محمد العربي
من بين السياسات الساعية إلى اجتثاث خطر التطرف العنيف والجماعات الإرهابية، يبدو “الإصلاح الديني” أو “تجديد الخطاب الديني” إجابة جاهزة كحل فكري للتطرف؛ حيث تبرز ضرورة بناء سردية فكرية قادرة على دحض وتفنيد ادعاءات الجماعات المتطرفة والتأويلات الدينية التـي تستند عليها في ممارسة العنف أو تبنّي سياسات الإقصاء الديني أو الطائفي.
لقد عاد سؤال الإصلاح الديني الإسلامي يفرض نفسه بقوة مع تصاعد خطر التنظيمات الإسلامية المسلحة مثل “داعش” و”القاعدة”، وجنوح جماعات الإسلام السياسـي، مثل: جماعة الإخوان المسلمين، وتنويعاتها المختلفة في العالم العربي، إلى تبنّي الخطاب المتشدد بل والتحريض على ممارسة العنف وتسويغه في سياق الصراعات السياسية مع الدول العربية.
وعلى الرغم من حقيقة تأثير الخطاب الإصلاحي في مكافحة التطرف، وضرورة إدماجه في سياسات الدول والأطراف المعنية بهذه القضية، فإن العلاقة بين الإصلاح ومكافحة التطرف ليست خطية أو مباشرة، حيث ينبغي أخذ حقائق عدة في الاعتبار كي لا تتحول “سياسات الإصلاح الدينـي” إلى ذريعة تستغلها جماعات الإسلام السياسـي المتطرفة.
عن مفاهيم الإصلاح والتجديد والإحياء
يبرز في الخطاب العام الذي يحاول تناول “الإصلاح الديني” في المجتمعات الإسلامية المعاصرة وعلاقته بمكافحة التطرف، خلط بين مفهومي الإصلاح والتجديد، حيث دائماً ما يرتبط الحديث عن التجديد بالخطاب الدينـي. لذا يجدر بنا تحديد ما يشير إليه هذان المفهومان على وجه الدقة.
للتجديد جذور في الثقافة الدينية الإسلامية؛ فهناك اعتقاد راسخ في الأوساط السُّنية على وجه التحديد بأنه وفقاً لما جاء في الحديث النبوي الشريف، فإن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد دينها على رأس كل قرن[1].
بالطبع قد يكون هناك خلاف على مدى صحة هذا الحديث ودقة نسبه إلى النبـي الكريم، صلى الله عليه وسلم؛ وقد تزداد حدة الخلاف على تحديد هوية المجددين في كل قرن إسلامي مع تنوع الانتماءات المذهبية والتقاليد الفقهية بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه [2].
إلا أن هناك اتفاقاً عاماً على وجود هذه الحركة الدينامية في التطور التاريخي للإسلام كإطار فقهي وتشريعي ولاهوتي[3].
يشير مفهوم التجديد ضمناً إلى أن هناك علاقة تفاعلية بين هذه الأطر والمجتمعات الإسلامية، حيث تتطور مقتضيات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في هذه المجتمعات بما يتطلب إعادة النظر في الأصول المؤسسة للتشريع الإسلامي أو إماطة اللثام عن اجتهادات سابقة أزيحت بفعل سيادة تفسيرات بعينها.
وبالتالي، يقترن التجديد بالاجتهاد باعتباره أحد مصادر التشريع، سواء كان فردياً أم جماعياً تقوم به “جماعة العلماء” أو “الفقهاء”.
بهذا المعنى، استمر تجديد الفكر الديني في الإسلام منذ نشأته وانتشاره في سياقات حضارية واجتماعية متنوعة.
إلا أنه ارتبط بأصول الإسلام نفسه دون أن ينشغل بالآخر؛ حيث غالباً ما ولد التجديد الفقهي والشرعي في إطار تاريخي يحقق غلبة للمسلمين على مَنْ سواهم.
وبالتالي، لم تضطر هذه الاجتهادات الفقهية إلى استعارة موقف الآخر الديني أو الحضاري أو إعادة رؤية الإسلام بناء على الصراع مع الغرب، في فترة الحروب الصليبية أو الصراع العثماني أو الأوروبي لاحقاً.
