أسامة غاوجي
رغبةً ورهبةً؛ طاف الرحّالة المسلمون الفيافي وقطعوا البحار، فقاسُوا الطرق والمسالك، وقاسَوْا في سبيل ذلك الصِّعابَ والمهالك، ثمّ أخبروا عن أحوال الممالك وشعوبها وثقافاتها. ارتبطت أسفار بعضهم بأغراض سياسيّة فكانوا وزراء وعمّالاً للبريد وجواسيس وسفراء، وارتحل بعضهم لدواعٍ دينيّة كالحجّ ونشر الإسلام، وآخرون لدواعٍ تجاريّة أو علميّة صرفة.
ومع تدوين أخبارهم؛ اتسعت خريطة المعمورة وأضاءت تضاريسها، ونقل المؤرّخون والجغرافيون والخرائطيون عنهم المسافات بين البلدان، وأحوال الأقوام القاطنة فيها.
وقد جاب المسلمون كلّ سواحل المحيط الهندي (“البحر الشرقيّ الكبير” كما يُسمّيه ابن خُرْدَاذَبَه المتوفى 280هـ/893م) من شرق أفريقيا وصولاً إلى جزائر سيلا (ولعلّها شبه الجزيرة الكوريّة)؛ وخاضوا بلاد الترك شرقاً والروس شمالاً وصولاً إلى سيبيريا (“أرض الظُلْمة” كما يسمّيها ابن بطوطة المتوفى 779هـ/1377م).
كما طافوا جنبات أوروبا التي كانوا يسمّونها ‘أَوْرَفِّي‘ (هكذا ضبطها ياقوت الحموي المتوفى 626هـ/1229م -في ‘معجم البلدان‘- وقال: “كذا وجدته بخط أبي الريحان البيروني مضبوطا محققا”، أما المسعودي المتوفى 346هـ/957م فقد جعلها -في ‘التنبيه والإشراف‘- “أورفا”، وهو قريب في النطق من لفظ ‘أوروبا‘ الحالي)، وحكوا عن سكانها من الجلالقة والفرنجة والألمان وأهل بريطانيا والنمسا والمجر.
وربما لم يصلوا إلى أقصى شمال القارة وإن وصلت كميّة وافرة من عملاتهم ونقودهم إلى السويد وفنلندا والنرويج وآيسلندا وغيرها.
كما عرفوا أفريقيا -التي يسمونها ‘لوبية‘- شرقها وغربها ووسطها ورسم بعض خرائطيّيهم جنوبها؛ بل إنّ بعضهم تجاسر على خوض “بحر الظلمات” (= الأطلسي) غرباً إلى المجهول، ومنهم “الفتية المغرَّرون” الذين ذكرهم المسعودي في كتابه ‘مروج الذهب‘، وكيف أنّهم وصلوا إلى جزر الكناري غرب أفريقيا.
ومنهم –على ما يرويه ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) في ‘مسالك الأبصار‘- سلطانُ مالي مَنْسا أبو بكر الثاني (ت بعد 712هـ/1312م)، الذي تخلّى عن المُلْك سنة 712هـ/1312م لأخيه مَنْسا موسى (ت 737هـ/1336م) وأبحر في المحيط الأطلسي بألفيْ سفينة طلباً للمجهول في الغرب ولم يعُد؛ فهل وصل؟ هل وصل غيرُه؟ حول ذلك جدالات طويلة بين مؤرّخي المسلمين والغربيين المحدَثين، كثيرٌ منها مُبيَّتُ القصد.
ليس هذا موضوعنا، فأدبُ “الرحلة” و”المسالك والممالك” و”العجائب” أدبٌ عريضٌ لا تستوفيه المطوّلات؛ بل موضوعنا هو تناول جزئيّة ثقافيّة مخصوصة في هذا الأدب العريض، وهي معرفة “الآخر” ودراسته على ذلك النحو الشامل الذي جعل كبير المستشرقين الروس إغناطيوس كراتشكوفسكي (ت 1371هـ/1951م) يقول -في كتابه ‘تاريخ الأدب الجغرافي العربي‘- إنه “لا يقتصر محيطُ الأدب الجغرافي العربي على البلاد العربية (= الإسلامية) وحدها، بل يمدنا بمعلومات من الدرجة الأولى عن جميع البلاد التي بلغها العرب (= المسلمون) أو التي تجمعت لديهم معلومات عنها، وذلك بنفس الصورة المتنوعة التي وصفوا بها بلاد الإسلام”!!
فما هو إذن الموقف الذي اتخذه الرحّالة والمؤرّخون في دراسة الشعوب الأخرى؟ وما المنهج الذي اتّبعوه؟ وما المزالق التي سقطوا فيها؟ وماذا حقّقوا من الإنصاف أو المَيل؟
لقد تعرّض الاستشراق الغربيّ إلى نقدٍ وافرٍ مسَّ منهجَه وأدواته ووظيفته السياسيّة، وهو نقدٌ وجيه وإن لم يكن له أن يحجب أنظارنا عن جهودٍ منصفة كثيرة قدّمها مستشرقون ذوو أغراض علميّة ومعرفيّة صرفة. ولكنّ سؤالنا: إلى أيّ درجة كانت أخطاء الاستشراق مخصوصة بالغرب دون غيره؟ ألا تسقط كلّ أمّة سيّدة ذات طموحات إمبراطوريّة في الميل نحو محاباة الذات والحطّ من شأن الآخر؟ ثم ألا تسعى إلى توظيف معارفها عن الأقوام الأخرى في خدمة أغراضها السياسية والتجارية والدينية؟
لا أطمعُ بتقديم جوابٍ شافٍ وافٍ عن هذه الأسئلة، بل كلّ قصدي هو لمسها والإشارة إلى بعض فصولها دون تقديم أطروحة شاملة.
