لكسب التعاطف. بحيث تكون حجة العنف هو الرد على ما يعتبرونه ملاحقات أمنية بحقهم أو استخدام العنف.
غير أن العودة إلى التاريخ وفي سجلات الجماعة ذاتها ومؤسسيها من حسن البنا إلى سيد قطب وزينب الغزالي مروراً بعلي عشماوي والهضيبي وآخرين، يؤكد أن العنف قائم في بنية الجماعة، ويتمترس داخله أعضاء التنظيم من الناحية العملية والنظرية.
ففي كتابه: “التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين” يقول القيادي الإخواني علي عشماوي: “كان الأستاذ البنا يعتبر أفراد النظام (يقصد التنظيم السري أو الخاص الذي كان ينفذ عمليات الاغتيال والتفجيرات) هم التعداد الحقيقي للإخوان المسلمين… أما باقي الأفراد، فهم ـ بدرجات متفاوتةـ حقل لاختيار أفراد النظام الذين يحظون باهتمامه الكامل، وأولويته المطلقة في الإعداد والتربية والمتابعة، وكان يريد الوصول بهم إلى عدد معين هو (12) ألفاً، وهو الرقم الذي لا يُقهر من قلة”.
مبدأ “أستاذية العالم”
ما يقوله عشماوي إنما يكشف عن كون التنظيم الخاص الذي عمد إلى تشكيله المرشد المؤسس حسن البنا، لم يكن مجرد تنظيم مؤقت أو لطبيعة تاريخية وسياسية عرضية، بل هو البناء الممتد الذي يتشكل عليه قوام “الإخوان” ومبدأهم في التمكين “أستاذية العالم”.
وهذا البناء الصلب الراديكالي القائم على العنف إنما يتحكم بدوره أو يشكل البنية التحتية للتنظيم بشكل خفي، والظاهر ينفذ إرادة السري غير المعلن، ورغم زعم قادة الجماعة أن التنظيم الخاص تم تفكيكه لكن استئناف العنف في مراحل وفترات عديدة، وظهوره إقليمياً في تونس، يؤكد خلاف ذلك.
ويتبدى مبدأ العنف الأصيل لدى “الإخوان” في مقال للمرشد المؤسس حسن البنا في “مجلة النذير”، جاء فيها: “وما كانت القوة إلا كالدواء المر الذي تحمل عليه الإنسانية العابثة المتهالكة حملاً ليرد جماحها ويكسر جبروتها وطغيانها، وهكذا نظرية السيف في الإسلام، فلم يكن السيف في يد المسلم إلا كالمشرط في يد الجراح لحسم الداء الاجتماعي”.
ويؤكد في إحدى رسائله المعروفة بـ”رسائل البنا” أن الحكم في عقيدة “الإخوان”، والحكم هنا بمعناه السياسي والوصول له يكون بالقوة، ضمن أركان الإسلام.
وهذا الخلط بين ما هو ديني وما هو سياسي براغماتي يجعل مشروعية العنف للوصول إلى الأهداف مقدسة وملحة، ولذلك قال المرشد السابق للإخوان مهدي عاكف: “نحن نفخر ونتقرب إلى الله بالجهاز السري”.
فيقول البنا: “فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدى الإسلام الحنيف كما فهموه، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة.
وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وقديماً قال الخليفة الثالث رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.
ويؤسس البنا لفكر الجهاد بالمعنى الذي يجعل من كل عضو في “الإخوان”، لديه مهمة أن يتم تعميم الدين على حسب رؤيتهم ووفق أدبياتهم، وبالتالي، يجدد المرشد المؤسس لفكرة العنف المقدس والتي يكون الإسلام فيها مجرد وسيلة مفاهيم الجماعة. فيقول إن مهمتهم هي “نشر العدل بين الناس وتبليغ رسالة الله، حتى لا يبقى في الأرض كافر واحد، وحتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله”.