أما الإصلاح، فهو يشير إلى هذه الاستعارة والتفاعل بين الفكر الديني الإسلامي وذلك الغربي المسيحي. تاريخياً، يشير مفهوم الإصلاح الدينـي إلى عملية الانشقاق التـي حدثت في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية مع بداية القرن السادس عشر، ونتج عنها ميلاد البروتستانتية على يد مارتن لوثر وجان كالفين في وسط أوروبا[4].
لقد كان لمفهوم الدين بصيغته الدينية البروتستانتية/ الإصلاحية تأثير واسع على رؤية العالم الغربي لمفهوم الدين وعلاقته بالاجتماع[5].
وهو المفهوم نفسه الذي شكّل رؤية العالم الغربي خاصة الأنجلوساكسوني ودوائره الاستشراقية للإسلام إبان تصاعد حركة الاستعمار.
وعلى سبيل المثال، نظر كثيرون من الغربيين إلى الحركة الوهابية في الجزيرة العربية على أنها “حركة لوثرية” أو “إصلاحية” في مواجهة المؤسسة الدينية التقليدية العثمانية[6].
ومع تغلغل حركة الاستعمار في العالمين العربي والإسلامي، كان هناك انشغال بإعادة تشكيل الإسلام فقهياً ولاهوتياً كي يناسب تلك الرؤية الإصلاحية التـي رسخت في الغرب لمفهوم العلمانية والتحديث والدولة القومية، وغيرها من مفردات الحداثة.
شكّلت تلك الدعاوي المطالبة بـ“إصلاح الإسلام” والتـي اقترنت بتصاعد المد الاستعماري في العالمين العربي والإسلامي، على نحو عكس الفجوة الحضارية التـي اتسعت بين الغرب والإسلام فيما كان يرزح العالم الإسلامي تحت نير الحكم العثماني الرجعي، شكّلت تحدياً أمام النخب الإسلامية وجلها، في سياق القرن التاسع عشر، في العلماء.
وفي هذا الإطار ظهر “الإحياء الإسلامي” في محاولة للتركيز على تقاليد “التجديد” الديني الذي خبت بفعل تراجع الاجتهاد وتصلب المؤسسات الدينية والسياسية، وإيجاد صيغ للتعايش بين الإسلام “والتحديث” القائم على إبراز التقاليد العقلية والفلسفية الأصيلة أو إدماجها مع التقاليد الحديثة[7].
واستهدفت حركات الإحياء التـي قامت على أعتاق مجتهدين، مثل: محمد عبده في مصر، وسيد أحمد خان في الهند، والسيد جمال الدين الأفغاني، وخير الدين التونسـي، وعبدالحميد بن باديس وغيرهم، تمكين المجتمعات الإسلامية من الأدوات الضرورية لمواجهة الاستعمار الغربي وإعادة تأسيس ذاتها على أسس قوية.
وغالباً ما يتوارى مفهوم “الإحياء الإسلامي” بسبب ظهوره في فترة تاريخية معينة انقضت آثارها حالياً، فيما يبرز مفهوما “التجديد” و”الإصلاح” باعتبارهما صنوان، على اختلاف الافتراضات المؤسسة لكل منهما.
الإسلام السياسي كإخفاق للإحياء الإسلامي
نجحت حركة الإحياء الإسلامي في القرن التاسع عشر في إبراز ضرورة “الإصلاح” بأشكاله المختلفة عبر أقطار العالم الإسلامي.
إلا أنها أخفقت في تحقيق هدفها الرئيس وهو الحؤول دون وقوع العالم الإسلامي في براثن الاستعمار الغربي.
وعلى الرغم من قوة أفكارها، فإنها ظلت حبيسة نخب ثقافية ضيقة، ولم تفلح في تغيير البنية الثقافية لمعظم المجتمعات العربية وهو ما تطلب تدخلاً مباشراً من السلطات الاستعمارية أو سلطات الدول القائمة، في شكل التحديث من أعلى.