ومردّ هذا القصور أمران: أننا لا نعثر على موقفٍ منهجيّ واحد بين الرحالة والمؤرّخين في إنصافهم ولا في ميلهم؛ ثم إنّ المؤرّخين علّمونا عدم صوابية المقارنة التاريخيّة بين العصور المختلفة، لاختلاف ظروفها التكوينيّة وبُناها السياسية والاقتصاديّة، وطبائع دولها ومطامحها؛ فإن كان ولا بدّ للمقارنة فلتكن بين من جمعهم عصرٌ واحد.
فتوح وانفتاح
لا شكّ أنّ عالميّة رسالة القرآن وحثّه على التعارف بين الشعوب والسير في الأرض قد أسهم في جعل ثقافة المسلمين ذات تكوين منفتح على الآخر.
فلم يكن المسلمون يعتقدون مثل بعض الهنود “في الأرض أنّها أرضهم وفي الناس أنّهم جنسهم، وفي الملوك أنّهم رؤساؤهم، وفي الدين أنّه نِحلتهم، وفي العلم أنّه معهم، فيترفّعون. ولا يظنّون أنّ في الأرض غير بلدانهم، وفي الناس غير سكانها، وأنّ للخلق غيرهم علماً غير علمهم، حتى إنّهم إن حُدثّوا بعلم أو عالم في خراسان أو فارس، استجهلوا المُخبِر ولم يصدّقوه”؛ كما يقول البيروني في كتابه ‘تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة‘، بل إنّهم رأوا في الحكمة ضالّتهم أينما وجدوها فهم أحقّ بها.
ولكنّ عاملاً موضوعيّاً آخر قد أسهم في هذا الانفتاح، ألا وهو التوجّه التجاري الذي عرفته العرب قديماً في خطّ التجارة الواصل بين اليمن والحبشة وبين شواطئ الخليج وبلاد الهند والصين، وفي خطّ التجارة القرشية بين اليمن والشام، ثمّ تأكّد مع الفتوح الإسلاميّة التي ضمّت المنطقة المركزيّة الممتدّة بين نهري النيل وجيحون، قلب العالم القديم، ومعبر التجارة الإستراتيجي بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
وهكذا كانت بغداد وغيرها من حواضر العراق ملتقى أسواق العالم تستقبل التجار من أقاصي الأرض، واسمع معي وصف اليعقوبي -في نهايات القرن الثالث- لبغداد إذْ يقول: “اجتمع بها ما ليس في مدينة من الدنيا… فتأتيها التجارات والمير برّاً وبحراً وبأيسر السعي، حتى تكامل بها كلّ متجر يحمل من المشرق والمغرب من أرض الإسلام وغير أرض الإسلام.
فإنّه يحمل إليها من الهند والسند والصين والتبت والترك والديلم والخزر والحبشة وسائر البلدان، حتى يكون بها من تجارات البلدان أكثر مما في تلك البلدان التي خرجت التجارات منها، ويكون مع ذلك أوجد وأمكن، حتى كأنّما سيقت إليها خيرات الأرض وجُمعت فيها ذخائر الدنيا وتكاملت بها بركات العالم”.
إنّ من شأن التجّار أن يكونوا أرحب صدوراً وأكثر مرونة، بحكم اختلاطهم بشتّى أصناف البشر من الرفعاء والوضعاء، وأن يكونوا أوسع آفاقاً وانفتاحاً على الغريب بحكم كثرة تجوالهم وأسفارهم؛ ومن شأن مُدن التجار أن تتشرّب هذه الأخلاق، وأن تستقبل ثقافات الغرباء مع بضائعهم، مما يخلخل صفات الانغلاق على الذات ويشجّع تعدّد اللغات وتنوّع الثقافات.
ومن ثمّ؛ فقد أثْرت التجارة مدن المسلمين بالبضائع والعلوم في آنٍ معاً، وجعلت حواضر المسلمين مدناً كوزموبوليتانيّة (عالمية) تستقبل العالم كلّه، مثلما كانت مدينة خانفو التجاريّة في الصين؛ على ما يحدّثنا المسعودي وغيره. وليس غريباً أن يحدّثنا الجاحظ (ت 255هـ/869م) عن أخبار الأمم والأقوام، بل أن يخبرنا عن أحوال البلدان (وله في ذلك رسالة) وهو الذي لم يغادر -على الأرجح- الهلال الخصيب إلا لماماً.
أنتج ذلك في حضارة المسلمين حركيّة اجتماعيّة عالية -كما يشرح المستشرق الأميركي مارشال هودجسون (ت 1388هـ/1968م) في كتابه ‘مغامرة الإسلام‘- فكان المسلمون يشعرون بأنّهم مواطنون عالميّون، كلّ الأرض لهم مسجدٌ وطهور، ولعلّ أجلى برهان على ذلك ما يعرض للقارئ في كتب الرحّالة من لقاء أبناء أوطانهم في الغربة، فقد التقى ابن فضلان في بلاد الصقالبة بخياطٍ من بغداد، والتقى ابن بطوطة في الصين بفقيه من سبتة، والعجيب أنّه بعد سنواتٍ لقي أخا ذلك الفقيه في بلاد السودان من وسط أفريقيا.
وسأركّز في هذه المقالة على تتبّع ثلاثة نماذج من مؤلّفات الرحالة والمؤرّخين، وتبيان منهجهم في الحكاية عن الآخر والإخبار عن أحواله: وهم ابن فضلان (وكانت رحلته عاميْ 309-310هـ/1309-1310م ولا يُعرف تاريخ وفاته) وأبو الحسن المسعودي (ت 346هـ/957م)، وأبو الريحاني البيروني (ت 440هـ/1049م). ولنبدأ مع متفقّه بغداد الذي تجمّدت لحيته في زمهرير بلاد الصقالبة.
مغامرة فقيه
ككثير من الرحالة والجغرافيين -وهم في الغالب رجال من الطبقات الوسطى- لا نعرف تاريخ مولد ابن فضلان، وقد ذكر ياقوت الحموي -في ‘معجم البلدان‘- أنه كان مولى للقائد العسكري العباسي محمد بن سليمان الحنيفي (ت 304هـ/916م)، وقد سماه مرات: “أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى محمد بن سليمان: رسول [الخليفة] المقتدر” العباسي (ت 320هـ/932م).
