كريتر نت – متابعات
نصف قرن مر على التدخل العسكري التركي في جزيرة قبرص من دون أي بوادر على وجود تفاوض جدي. مقاربة الحل التي يطرحها الطرفان متناقضة كليا. فالشمال المدعوم من تركيا يريد إقرار واقع التقسيم والجنوب يريد إعادة توحيد الجزيرة. وفشلت كل محاولات التفاوض.
وانطلقت صفارات الإنذار من الغارات الجوية في أنحاء العاصمة القبرصية نيقوسيا المنقسمة عرقيا فجر السبت، وساد الحزن بين القبارصة اليونانيين بينما احتفل القبارصة الأتراك بمرور 50 عاما على غزو تركيا لجزء من الجزيرة ردا على انقلاب وجيز بإيعاز من اليونان.
وبدا الخلاف بينهما واضحا عندما حضر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عرضا عسكريا احتفاليا في شمال نيقوسيا لإحياء ذكرى اليوم الذي شنت فيه القوات التركية هجوما وصفته بأنه “عملية سلام” في عام 1974.
ونشر رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس صورة لخريطة قبرص ملطخة بالدماء على صفحته على موقع لينكد إن ترافقها عبارة “نصف قرن على مأساة قبرص”.
وقال الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس، الذي يسعى لإقامة اتحاد فيدرالي في إطار اقترحته الأمم المتحدة، إنه “لا خيار” سوى إعادة التوحيد.
لكن في خطاب متزامن تقريبا في الجانب الآخر من المنطقة العازلة التي تشرف عليها الأمم المتحدة، قال الرئيس التركي إنه لا يرى فائدة من مواصلة المفاوضات برعاية الأمم المتحدة بشأن مستقبل الجزيرة المقسمة.
ومحادثات السلام متوقفة بسبب فكرتين لا يمكن التوفيق بينهما على ما يبدو إذ يريد القبارصة اليونانيون إعادة توحيد شطري الجزيرة في شكل كيان اتحادي بينما يريد القبارصة الأتراك التوصل إلى تسوية تستند إلى وجود دولتين.
وقال أردوغان إن “عملية السلام القبرصية أنقذت القبارصة الأتراك من القسوة وأعادتهم إلى الحرية”، منتقدا الجنوب لامتلاكه “عقلية فاسدة” ولأنه يعد نفسه الحاكم الوحيد لقبرص.
لكن الرئيس التركي ترك نافذة مفتوحة للحوار في المفاوضات المتعثرة، وقال “نحن مستعدون للمفاوضات والاجتماع وإحلال السلام والحل على المدى الطويل في قبرص”.
وفي عام 1974 تدخل الأتراك بعد خمسة أيام على محاولة انقلاب قادها قوميون قبارصة يونانيون لإلحاق الجزيرة باليونان، وأفضى الاجتياح التركي إلى سيطرة القوات التركية على ثلث مساحة قبرص ونزوح قرابة 40 في المئة من السكان.
وتمتد المنطقة العازلة، حيث تتداعى مبان مهجورة، من شمال غرب الجزيرة إلى جنوبها الشرقي وتفصل بين المجموعتين القبرصية اليونانية في الجنوب والقبرصية التركية في الشمال. وتنتشر فيها نقاط تفتيش ومعابر حدودية.
وفي 1983، أعلن الشطر الشمالي من جانب واحد قيام “جمهورية شمال قبرص التركية”، وهي كيان انفصالي لا تعترف به سوى تركيا التي تنشر فيه 40000 جندي وفق الأمم المتحدة.
وفشلت عقود من المفاوضات برعاية الأمم المتحدة في توحيد الجزيرة. وانهارت آخر جولة من محادثات السلام في كرانس – مونتانا بسويسرا في 2017.
وقال أردوغان خلال زيارته الشطر الشمالي من قبرص “نعتقد أن حلا على أساس فيدرالي غير ممكن في قبرص. لا فائدة لأيّ طرف في القول لنواصل المفاوضات من حيث تركناها في سويسرا قبل سنوات”.