كان هذا الإخفاق إيذاناً بظهور الإسلام السياسـي كرد فعل متطرف على تدهور العالم الإسلامي[8].
وحاول أيديولوجيو جماعات الإسلام السياسـي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، تقديم أنفسهم باعتبارهم امتداداً طبيعياً لحركة الإحياء.
ويستند هذا الادعاء على تأثر مؤسسي هذه الجماعات بفكر الإحياء والتأكيد على الظهور التاريخي لجماعات هذا التيار باعتبارها رداً على الاستعمار الغربي، أو بسبب وجود صلة مباشرة بين مؤسس جماعة الإخوان حسن البنّا، والسيد رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده.
بيد أن هذه الادعاءات لا تعتمد على أساس تاريخي أو فكري، وإن كان يقبلها العديد من نقاد الإسلام السياسـي في العالم الغربي وغيره. ويمكن القول إن هناك مفارقات بين الإسلام السياسـي ومفهومي الإصلاح والإحياء. يمكن توضيحها على النحو التالي:
ارتكزت حركة الإحياء الإسلامي على إعادة مفاهيم التجديد الديني والاجتهاد الفقهي، في الوقت الذي استندت فيه حركات الإسلام السياسـي على إعادة “الخلافة” و”العصر الذهبي للإسلام” باعتبارها السبيل الوحيد أمام المجتمعات الإسلامية لمواجهة الغرب.
كان مفهوم رواد الإحياء الإسلامي عن “الإصلاح” واسعاً بحيث شمل أفكاراً عن التعليم والاقتصاد والاجتماع ووضع المرأة، فضلاً عن التشريع والأخلاق العامة، والبنية السياسية للمجتمعات الإسلامية، فيما ترتكز أيديولوجيا الإسلام السياسـي، ربما بشكل مبالغ فيه، على “الدولة” و”السياسة” باعتبارهما الساحة الأساسية للإصلاح.
وعلى الرغم من تأكيد هذه الحركات على “شمولية الإسلام” أي قدرته على تنظيم جوانب الحياة كافة، فإن انشغالها بالسياسة أدى إلى اختزال الإسلام في جوانب سياسية ضيقة، واختزال الحاجة إلى الإصلاح إلى صراع سياسـي دائم.
وبالطبع كان الدين هو المحور والأداة الأساسية في هذا الصراع.
كان سؤال علاقة الإسلام بالحداثة والتحديث، وبالتالي الحضارة الغربية، مركزياً في خطاب حركات الإحياء الإسلامي.
وخلصت أغلب الجهود الفكرية للرواد الإصلاحيين إلى الفصل بين الغرب ككيان استعماري والحداثة كفكر حضاري.
وأظهر الرواد الإصلاحيون في معظمهم تجاوباً في التعاطي مع القيم الحضارية الغربية، خاصة مركزية العقل والحرية، وربطها بالإسلام، في الوقت الذي ناهضوا فيه التمدد الاستعماري. أما الإسلام السياسـي فقد بنـى موقفاً مرتبكاً أمام قضية الحداثة. يرى بعضهم أن تنظيمات هذا التيار لا يمكن قراءتها بعيداً عن التأثر بالفكر الحداثي؛ حيث التشابه بين بنيتها التنظيمية والتنظيمات السرية والاشتراكية التـي سادت في أوروبا في مطلع القرن العشرين.
كما أن هذه التنظيمات قد بنت قاعدتها الاجتماعية في تضاد مع البنية التقليدية للمجتمعات وراحت تؤسس لشرعية دينية مناهضة لمعاهد العلم الدينـي التقليدية في العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من أن بعض هذه التنظيمات يدّعي احتضانه للحداثة الغربية التـي لا تتناقض مع الشريعة، فإن الموقف الأصلي لها يؤكد رفض الحداثة وكون الإسلام بديلاً على نحو أقرب إلى “المفاصلة” كما يتضح مثلاً في أعمال سيد قطب الذي أسس لمرحلة جديدة من الراديكالية الدينية بداية من سبعينيات القرن العشرين[9]. هذه الموجة الراديكالية اندمجت مع تيار السلفية الجهادية الذي أسس لحالة العنف التـي يعيشها العالم الإسلامي والغرب منذ عقود[10].