ولعل أفضل مصدرٍ عنه هو رحلته ذاتها التي ورد فيها ما يفيد بأن اسمه “محمّد”، وهو عالم بأحكام الشريعة ذو ثقافة أدبيّة جيّدة، ولغة جميلة لا تكلّف فيها، دقيق الملاحظة وإن كان ذا مخيّلة واسعة، جريء في قول الحقّ وتصحيح الخطأ، عريقٌ في الحضارة وآدابها.
غادر بغداد في صفر من عام 309هـ/921م -في عهد الخليفة المقتدر- لغرضٍ مُحدّد يذكره في مطلع رسالته: “لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار (وقد تسمّى لاحقاً على يد ابن فضلان بجعفر بن عبد الله) ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إلى من يفقهه في الدين ويُعرّفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجداً وينصب له منبراً ليُقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له (= مملكة يهود الخزر)، فأجـِيب إلى ما سأل”.
دخل الإسلام إلى بلاد البلغار والصقالبة قبل هذا التاريخ، و‘بلاد البلغار‘ المقصودة هنا مملكتهم القديمة، والخلافُ في تعيينها قائم ولكنّها -عند محقّق ‘رسالة ابن فضلان‘ سامي الدهان (ت 1391هـ/1971م)- تقع إلى شمال شرق بحر قزوين؛ أمّا ‘الصقالبة‘ فلفظ عام يشمل عنده شعوب السلافيين والجرمان وسكان شرق أوروبا، وكان يُطلق أيضا على بعض القبائل التركية القاطنة شرق بحر قزوين وخاصة حوض نهر الفولغا (= نهر أتل)، وكانت مملكتهم ضمن ما يُعرف اليوم بجمهورية تترستان الروسية.
فالمسعودي يقول في ‘مروج الذهب‘- “إن في بلاد الخزر.. خلقا من الصقالبة والروس…، وهذا الجنس من الصقالبة.. متصلون بالمشرق”. وابن فضلان لم يثبت وصوله إلى منطقة شرقي أوروبا حتى يلتقي صقالبتها.
ويقول الجغرافي ابن رُسْتَة الأصفهاني (ت نحو 300هـ/912م) إنّ أكثر البلغار والصقالبة ينتحلون الإسلام، ولكنّ الإسلام كان -في عهده- لا يزال ضعيف الأثر والحضور في هذه الأقوام، ولم يستحكم في أخلاقهم وعاداتهم. ونجد شواهد على ذلك لدى ابن فضلان حين يذكر كثيراً مما يُنكره عليهم في طقوس “الدفن” وجهلهم بالمواريث، وأنّهم “يغتسلون عراةً” ولا يستترون، و”إن كانوا لا يزنون” بل ويقتلون الزاني والسارق بعقوبات غليظة.
ونعرف من الرحالة أبي حامد الغرناطي (ت 565هـ/1170م) -الذي جال حول حوض الفولغا نحواً من ثلاثين سنة وتاجر بينهم وتزوّج منهم- أنّ الإسلام كان قد شاع واستقرّ هناك، وأنّ الجوامع كانت قد كثرت في عهده. كما يذكر المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- أنّ وفداً منهم قد قدم للحجّ، ونزل ببغداد عام 433هـ/1043م.
زرازير وضفادع
سار ابن فضلان –ضمن وفد رسمي- عبر محطات قادته إلى خراسان وخوارزم وبخارى، ثمّ شق طريقه بين بحيرة أورال وبحر قزوين متوغلا في بلاد الترك بمحاذاة نهر الفولغا حتى وصل إلى بلاد الصقالبة والروس؛ في رحلة استغرقت -في خط ذهابها المؤكد- 11 شهرا وقطع خلالها قرابة 5000 كلم، عبر مسار ينطلق من بغداد غربا إلى بخارى شرقا ومنها إلى نواحي مدينة قازان الروسية اليوم شمالا.
ولمّا كان الرجل قد جاء من بغداد –وهي حينها عاصمة الحضارة الزاخرة بآداب العيش ولباقة الحديث ونظافة الملبس وآداب السلوك- فقد كان من الطبيعيّ أن يأنف مما رآه من “وحشيّة” مَن قابلهم من الترك والروس والصقالبة.
ولذلك لما نزل في مدينة الجرجانيّة –التي توجد اليوم غربي أوزبكستان وكانت أيامها عاصمة مملكة خوارزم- وصف قومها بأنّهم “أوحش الناس كلاماً وطبعاً”، وأخبرنا بأنّ “كلامهم أشبه شيء بصياح الزَّرَازِير” (= جمع زُرْزُور وهو طير صغير)، وحدثنا عن قومٍ آخرين مجاورين لهم بأنّ كلامهم أشبه “بنقيق الضفادع”.
ولا شكّ في أنّ هذا النوع من الانطباعات الخاص بوصف نطق لغات الأقوام متسرّعٌ ونابعٌ من اعتياد الأذن لغتها الأمّ؛ فالبيروني مثلا -وإن كان يزكّي العربيّة لغةً للعلوم- يقول لنا -في كتابه ‘الصيدنة‘- إنّ “كلّ أمّة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها في مآربها مع أُلّافها وأشكالها”.
وكلامُ ابن فضلان عن لغات هؤلاء الأقوام لا يبتعد عن وصف الشاعر الأمويّ النابغة الشيباني (ت 125هـ/744م) للغة الروم بأنها:
أصواتُ عُجْمٍ إذا قاموا بقربتهم ** كما تصوِّتُ في الصبح الخطاطيفُ
ثم يصفّ ابن فضلان ‘الغُزيّة‘ (= قبائل الغُزّ -أو الأوغوز- التركية ومنهم السلاجقة والعثمانيون) في حديثه عن حياة الرعي البدويّة التي يعيشونها؛ بأنّهم “كالحمير الضالّة، لا يدينون لله بدين ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئاً بل يسمّون كبراءهم أرباباً”، “ولا يستنجون من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة ولا غير ذلك، وليس بينهم وبين الماء عمل”.