وأضاف قبل حضور عرض عسكري تضمن فرقا راجلة وآليات مدرعة “ينبغي أن يجلس الجانب القبرصي التركي على الطاولة على قدم المساواة مع الجانب القبرصي اليوناني… (على هذا الأساس) نحن مستعدون للتفاوض والتوصل إلى سلام دائم وحلّ”.
ورُفعت أعلام تركية وأعلام “جمهورية شمال قبرص التركية” جنبا إلى جنب خلال العرض.
في الشطر الجنوبي من العاصمة، آخر عاصمة مقسمة في العالم، أزاح خريستودوليدس الستار عن تماثيل نصفية لضباط سقطوا في القتال. كما وضع إكليل زهور أمام نصب لضحايا الحرب ومقبرة عسكرية حيث دوت طلقات مدفعية.
وصرح خريستودوليدس للصحافيين “مهما قال أو فعل أردوغان وممثلوه في المناطق المحتلة، فإن تركيا، بعد مرور 50 عاما، لا تزال مسؤولة عن انتهاك حقوق الإنسان للشعب القبرصي بأكمله وعن انتهاك القانون الدولي”.
وبعد عقود ما زال الأهالي يبكون أحبتهم الذين قتلوا.
وفي المقبرة وقفت امرأة متشحة بالسواد تحت شمس حارقة تبكي أمام قبر ابنها. ولمست برفق صورة الشاب المثبتة على صليب رخامي، في ما مسحت نسوة في الجوار دموعهن.
وارتفعت أعلام يونانية على مقابر أخرى امتدت في صفوف بينما راح أقارب يضعون الزهور ويحرقون البخور.
ولا يزال أكثر من 750 من القبارصة اليونانيين ونحو 200 من القبارصة الأتراك في عداد المفقودين، على ما تقول لجنة المفقودين في قبرص التي تسعى لتحديد مكان الرفات وتسليمها للأهالي.
وقبل إحياء الذكرى، عبّر محاربون قدامى قبارصة يونانيون شاركوا في التصدي للقوات التركية عن تشاؤمهم حيال آفاق السلام.
وقال ديميتريس تومازيس الذي كان من بين أسرى الحرب الذين نقلوا إلى تركيا في 1974 “مضت 50 سنة ولا حل بعد، ولا أمل”.
ويعتمد الشطر الشمالي بشدة على تركيا في ظل المقاطعة الدولية له وشبه انقطاعه عن العالم.
وعشية إحياء الذكرى تبنى البرلمان التركي قرارا يدعو إلى “وضع حد للعزلة غير الإنسانية المفروضة على القبارصة الأتراك”.
وبمناسبة ذكرى السيطرة التركية كتبت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على منصة إكس “في هذه الذكرى الخمسين المأساوية، وفي كل يوم، نقف مع قبرص. نقف مع وحدة الأراضي والسيادة”، مضيفة أن “المسألة القبرصية هي مسألة أوروبية. وسنواصل دعمنا القوي لقبرص في جهودها الرامية إلى إعادة توحيد آخر دولة عضو في الاتحاد الأوروبي منقسمة، بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة”.
وقال السفير البريطاني لدى قبرص عرفان صديق على منصة إكس “ضاعت الكثير من الفرص لإعادة التوحيد”.
وفي السياق ذاته قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في تقرير قدمه إلى مجلس الأمن هذا الشهر إن “حل القضية القبرصية تأخر كثيرا”.
وأسف غوتيريش “للعسكرة التدريجية الجارية في الجزيرة”.
وانهارت آخر جولة من محادثات السلام في 2017، وقبل 20 عاما في أبريل رفض القبارصة اليونانيون في استفتاء خطة مدعومة من الأمم المتحدة لتوحيد الجزيرة.
وكانت قبرص مستعمرة بريطانية من العام 1878 حتى العام 1960 حين نالت استقلالها.
وجرت مفاوضات الاستقلال بين المملكة المتحدة واليونان وتركيا والقادة القبارصة، في سياق دستور يضمن خصوصا تمثيل القبارصة الأتراك. وكان الإطار يحظر إلحاق الجزيرة سواء باليونان أو بتركيا أو تقسيمها، لكنه انهار في نهاية 1963 وسط أعمال العنف بين المجموعتين.