دعاوى الإصلاح الإسلامي ومكافحة التطرف
بعد العديد من الهجمات الإرهابية التـي تعرضت لها فرنسا، مثل شارلي إيبدو ومقتل المدرس صامويل باتي على يد لاجئ مسلم، والهجمات بالشاحنات في نيس وعلى الكنائس، أعلن الرئيس الفرنسـي إيمانويل ماكرون أن بلاده بصدد إصدار تشريع شامل يكافح “الانفصالية الإسلاموية” أي تلك النزعة الإسلاموية المتنامية بقيادة الجماعات المتطرفة داخل الجالية الإسلامية في فرنسا التـي تعد الأكبر في غرب أوروبا (على الأقل ٩٪ من سكان فرنسا من أصول عربية أو إسلامية).
يتضمن هذا القانون الذي أطلق عليه أيضاً “إسلام التنوير”[11] مكافحة التعليم الخاص والمنزلي الذي قد يبث أفكاراً متطرفة، ومنع الأئمة المدربين في الخارج من الخطابة وإمامة الجوامع الفرنسية، وإطلاق برامج تدريب للأئمة الفرنسيين على قيم التنوير الأوروبي، وكذلك التأكيد على إرث التنوير في الإسلام الذي يمثله فلاسفة مثل أبي الوليد بن رشد في القرن الثاني عشر، وعبدالرحمن بن خلدون. ويستهدف القانون بناء إسلام يتوافق مع “التنوير”.
وتمثل هذه السياسة الفرنسية لوناً من دعاوى الإصلاح الديني الحالية التـي تفترض أن بناء إسلام تنويري سيوفر مناعة حقيقية ضد التطرف الذي قد يتحول إلى أعمال عنف وإرهاب.
الدعاوي نفسها انتشرت سابقاً بعد صعود تنظيم “داعش”.
فقد كان لأنماط العنف التـي اتبعها التنظيم والذي حرص على بثها بآلة إعلامية تسعى إلى بث الرعب والتجنيد في آن، أثرها في إعادة التأكيد على دعاوى ومزاعم بشأن وجود “مركب العنف” في الإسلام نفسه، لا في سلوك بعض التنظيمات. على سبيل المثال، ظهرت مرة أخرى مقولات صامويل هانتينغتون عن الصراع الحتمي بين الإسلام والقيم الغربية، خاصة حديثه عن “حدود الإسلام الدموية”[12].
تقول إيان هيرسي علي، إحدى ناقدات الإسلام في الغرب[13]، إنه من غير المنطقي أن يؤكد الغرب على أن أعمال العنف التـي ترتكب باسم الإسلام يمكن فصلها عن الدين؛ فبذور العنف حسب زعمها، موجودة في النصوص المؤسسة في الدين وفي تجربته التاريخية التـي تستلهمها جموع المسلمين عبر العالم. بالنسبة إليها فالحل هو أن يتعرض الإسلام لتجربة إصلاح راديكالية على غرار تلك التجربة الأوروبية التـي مهدت السبيل إلى النهضة والتنوير، وكذلك حركة الإصلاح التـي تعرضت لها اليهودية وأدت إلى خروج اليهود الأوروبيين من أسوار الجيتو إلى الاندماج في محيطهم الأوسع.
الدعوة نفسها سبق أن أطلقها الصحافي الأمريكي البارز توماس فريدمان في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز” إبان بداية الحرب الأمريكية على الإرهاب[14].
وعلى خلفية أعمال العنف نفسها في سياق آخر، دعا الهندي طفيل أحمد إلى إصلاح إسلامي في إطار الديمقراطية الهندية[15].
بعض الاتجاهات الداعية إلى الإصلاح تسعى إلى بناء “إسلام ليبرالي” قادر على التوافق مع القيم الديمقراطية والليبرالية الغربية، سواء بالتركيز على قيم الانفتاح والتسامح والحرية الدينية التي تؤكد عليها بعض النصوص الدينية والتجارب التاريخية، أو بإعادة تفسير الدين في ضوء افتراضات الفلسفة الليبرالية الغربية القائمة على حقوق الإنسان والفردانية وتقديس الحريات الشخصية.