ويضيف أن التجار المسلمين عندهم كانوا يغتسلون سرّاً لأنّهم لو رأوا أحداً يغتسل لاعتقدوا أنّه يريد أن يسحرهم، وأن نساءهم لا يستترن من الرجال، بل إنّ المرأة لا تبالي بكشف فرجها أمام الغرباء، وإن كانوا “لا يعرفون الزنا” وعقوبة الزاني أن يشقّوه نصفين!
كما تحدث ابن فضلان عن ‘بلاد الباشقرد‘ فقال إنهم “قوم من الأتراك يقال لهم الباشقرد فحذرناهم أشد الحذر، وذاك لأنهم شر الأتراك وأقذرهم وأشدهم إقداما على القتل، يلقى الرجلُ الرجلَ فيفرز هامته فيأخذها ويتركه، وهم يحلقون لحاهم ويأكلون القمل “.
تفاصيل دقيقة
وبعيداً عن أحكام القيمة من استهجان وإنكار؛ فإنّ ابن فضلان يُجيد عمل الباحث الإثنوغرافيّ الذي يصوّر طباع الشعوب وعاداتها وعقائدها، وينقلها إلينا نقلاً دقيقاً.
فهو يخبرنا عن سياسات صحيّة اتخذتها تلك الأقوام مثل العزل الصحي –عند الترك والروس- للمريض وعدم الاقتراب منه إلى أن يُشفى أو يموت؛ وعن عقائد بعضهم الوثنيّة في عبادة اثني عشر ربّاً للظواهر الطبيعيّة: للشتاء ربّ، وللصيف ربّ، وللريح والموت… إلخ، وعن عبادة بعض الترك للحيوانات وتبرّك الصقالبة بنباح الكلاب؛ وعن عادة الصقالبة في الأكل منفردين، كلّ أحد ينفرد بمائدته لا يشاركه فيها أحد.
كما قدم لنا معلومات عن عادات الأقوام المختلفة في الدفن؛ فرسم لنا صورة مفصّلة في عشر صفحات عن دفن الروس أحد رؤسائهم، وتطوّع بعض أتباعه وجواريه للموت معه، وكيف حرقوا جثته (وهي ملاحظة وردت لاحقا عند المسعودي والبيروني اللذين قارناها بفعل الهند)، وماذا يُغنون ويشربون ويفعلون في أثناء تلك الطقوس.
ولا يزال وصف ابن فضلان أهمّ وصفٍ لطقوس الموت عند الروس.
لم يكن ابن فضلان جغرافيّاً مُدقّقاً ولا إخباريّاً يُمحّص ما ينقله بميزان العقل أو النقل، وكان -على عادة الرحالة- مولعا بذكر العجائب؛ ولذا فإنّ ياقوت الحمويّ -الذي قال عن رحلة ابن فضلان إنها “مدوّنة معروفة مشهورة بأيدي الناس رأيتُ منها عدة نسخ” بل إنه نقل في ‘معجم البلدان‘ قريباً من ثلثيْها وفقا لتقدير محققها الدهان- يُصحّح كثيراً من أوصافه في الجغرافيا ويُكذّب بعض أقواله، بل ويضبط بعض العادات التي ذكرها فيقول بأنّها مخصوصة بالريف دون المدينة ونحو ذلك؛ وأحيانا يضع عليه مسؤولية ما ينقله عنه متبرئا من دقته قائلا: “وعليه عهدة ما حكاه، والله أعلم بصحته”.
يُخبرنا ابن فضلان أيضاً أنّ عادة رفع القبعة كانت قائمة في بلاد الصقالبة منذ القرن العاشر الميلادي، فإذا اجتاز الملك السوق “لم يبقَ أحدٌ إلا قام وأخذ قلنسوته عن رأسه فوضعها تحت إبطه، فإذا جاوزهم ردّوا قلانسهم إلى رؤوسهم”، وكذلك إذا دخلوا على الملك.
ويُفنّد ما نقله هنا القولَ المشتهر بأنّ عادة رفع القبّعة الحديثة تعود إلى العصور الوسطى، حين كان الفارس الأوروبي ينزع خوذته الحربيّة عن رأسه للسيدات أو الملوك أو أقرانه، للدلالة على أنّه يأمنهم وألا حاجة له بحماية نفسه في حضرتهم، أو إلى خلع المسيحيين قبّعاتهم على باب الكنائس إجلالاً؛ فلم يكن هؤلاء الصقالبة مسيحيين قبل إسلامهم بل كانوا وثنيين. والقطع في هذا الأمر يحتاج إلى مزيد تحقيق.
ومن طرائف أخباره بين الصقالبة أنّ رجلاً منهم يقال له “طالوت” أسلم على يده، فتسمّى “محمّداً” ثمّ أسلمت زوجته وأولاده فطلب منه الرجل تسميتهم كلّهم “محمداً”! وقد مرّ ابن فضلان -في طريق عودته- ببلاد مملكة الخزر، حيث نقل عنهم آليّة ظريفة لتداول السلطة، وهي أنّ الملك إذا ملك أكثر من أربعين سنة قتلته الرعيّة، وقالوا: “هذا قد نقص عقله واضطرب رأيه”.
قلتُ: أربعون سنة كثير، ولكنّهم على الأقل قد وضعوا حدّاً لا ينبغي للملك تجاوزه!
كان ابن فضلان مثالاً معبِّراً عن حالة الرحالة ومنهجهم، وهو منهج يتصف بدقّة الوصف وصدق الخبر –ما أمكن- دون إعمال النقد في الأخبار الواردة، لا من جهة مقارنتها بالأخبار الأخرى ولا من جهة عرضها على العقل (= العادة الجارية)، مما يسمح بتمرير الخرافات والعجائب دون تعليل أسبابها أو تفسيرها، وهو منهج يستند في أحكامه إلى الانطباعات الشخصيّة –المتسرّعة أحياناً- فيستوحش مما لا يألفه، ويسترذل ما خالف آداب المسلمين وشريعتهم، ويستقبح ما شذّ عن أخلاقهم.