ويردف في إحدى رسائله: “وأحب أن أنقل إليك طرفاً مما قاله فقهاء المذاهب، حتى المتأخرون منهم، في أحكام الجهاد ووجوب الاستعداد، لتعلم إلى أي حد ضيعت الأمة الإسلامية أحكام دينها في قضية الجهاد بإجماع آراء المسلمين في كل عصر من عصورهم…، قال صاحب (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر) مقرراً أحكام الجهاد في مذهب الأحناف: الجهاد في اللغة بذل ما في الوسع من القول والفعل، وفي الشريعة قتل الكفار ونحوه من ضربهم ونهب أموالهم وهدم معابدهم وكسر أصنامهم، والمراد الاجتهاد في تقوية الدين بنحو قتال الحربيين والذميين إذا نقضوا، والمرتدين الذين هم أخبث الكفار، للنقض بعد الإقرار والباغين، بدءاً منا فرض كفاية، يعني يفرض علينا أن نبدأهم بالقتال بعد بلوغ الدعوة وإن لم يقاتلونا، فيجب على الإمام أن يبعث سرية إلى دار الحرب كل سنة مرة أو مرتين، وعلى الرعية إعانته، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين، فإذا لم تقع الكفاية بذلك البعض، وجب على الأقرب فالأقرب، فإن لم تقع الكفاية إلا بجميع الناس فحينئذ صار فرض عين كالصلاة”.
ويواصل حديثه قائلاً: “فها أنت ترى من ذلك كله كيف أجمع أهل العلم من مجتهدين ومقلدين، وسلفيين وخلفيين، على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة الإسلامية لنشر الدعوة، وفرض عين لدفع هجوم الكفار عليها…، فوجب وجوباً عينياً لا مناص منه أن يتجهز كل مسلم، وأن ينطوي على نية الجهاد وإعداد العدة له حتى تحين الفرصة، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً”.
“مشروعية القتل”
وكما كانت أدبيات الجماعة تقوم على تكفير الحاكم، وصنفت الرئيس السابق جمال عبد الناصر بأنه “فرعون”، لم تتورع عن تصنيف خصومها في مصر بعد الإطاحة بحكمهم عان 2013 بأنهم “طواغيت” في إشارة مباشرة لـ”التكفير” في الحالتين، والذي يترتب عليه حتما مشروعية القتل والدخول في دائرة العنف والاغتيالات.
تقول زينب الغزالي مؤسسة الجناح النسوي لجماعة “الإخوان”، أن المرشد المؤسس حسن البنا هو “الإمام الذي يجب أن يبايع من المسلمين جميعاً على الجهاد لعودة المسلمين إلى مقعد مسؤوليتهم، وإلى وجودهم الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه، وهو مكان الذروة في العالم، يقودونه إلى حيث أراد الله، ويحكمونه بما أنزل الله”، وتروي في كتابها: “أيام من حياتي” أنه عملت على صف المجموعات المتشددة للتخلص من عبد الناصر بدعوى أنه “يحارب الإسلام”.
فتقول: “كانت خطة العمل تستهدف تجميع كل من يريد العمل للإسلام لينضم إلينا… فلما أردنا أن نبدأ العمل كان لابد من استئذان الأستاذ الهضيبي، باعتباره مرشداً عاماً لجماعة الإخوان لأن دراساتنا الفقهية حول قرار الحل انتهت إلى أنه باطل لأن عبد الناصر ليس له ولاء ولا تجب له طاعة على المسلمين، حيث إنه يحارب الإسلام ولا يحكم بكتاب الله تعالى.. والتقيت بالأستاذ الهضيبي لأستأذنه في العمل باسمي وباسم عبد الفتاح إسماعيل، وأذن لنا في العمل بعد لقاءات عديدة شرحت له فيها الغاية… وكان أول قرار لبدء العمل هو أن يقوم الأخ عبد الفتاح عبده إسماعيل بعملية استكشاف على امتداد مصر كلها… والمقصود من هذا أن نتبين من يرغب في العمل من المسلمين ومن يصلح للعمل معنا، مبتدئين بالإخوان المسلمين لجعلهم هم النواة الأولى لهذا التجمع”.
وفي المحصلة، يبدو أمامنا أن الجماعة قامت بعسكرة الدين لصالح أهدافها في السياسة والحكم، ومن خلال هذه العسكرة تم توليد خطاب تعبوي وتحريضي لا يتوانى المنخرطين فيه عن تصنيف الآخر والخصوم السياسيين باعتبارهم مجموعة من “المرتدين” ومن ثم “وجوب قتالهم”.
ولهذا، ليس ثمة شك أن اغتيال القاضي الخازندار في أربعينات القرن الماضي ثم المستشار بركات النائب العام المصري قبل سنوات ليست حوادث عرضية بل هو تكرار للتاريخ الذي يؤكد حقيقة التنظيم الدموي الفاشي. وعليه، لا تختلف تنظيمات “الإخوان” المسلحة مثل “حسم” عن تنظيم “1956” على يد سيد قطب، حيث إن الأخير مثل الأول سعى إلى الصدام مع السلطة التي رفضت أفكارهم وتصدت لسياساتهم التي حاولوا فرضها على النظام والحكومة.
نقلاً عن “الحل.نت”