وبالطبع هي قيم مضادة لتلك التـي تحاول الجماعات المتطرفة إشاعتها بالتحريض أو العنف.
على سبيل المثال، يرى مصطفى أيكول[16] أن المجتمعات الإسلامية الحالية بحاجة إلى رمز إصلاحي يوازي الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أحد رواد الليبرالية لا مارتن لوثر. يرى أيكول إن وضعية العالم الإسلامي الحالية تشابه مرحلة ما بعد الإصلاح الديني لا ما قبل الإصلاح الديني في أوروبا. ففي تلك الفترة ادّعى كل من البروتستانت والكاثوليك أن لدى كل منهم الحقيقة المطلقة، وهو ما أدى إلى اندلاع الحروب الدينية مثل حرب الثلاثين عاماً التـي أكدت ضرورة سيطرة الدولة على “الكنيسة” أو “الدين” لضمان ولاء المواطنين.
بالطبع من الخاطئ تصور أن العالم الإسلامي يمر بهذه المرحلة الانفصالية، ولكن من المؤكد أن الحروب التـي تشهدها بلدان مثل سوريا والعراق واليمن وغيرها، وما كشفت عنه من مذهبية وتعصب للولاءات تحت القومية قد أكدت هذه الحالة. وبالتالي يصبح العالم الإسلامي في حاجة إلى تأكيد التعددية والتنوع الثقافي والمذهبي، وهي حالة يمكن تتبع جذورها في العهد الذهبـي للحضارة الإسلامية. ويشير أيكول إن النموذج الأمثل لهذه الحالة الليبرالية هي الديمقراطية الإنكليزية، وامتدادها في الولايات المتحدة الأمريكية حيث التصالح بين الدين والدولة في إطار ديمقراطي لا العلمانية اللائكية الفرنسية التـي ولدت من صدام بين قيم الحرية والكنيسة الكاثوليكية إبان الثورة الفرنسية وولّدت نزعة لسيطرة الدولة على الدين وإخضاع مؤسساته.[17]
إلا أن تعريف الإسلامي الليبرالي يبقى أمراً غير ممكن الاتفاق عليه، حتى بين دعاته؛ حيث يرتبط التعريف دائماً بحديث عن القيم الإنسانية المشتركة والتعددية والإيمان بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي ممارسات يمكن رصدها لكنها لا تجيب فعلاً عن ماهية “الإسلام الليبرالي” فضلاً عن الإشكالات الفقهية واللاهوتية التـي قد يثيرها في سياق غير السياق الغربي.
صاحَب هذا الغموض ظهور تيار “إصلاح” آخر وهو “الإسلام التقدمي”[18].
هنا تبرز التقدمية كنقيض للرجعية الأصولية التـي تتبنّاها التيارات المتطرفة.
ولا يختلف هذا الخطاب كثيراً عن خطاب الإسلام الليبرالي، إلا أنها أكثر تركيزاً على القضايا التـي تتماس مع التيارات الليبرالية واليسارية خاصة في سياق الولايات المتحدة. تتمثل هذه القضايا في مسائل النوع الاجتماعي، والنسوية، والجنسانية في الإسلام، والقضايا العرقية.
يدعو بعض دعاة هذا التيار في الغرب إلى إعادة تأويل الإسلام بشكل راديكالي كي ينتج سردية قائمة على إبراز مركزية دور المرأة على مستويات مختلفة فقهية واجتماعية وربما لاهوتية؛ أو أن يتم تأويل الإسلام على نحو يتماس مع تعددية التوجهات الجنسية في المجتمع أو غير ذلك من قراءات نقدية[19].
قد تجد مثل هذه القراءات صدى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، إلا أنها تبقى وليدة بيئة غربية محكومة بصراع أبدي بين التقدمية والمحافظة.