نقلة موسوعية
ظهرت منذ القرن الرابع -الذي شهد عقده الأول تنظيم رحلة ابن فضلان وربما كتابة رسالته عنها – طبقةٌ من المؤلّفين الموسوعيين الذين تقدّموا بمنهج دراسة “الآخر” خطوة كبرى إلى الأمام.
لم يكن مؤلّفو هذه الطبقة –ومنهم المسعودي والبيروني- مجرّد رحالة، ولا يُمكن حصر أبواب اشتغالهما العلميّ في “التاريخ”، فالحقّ أنّ تآليفهما أتت موسوعيّة، تشمل الفلك والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا وعلوم المعادن والأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا وعلم الحيوان والنبات، بل وتتضمن شيئا من علم الأديان المقارن ودراسة السياسة المدنيّة ومقارنتها بين الأمم المختلفة.
وربّما يصدق التصنيف الذي اقترحه المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل لوصف ميدان اشتغالهما (المسعودي والبيروني) بأنه “الجغرافيا البشريّة”، من حيث إنّ هذه الجغرافيا لم تكن تكتفي بقياس المسافات بين البلدان والإخبار عن عمارتها، بل كانت تضع البشر في قلب تصوّراتها، فهم موضوع الدراسة وذاتُها.
وقد سبق لمؤرخ العلوم البلجيكي جورج سارتون (ت 1376هـ/1956م) أن أدرك -في كتابه ‘مقدّمة في تاريخ العلم‘- الأهميّة العلمية لكل من المسعودي والبيروني؛ حيث سمّى النصف الأوّل من القرن الرابع “عصر المسعودي”، والنصف الأوّل من القرن الخامس الهجري “عصر البيروني”.
وقبل الشروع في الحديث عن منهج المسعودي والبيروني، وما يلتقيان ويفترقان فيه؛ لا بدّ من التعريف الموجز بهما.
ذلك أنّ منهجهما في الحكاية عن الآخر قد تأثّر بتكوينهما العلميّ ومذهبهما الفكري وموقعهما الاقتصادي والسياسي، بل وبطباعهما الشخصيّة.
أما المسعودي؛ فهو أبو الحسن عليّ بن الحسين بن علي، ونسبه متصلٌ بالصحابيّ الجليل عبد الله بن مسعود (ت 32هـ/654م).
وُلد في إقليم بابل من العراق الذي إليه يحنّ وبه يُفاخر، ولا نعلم تاريخ مولده، أما وفاته فكانت “في جمادى الآخرة سنة خمس أربعين وثلاثمئة (345هـ/956م)”؛ كما يقول الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘.
وقد “كان معتزليّا” كما يجزم الذهبيّ، و”شيعيّا معتزليا” كما يقول ابن حجر (ت 852هـ/1448م) في ‘لسان الميزان‘. ويبدو أنه تتلمذ على شيخ المؤرخين الطبري (ت 310هـ/922م) فاقتبس الكثير من موسوعيته ومنهجيته التاريخية؛ إذ نجده يقول في كتابه ‘التنبيه والإشراف‘: “حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري… إلخ”.
تنوع معرفي
تنوّعت مؤلّفات المسعودي من الكلام وأصول الديانة إلى الجغرافيا وعلم الفلك، وقال ابن حجر إن “تصانيفه عزيزة (= نادرة التداول) إلا ‘المروج‘ فقد اشتهر”، وأعظم كتبه هو ‘أخبار الزمان‘ الذي بلغ ثلاثين مجلّداً، لكنه طواه الزمن فلم يصلنا منه إلا جزء صغير.
ويظهر أنّ المسعوديّ كان من أسرة غنيّة، وأنّه كان يسافر على نفقته الخاصّة مستقلّاً عن أيّ غرض سياسي، فكانت غايته من تأليف كتابه الأشهر ‘مروج الذهب ومعادن الجوهر‘: “محبة احتذاء الشاكلة التي قصدها العلماء وقفاها الحكماء، وأن نُبقي للعالم ذكراً محموداً وعلماً منظوماً عتيداً”.
وقد اتسعت رقعة أسفاره فشملت بلاد فارس والسند والهند والصين والساحل الشرقي لأفريقيا وجزره، ثمّ أذربيجان وأرمينيا وسوريا والثغور الشامية وفلسطين واستقرّ في مصر حيث توفي؛ وعرف من اللغات: العربية والفارسية والهندية والسريانية واليونانية.
ولذلك يقول المستشرق الروسي ألكساندر فازيليف (ت 1373هـ/1953م) -في كتابه ‘العرب والروم‘: “نرى أن المسعودي يستحق لقب ‘هيرودوت العرب‘ الذي أضفاه عليه كرومر”.
يقصد ما قاله عنه المستشرق النمساوي فون كريمر (ت 1306هـ/1889م) في كتابه ‘تاريخ الثقافة في المشرق‘.
أما أبو الريحان البيروني؛ فقد وُلد عام 362هـ/974م، ونسبته –في أحد الأقوال- إلى مدينة “بيرون” التي كانت آنذاك ضمن الدولة الخوارزميّة وتقع اليوم غربي أوزبكستان، وتوفّي عام 440هـ/1050م في “غزنة” التي كانت حينها عاصمة للدولة الغزنوية والموجودة اليوم في أفغانستان.
تصل مؤلّفاته إلى نحو 180 مؤلّفاً تتوزّع بين التاريخ والطبّ وعلوم المعادن والفلك وغير ذلك.
وقد كان البيروني –الذي اتصل بالطبيب الفيلسوف ابن سينا في شبابه- وفيّاً لتقليد الفلسفة وفنونها.
