إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
هل يعني وجود حكم ديني في التحريم أو الوجوب أنّ على السلطة السياسية والاجتماعية تطبيق هذا الحكم على الناس؟ على سبيل المثال؛ أن تكون الصلاة فرضاً هل يوجب ذلك على السلطة أن تجبر الناس على أداء الصلاة أو الصيام مثلاً؟ أو أن تحاسب من لا يفعل ذلك؟ وأن يكون الخمر أو لحم الخنزير حراماً؛ هل يوجب على السلطة أن تمنع الناس من تناوله، وأن تحاسب من يفعل ذلك؟ وإذا كان زواج المسيحي، أو غير المسلم، من المسلمة حراماً؛ فمن المكلَّف بتطبيق الحكم؟ الفرد أم الدولة؟ بمعنى: هل يجب على الدولة أن تمنع هذا الزواج؟ وهل يحقّ لها ذلك؟ أم أنّه خطاب موجَّه للأفراد؟ وكذا الميراث؛ إذا كان يحرّم على غير المسلم أن يرث المسلم فهل يجب، أو يحقّ، للدولة أن تمنع، أو تفرض، تطبيق الحكم أم هو متروك للأفراد؟
هنا، وفي كلّ الأحكام والتطبيقات ثلاثة أسئلة:
أولاً: ما حكم الدين في المسألة؟
ثانياً: هل هو حكم قطعي أم ثمة أحكام وتأويلات عدة للنصّ؟
ثالثاً: مَن المكلَّف بتطبيق الحكم؛ الفرد أم المجتمع أم الدولة؟ وهل يجب على الدولة، أو يحقّ لها، أن تتدخّل لتطبيق تكليف ديني؟ ومتى يكون ذلك؟
أن يكون ثمة حكم فقهي ما في مسألة لا يعني ذلك بالضرورة أنّه حكم الدين القطعي الوحيد، أو القراءة الوحيدة للنص الديني، وأن يكون ثمة حكم ديني ما في مسألة لا يعني أنّ الدولة يجب أن تتدخل لتطبيق الحكم، أو يحقّ لها أن تتدخل لتطبيقه.
هل يعني وجود حكم ديني في التحريم أو الوجوب أنّ على السلطة السياسية والاجتماعية تطبيق هذا الحكم على الناس؟
وفي جميع الأحوال؛ فإنه يسع الدول والناس أن يكون للدولة قوانينها التي تضعها سلطة تشريعية منتخبة ويكون للأفراد خياراتهم؛ ففي مبدأ المواطنة لا يجوز للدولة أن تفرق بين المواطنين على أساس الدين ولكن إذا فعل الناس، أو امتنعوا عن فعل شيء وفق موقفهم الديني على ألا ينتهكوا القوانين، الدولة تلتزم بحقوق الأفراد والمجتمعات والحقوق العامة، وتتدخل لأجل حمايتها، مثل: قضايا الزنا (التطبيق العملي للزنا هو الشكوى وفي ذلك لا يكون للدولة دور إلا في الخيانة الزوجية حين يشتكي أحد الزوجين، أو أن يكون الأمر علنياً وواضحاً، بمعنى يشبه الاجتراء على الفضاء العام)، والسرقة، والقتل، والإيذاء، والربا، وكما تنظم القوانين الشكاوى، والاحتكام، وكما تعرف المسائل والأحكام والتطبيقات؛ فالقوانين تحرم الزنا، على سبيل المثال، ولكنّ تعريف الزنا وحدود وشروط التدخل والعقوبة مسائل فيها تفصيلات كثيرة ودقيقة. والقوانين تحرّم الربا، ولكن تعريف الربا أيضاً مسألة تجتهد السلطة التشريعية في تحديدها وتمييزها.
وفي جميع الأحوال؛ فإنّ تطبيق القوانين منوط بالسلطة، والسلطة إما أن تكون منتخبة أو متغلبة، وبطبيعة الحال؛ فإنّها تطبق الأحكام كما تحددها وتنظمها السلطات المعنية، وبما هي بشرية، وكما تفهمها وتقرّها، والحكم على السلطة بالخطأ والصواب هو أيضاً عملية بشرية، كما يفهم صاحب الرأي حكم الدين أو معنى النصّ وحدود تطبيقه وتأويله؛ لذلك لا يمكن في الحقيقة وصف سلطة أو دولة بأنها تطبق أو لا تطبق الدين، حتى لو ادّعت ذلك، أو تحرّت تطبيق حكم الله؛ ففي النهاية ستطبقه بما هي سلطة بشرية، وكما تفهم الحكم والنصوص، وليس بالضرورة أن يكون الفهم والتطبيق هو حكم الله، أو المعنى الصحيح أو الوحيد للنصّ.
أن يكون ثمة حكم فقهي ما في مسألة لا يعني ذلك أنّه حكم الدين القطعي الوحيد أو القراءة الوحيدة للنص الديني
ليس هناك في الإسلام ما يمنع بشكل قطعي زواج المسيحي والكتابي بعامة من المسلمة والمتبع في ذلك فتاوى الفقهاء وليس النصّ الديني، القرآن الكريم ينهى عن الزواج بين المسلمين عامة، رجالاً ونساء، وبين المشركين، وهناك تمييز واضح في القرآن الكريم بين المشركين وأهل الكتاب، واعتماد الفقهاء على آية النهي عن زواج المسلم أو المسلمة من مشرك أو مشركة ليشمل النهي أهل الكتاب يعتبره البعض اعتسافا في فهم النصّ، أو لعله ينتمي إلى مرحلة تاريخية معينة؛ عندما كان الدين أساساً في المواطنة، وعندما كان يوجد عداء وقتال مع الروم المسيحيين، وفهم النهي على محمل التحريم ليس قطعياً؛ فالنهي لا يعني التحريم بالضرورة كما يرى بعض المجتهدين، وكذا الأمر في اللغة أيضاً؛ لا يعني الوجوب، ولكنّه يعني النصيحة أكثر مما هو الوجوب.
هكذا؛ فإنّ تطبيق الشريعة الإسلامية هو في الحقيقة عمليات إنسانية محكومة بأدوات التشريع والحكم ومؤسساته، كما الفهم والمعنى والتأويل وطبيعة النصوص ودلالاتها، وفي المحصلة؛ فإنّ الفكرة الأساسية هي المشروعية العليا للدين، بمعنى الانسجام وعدم التناقض، وهي مسألة لا تستحق قيام جماعات ونشوء صراعات وخلافات كبيرة، فعلى مدى التاريخ الإسلامي تجري الأحكام ويخطئ الحكام والقضاة ويصيبون، وما يمكن عمله هو الجدل والإصلاح والتأثير، لا الحروب الدينية الشاملة والكاسحة.
نقلاً عن حفريات