كيف يمكن أن يكون “الإصلاح” أداة أكثر فاعلية في مواجهة التطرف؟!
يظهر البحث الإمبريقي أن الانضمام إلى الجماعات المتطرفة سواء في الشرق الأوسط أو في أوروبا لا يكون غالباً مسبوقاً بتحول في الأفكار الدينية نحو الراديكالية،[20] على الأقل في حالة جماعات أكثر تطرفاً وعنفاً مثل “داعش”، حيث تبرز في هذه الحالة ظروف اقتصادية مثل الحرمان الاقتصادي والبحث عن فرص، واجتماعية مثل عدم القدرة على الاندماج في المجتمعات الغربية، وسياسية مثل حالة العنف المتولدة بسبب الحروب الأهلية والاستقطاب السياسـي والمذهبي، وربما نفسية مثل الشعور بالاغتراب بسبب تسارع التحديث ونمط الحياة الفردانية. وغالباً ما تتولى هذه الجماعات المتطرفة عملية بث الأفكار الدينية الأصولية المتطرفة في الأعضاء المنضمين إليها حديثاً.
لا يعنـي هذا أنه ليس للإصلاح الدينـي أو “تجديد الخطاب الديني” على اختلاف المسميات دور في مكافحة دعاوى المتطرفين. فمن المؤكد أن نشر الآراء الفقهية الصحيحة وقيم التسامح والتعددية وقبول الآخر سواء من خلال قنوات دينية أو تعليمية أو تثقيفية له دور في بناء سردية مقاومة للنزوع نحو التطرف والراديكالية، إلا أنه من الضروري عند التفكير في كيفية بناء هذه السردية الإصلاحية، الأخذ في الاعتبار الحقائق التالية:
1- إن الأفكار الإصلاحية أو “التقدمية” أو “الليبرالية” لا تضمن في حد ذاتها مكافحة التطرف. ففرض هذه الأفكار من قبل سلطة ما، كما في حالة دعاوى الإصلاح المرعي من قِبل الدولة أو السلطة السياسية قد يؤدي إلى تطرف مضاد أو قمع لبعض الأفكار بدعوى كونها رجعية أو غير تقدمية. المثال الأبرز في عالمنا المعاصر على هذه الحالة هو قمع أنماط التدين في البلدان الاشتراكية أو الشيوعية في القرن العشرين حيث اعتبر التدين رجعية وأداة للبرجوازية أو الرأسمالية.
وفي التاريخ الإسلامي تبدو أزمة “خلق القرآن” في عهد الخليفة العباسـي عبدالله المأمون (786-833) تجسيداً لهذه الحالة، فرأي المعتزلة في خلق القرآن قد يبدو تقدمياً بالنسبة إلى أهل العقل والفلسفة، إلا أن فرض هذا الرأي من قِبل السلطة أدى إلى اضطهاد جماعات من العلماء الذين أصبحوا قوام المذهب السُّنـي السائد في العالم الإسلامي، فيما توارى الاعتزال والمذهب العقلي.
2- إن فرض الأطر الدينية من قِبل الدولة قد يؤدي إلى انحسار الحالة الدينية “المتطرفة” على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل غالباً ما تعود التيارات الدينية بشكل أكثر قوة وراديكالية. الحالة الأبرز في هذا السياق هو مآل الحالة الدينية في تركيا بعد عقود من السياسات القومية العلمانية التـي تبنّتها الدولة التركية الحديثة بعد القضاء على السلطنة العثمانية ومعها مراسيم الخلافة الإسلامية.
على الرغم من محاولة الدولة القضاء على الحركات الدينية من خلال السيطرة على المجال الديني وإغلاق التكايا الصوفية وفرض رقابة صارمة على المظاهر الدينية في المجال العام، عادت التيارات الدينية في الظهور محمولة على تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية اتخذت أشكالاً عديدة وصولاً إلى حالة العثمانية الجديدة التـي يمثلها حزب العدالة والتنمية.