كان عالماً باليونانية والسريانيّة والخوارزميّة والفارسيّة والسنسكريتية (وترجم منها) إضافة إلى العربيّة.
اتصل البيروني بالبلاط الغزنوي، وصحب السلطان مسعود الغزنوي (ت 432هـ/1042م) في غزوه لشمال غرب الهند، ولكنّنا نعلم أنّه ظلّ عصاميّاً مستقلّ الرأي، وأبلغُ شاهدٍ لذلك –إن صحت الرواية التاريخية – أنّ السلطان أرادَ أن يكافئه على كتابه ‘القانون المسعودي‘ في علم الفلك والأرصاد، فبعث إليه بحمل ثلاثة جمال من الفضّة!! ولكنّ البيروني ردّها معتذراً.
وقد ألقى الموقع السياسي للبيروني بظلاله على كتابه عن الهند ‘تحقيق ما للهند من مقولة‘؛ فحين أشار إلى غرضه من تأليفه ذكّر بأنّ “الأستاذ” (يقصد على الأرجح أبا سهل عبد المنعم بن علي التَّفْليسي المتوفى بعد 423هـ/1033م) قد “حرص على تحرير ما عرفتُه من جهتهم (= الهنود) ليكون نصرةً لمن أراد مناقضتهم وذخيرةً لمن رام مخالطتهم”.
ولكنّه يُتابع على الفور بقوله: “وسأل ذلك ففعلتُه غير باهتٍ لخصم (= مفترٍ عليه ما لم يقله)، ولا متحرّجاً عن حكاية كلامه وإن باين الحقّ واستُفظع سماعه عند أهله، فهو اعتقاده وهو أبصر به”.
مشتركات منهجية
عند استعراض منهج المسعودي والبيروني؛ سنجد أنّهما قد اشتركا في مُحدّديْن منهجييْن أساسييْن، واختلفا في اثنين؛ فقد اتفقا في التالي:
1- يتفق الرجلان في أنّ هدف كتابيهما (أخصّ هنا ‘مروج الذهب‘ للمسعودي، و‘تحقيق ما للهند من مقولة‘ للبيروني) هو الإخبار والحكاية عن “الآخر”، دون مجادلتِه أو الحكمِ على صواب رأيه من خطئه.
يقول المسعودي: “كتابنا هذا كتاب خبر، ليس كتاب آراء ونحل”، ويكرّر هذا المعنى مرات.
ويمدح البيروني منهج “الحكاية المجرّدة من غير ميل ولا مداهنة”، ويقول عن كتابه إنّه “ليس… كتاب حجاج وجدل حتى أستعمل فيه بإيراد حجج الخصوم ومناقضة الزائغ منهم عن الحق، وإنّما هو كتاب حكاية فأورد كلام الهند على وجهه”.
وقد أورد المسعودي -وقد عاش في أوج الجدالات الشعوبيّة- طرفاً من هذه الجدالات والردود عليها، ولكنّه -رغم عراقة محتده- خلص إلى مبدأ أخلاقيّ ومنهجيّ مهم، وهو أنّ “الواجب على ذي النسب الشريف والمجد الرفيع ألا يجعل ذلك سُلّماً إلى التراخي عن الأعمال…؛ فإنّ شرف الأنساب يحضّ على شرف الأعمال”.
وكأنّه بذلك يُريد إنهاء الجدل حول المفاخرة بالأنساب لعلمه أنّ كلّ أمّة تدّعي الفضل لنفسها وتظنّ نفسها مخصوصةً به، وهذا حقّاً حالُ من سافر وجرّب وخالط الأمم؛ ألم يقل البيروني -في معرض قدحه انغلاق الهنود على أنفسهم وجهلهم بمن سواهم- إنّهم “لو سافروا وخالطوا غيرهم لرجعوا عن رأيهم”.
والأهمّ من ذلك؛ أنّ المسعودي -في تطبيقه العمليّ- كان منفتحاً على حكمة الأقوام كافّة، فهو يُسهب في ذكر وصايا ملوك الفرس (أردشير وكسرى أنوشروان بالأخصّ) ويفصّل في حكمة الهند واليونان، حتى فيما يُخالف معهود العرب والمسلمين؛ ولذا نجده -أعزّك الله يا قارئي- ينقل حكمة الهنود في النهي عن حبس الريح في الجوف، وعدم احتشامهم من إطلاقها لما يتولّد عنها من أذى، ولا يُبدي أيّ اعتراضٍ على ذلك، بل ظاهرُ قوله هو الإعجاب بحكمتهم!
ومع وصف المسعودي لزنج شرقي أفريقيا بأن “منهم أجناسـ[ـا] محددة الأسنان يأكل بعضهم بعضا”، وبأنهم “ليس لهم شريعة يرجعون إليها، بل رسوم لملوكهم وأنواع من السياسات يسوسون بها رعيتهم”؛ فإنه يشيد بعدلهم السياسي وقوة حرصهم عليه، لأنهم يعتقدون في مَلـِكهم أن الله “اختاره لمُلكهم والعدل فيهم، فمتى جار المَلِك عليهم في حكمه وحاد عن الحق قتلوه وحَرَموا عقبه المُلْك”.
كما يثني على فصاحتهم اللغوية فيقول: “الزنج أولو فصاحة في ألسنتهم، وفيهم خطباء بلغتهم، يقف الرجل الزاهد منهم فيخطب على الخلق الكثير منهم، ويرغبهم في القرب من بارئهم (= خالقهم)، ويبعثهم على طاعته ويرهبهم من عقابه”.
ورغم تأكيد المسعودي خلاصات ابن فضلان -دون أن يذكر اسمه- حين يصف مثلا الروس بأنّهم أمة “جاهليّة لا تنقاد إلى ملك ولا إلى شريعة”؛ فإنّنا لا نعثر -في تأريخه لأحداثهم والإخبار عن أحوالهم- على لهجة الاستهجان والاستشناع التي نعثر عليها في ثنايا حكاية ابن فضلان.
بل إنه التزم بتجنب ذلك صراحة حين قال: “وليعلم من نظر فيه (= كتابه ‘مروج الذهب‘) أني لم أنتصر فيه لمذهب ولا تحيزت إلى قول، ولا حكيت عن الناس إلا مجالس أخبارهم، ولا أعرض لغير ذلك”.
2- يتفق المسعودي والبيروني على ضرورة تعليل الظواهر وعدم الاكتفاء بالخبر دون تحليل وتفسير؛ فالمسعودي ينقل لنا ما ذكره جالينوس من طباع السودان، فيقول “وقد ذكر جالينوس في الأسود عشر خصال اجتمعت فيه ولم توجد في غيره: تفلفل الشعر، وخفة الحاجبين، وانتشار المنخرين، وغلظ الشفتين، وتحدّد الأسنان، ونتن الجلد، وسواد الحَدَق، وتشقّق اليدين والرجلين، وطول الذَكَر، وكثرة الطرب”.
ولكنّ جالينوس يعزو “كثرة الطرب” إلى فسادٍ في الدماغ، وهو ما يردّ عليه المسعودي فيبدأ بالتأسيس لمبدأ “العلة” عند الفيلسوف الكِنْدي (ت 256هـ/870م).
يستند تعليل المسعودي لطبائع الشعوب إلى علّتين: تأثير الفلك والبيئة (المناخ والتربة). وإذا كنّا ننعت اليوم هاتين العلّتين بالسذاجة ونصنّفهما ضمن “العلوم الزائفة” بلغة الباحثين في قضايا المعرفة (الإبستمولوجيا)؛ فإنّ إقرار مبدأ التعليل واستعماله وفق علوم العصر فضيلةٌ علميّة أكيدة.
وقد ظلّ تعليل طباع الشعوب بالمناخ متداولاً حتّى وقتٍ قريب قبل تطوّر علوم الجينات والتحليلات الاقتصاديّة/ الاجتماعيّة الأكثر تعقيداً؛ فقد استعمله الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (ت 1169هـ/1755م)، واستعمله قبله صاعد الأندلسي (ت 462هـ/1071م) وابن خلدون (ت 808هـ/1406م)؛ وإن اختلفت آراؤهم في تعيين طبائع الشعوب، فالبرودة في الشمال تورث نشاط العقل وحبّ المغامرة عند مونتسكيو، بينما تورث البلادة وتعدم دقّة الأفهام عند صاعد.
لعلّ أذكى ملاحظات البيروني في تعليل الظواهر وتفسيرها -والتي سبق بها الدارسين لعلم المجتمعات الإنسانية (الأنثروبولوجيا)- ما قاله في تفسير تحريم الهنود للبقر والامتناع عن ذبحه، إذ يقترح علّة تدبيريّة أو “سياسية” بتعبير البيروني؛ وهي أنّ “البقر هي الحيوان الذي يخدم في الأسفار ينقل الأحمال والأثقال، وفي الفلاحة بالكرب والزراعة… وبالألبان، وما يخرج منها، ثمّ يُنتفع بأخثائه (= رَوْثُه)، بل في الشتاء بأنفاسه؛ فحُرّم [لدى الهنود] كما حرّمه الحجّاج لما شُكي إليه خراب السواد (= منطقة زراعية بالعراق)”.
أي إنّ المنفعة الاقتصاديّة المترتّبة على بقاء البقر أكبر من المنفعة الاقتصاديّة المتأتّية عن ذبحه والانتفاع بلحمه.
وهذا التعليل هو ذاتُه الذي نقرأ وجوهه في كتاب الأنثروبولوجي الأميركي مارفن هاريس (ت 1422هـ/2001م) ‘مقدّسات ومحرّمات وحروب‘.
فروق وتباينات
أما الاختلافات المنهجّية بينهما فهي تباينات داخل دائرة اتفاق، وتتلخص فيما يلي:
1- يتفق الرجلان على ضرورة تمحيص الأخبار وعدم نقلِ كلّ ما وصل إليهما، ولكنّ منهجهما في تمحيص الأخبار متباين. فالمسعودي يعتمد منهج المُحدّثين في الحكم على الأخبار من خلال أسانيدها ومقارنتها بالروايات الأخرى،
أما إذا سلم الإسناد فإنّ منهج القبول العقلي عنده قائم على أنّ كلّ ما يدخل في دائرة الإمكان العقلي جائزٌ ينتظرُ رواية تشهد له لنقبله. والإمكان العقلي هنا لا يُساوي “العادة الجارية” عند البيروني بل هو الإمكان الوجودي، عملاً بتقسيم المتكلّمين لأحوال الوجود إلى: واجب ومستحيل وممكن.
وعلى هذا الأساس ينقل المسعودي مثلا أخباراً تبالغ في حجم الحوت، وينقل أخبار المعمَّرين الذين جاوزت أعمارهم ثلاثمئة سنة!! ولعل ذلك هو ما دعا محدّثا مثل الذهبي إلى أن يصفه بأنه كان “صاحب.. غرائب وعجائب”.
وسنناقش لاحقا بعض المبالغات والأغلاط التي وقع فيها عن الهند ونقارنها بما ذكره البيروني بعد قليل.
ومن الملاحظ عموما أنّ المسعودي كان أكثر نقديّة وتمحيصاً في مسائل الجغرافيا منه في مسائل البشر وعاداتهم ورسومهم.
أمّا البيروني فإنّه كان أكثر اعتماداً على العقل، فنراه يرفض “الممتنع عقلاً” بحكم العادة الجارية، وإن كان داخلاً في “الإمكان الوجودي” بعُرف المتكلّمين. ولذا فإنّه يُفسّر سحر الهنود بأنّه نوع من التمويه وألعاب الخفّة، وليس إيجاداً للممتنع كما يعتقد العوام، ويذكر ما اشتهروا به من صيد الظباء بالتلحين حتى يأخذوها بأيديهم، ويذكر أنّ ذلك وأشباهه “خواصّ ليس للرُّقى فيها مدخل.. فقد تساوى في هذا المعنى جميع الأمم”؛ فهي إذن تقنيات طبيعيّة يمكن أن تتساوى في استخدامها الشعوب جميعها.