3- إن الإسلام كغيره من التقاليد الدينية في الشرق والغرب يتسم بالتنوع والتعددية الفكرية حيث استحال منذ نشأته أن تتمكن جماعة أو تفكير واحد أن يقدم تفسيراً أحادياً للدين. ففضلاً عن وجود نزعات سنية وشيعية مع غلبة سكانية لأهل السُّنة والجماعة، إلا أن هناك تيارات داخل كل مذهب، ونزعات تتراوح بين الحرفية والروحانية الصوفية والعقلانية والمادية. يعني هذا استحالة وجود “نسخة صحيحة واحدة” من الإسلام سواء كما يدعيها المتطرفون على مختلف مشاربهم أو يدّعي وجودها دعاة الإصلاح أو التنوير.
بناء على هذه الحقائق، نجد أن فاعلية خطاب الإصلاح الديني في مواجهة التطرف يمكن أن تتحقق من خلال المبادئ العامة التالية:
الإصلاح في نطاق اجتماعي أوسع: تشير الخبرات التاريخية سواء في الحضارة الإسلامية أو الغرب إلى أن المجتمعات الأكثر انفتاحاً وحرية تميل إلى تبنّي تفسيرات أكثر تقدمية وتعددية للدين والنصوص المقدسة، وليس العكس. وبالتالي، عند الحديث عن الإصلاح، يمكن أن نستلهم تجربة الإحياء الإسلامي المشار إليه سابقاً والتـي كانت تدرك أن إصلاح الفقه والتشريع لن يتأتى إلا بمشروع اجتماعي وسياسـي أوسع من مجرد تنقيح النصوص أو التركيز على بعض الآراء الفقهية التقدمية، أو التأكيد الخطابي على علاقة الإسلام بالتسامح والانفتاح واحترام الآخر. الإصلاح الأرسخ قدماً هو ما قام على قاعدة اجتماعية واقتصادية أكثر تقدمية وانفتاحاً، بحيث يكون المجتمع كله أكثر صلابة وقدرة على التصدي لأي تفسيرات شاذة أو آراء متطرفة.
حسم علاقة الدين بالسلطة: كان الدين وما زال هو المساحة الأكبر المتنازع عليها بين الدولة العربية الحديثة والجماعات الإسلاموية المتطرفة. ادّعت الأخيرة أحقيتها بالحديث عن الدين وفرض نسخة معينة منه على المجتمع، فيما استندت كثير من الدول العربية على “الشرعية الدينية” أو على الأقل تبنّي خطاب ديني موائم لتوجهاتها. تكمن أحد مكونات الإصلاح الديني إعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسلطة؛ بحيث لا تكتسب “المؤسسات الدينية” سلطة فرض آراء بعينها على المجتمع، أو بالأحرى تتخلى عن احتكار تفسير الدين الصحيح، ولا أن يكون الدين ساحة لاستغلال السلطات السياسية أو غيرها. لا يعني هذا الفصل النظري للدين عن الدولة، فهذا غير ممكن على مستوى السياسة العملية، حتى في أعتى الدول علمانية، ولكن خلق مساحة حرة لآراء وأفكار متباينة ومتعددة تساعد المجتمع على حل أزماته.
يكفل هذا دحض دعاوى المتطرفين التـي تقوم على ضرورة “إنقاذ” الدين من براثن التغريب والعلمانية.
انفتاح الخطاب الديني على المستقبل: في موضع آخر[21]، ذهب الباحث إلى أن أسئلة المستقبل تغيب بشكل كبير عن الفكر الإسلامي المعاصر الذي ما زال أسيراً للماضوية والجدالات الثنائية والنصوصية؛ حيث تقارع النصوصُ النصوصَ دون أن تنفتح على احتياجات الواقع. الإصلاح دائماً منفتح على المستقبل.
وأفضل ما يقدمه الإصلاح الديني في مكافحته للفكر المتطرف، المغرق في الماضوية والأصولية، هو أن يعيد تقديم الدين باعتبارها قوة دفع للمجتمع وللفرد من خلال التأكيد على قيمه الروحية والتحررية، لا أن يتحول إلى سلطة قمع أو تكبيل للفكر.
نقلاً مركو تريندز للبحوث والاستشارات