وحكايته عن الهند تخلو من ذكر العجائب التي أسرف في وصفها بزرگ بن شهريار الرامهرمزي (توفي في القرن الرابع الهجري) في كتابه ‘عجائب الهند‘؛ فلم يكن البيروني يوردها إلا على سبيل “زعموا أنّ كذا وكذا”.
والبيروني أمتن في التعليل والتحليل من المسعودي وأنفذ بصيرة؛ فهو يُعلّل مثلاً عبادة الأصنام بنزوع طباع العامّة إلى المحسوس المشخّص، وقد يكتفي بالخبر دون تعليل ويقول “وليس للعقل في هذا مدخل”. وقد يصل تحليله إلى تقصّي الفارق بين المثال النظريّ عند القوم وبين التطبيق العملي الخاضع لطبائع البشر وإكراهات السياسة.
فالبيروني يفتتح الباب الذي عقده للعقوبات عند الهند بقوله: “مثل الحال فيهم شبيه بحال النصرانيّة، فإنّها مبنية على الخير وكفّ الشر من ترك القتل أصلاً (= مبدأ ‘الأهيمسا‘/ اللاعنف)… وتمكين اللاطم من الخدّ الأخرى، والدعاء للعدوّ بالخير والصلوات عليه.
وهي لعمري سيرةٌ فاضلة، ولكنّ أهل الدنيا ليسوا بفلاسفة كلّهم، وإنّما أكثرهم جهّال ضلّال لا يقوّمهم غير السيف والسوط، ومذ تنصّر قسطنطينوس المظفّر لم يسترح كلاهما (= السيف والسوط) من الحركة، فبغيرهما لا تتم السياسة. كذلك الهند”، ثمّ يشرع في تفصيل نشأة آلية الحكم السياسي عندهم وبيان عقوباتهم على الجرائم.
2- يؤكّد المسعودي والبيروني ضرورة مُعاينة البلدان التي يدرسانها وعدم الاكتفاء بالأخبار الواردة عنها من غيرهما.
فأوّل مسألة يعقدها البيروني في كتابه هي العيان والخبر وما يلحق بالخبر من آفات، ومثيلُ ذلك في مقدّمة المسعودي ذكره استعلام “بدائع الأمم بالمشاهدة” ومعرفة “خواص الأقاليم بالمعاينة”.
بل إنّ المسعودي يعيب على من “لزم جمرات وطنه وقنع بما نمي إليه من الأخبار”، وعنده أن الجاحظ من هؤلاء.
ورغم ذلك فإن المسعودي ينقل أحيانا أخبار البلاد التي لم يزرها عمن يثق باطلاعهم وفهمهم من أهلها؛ فهو حين يحدثنا عن “بلاد الواحات” غربي مصر وقوة أميرها يقول: “رأيت صاحب هذا الرجل (= الأمير) المقيم بالواحات…، وسألته عن كثير من أخبار بلدهم، وما احتجت أن أعلمه من خواص أرضهم، وكذلك كان فعلي مع غيره -في سائر الأوقات- ممن لم أصل إلى بلادهم”.
شمولية وتخصص
ولذلك نجد المسعودي يقسو على الجاحظ في أكثر من موضع، ويصف كتابه ‘الأمصار وعجائب البلدان‘ بأنّه “في غاية الغثاثة، لأنّ الرجل لم يسلك البحار ولا أكثر الأسفار ولا تقرّى الممالك والأمصار، وإنّما كان صاحب ليل ينقل من كتب الورّاقين”.
وعلى سبيل المقارنة بين مزاجيْ الرجلين؛ نذكر أنّ البيروني ردّ رأي الجاحظ في نفس المسألة بأدبٍ جمّ بأن قال: “حتى ظنّ الجاحظ -بسلامة قلبه وبُعده عن معرفة مجاري الأنهار وصور البحار- أن نهر مهران (يقع جنوب غربي إيران) شعبة من النيل”.
فضرورة المعاينة إذن مسألة مُقرّرة لدى الرجلين؛ ولكنّهما يختلفان في جزئيّة مهمّة حكمتها أقدارهما وظروفهما، وأثّرت من ثمّ في جودة أعمالهما؛ وهي اتساع الجغرافيا التي يُغطّيها المسعودي في مقابل اختصاص البيروني بالهند وحدها.
فصحيحٌ أنّ البيروني كان يُقارن باستمرار بين حكمة الهند وحكمة اليونان وبين عقائد الهند وعقائد الصوفيّة والنصارى “لتقارب الأمر بين جميعهم في الحلول والاتحاد”، إلا أنّه ظلّ مُخلصاً لدراسة منطقة بعينها، الأمر الذي سمح له بمزيد من التعمّق والرسوخ في أحوالها ولغاتها، والتدقيق في عقائدها وتمحيص سِيَرها وخرافاتها، وهو ما جعل منه مرجعاً أكثر دقّة وموثوقيّة في وصف أحوال تلك البلاد.
يظهر أثَر هذين الاختلافين المنهجيين في المقارنة بين ما نقله المسعودي عن الهند وما حكاه البيروني عنها؛ فالمسعودي يقول إنّ “الهند تمنع من شرب الشراب ويعنّفون شاربه، لا على طريق التديّن لكن تنزّهاً عن أن يوردوا على عقولهم ما يغشيها ويزيلها عمّا وضعت له فيهم.
وإذا صح عندهم عن ملك من ملوكهم شربه استحق الخلع عن ملكه، إذ كان لا يتأتى له التدبير والسياسة مع الاختلاط”.
أما البيروني فإنّه يُبيّن أنّ حرمة الخمر مخصوصة بالطبقات العليا دون الطبقة الدنيا (أي طبقة الشودرا = المنبوذون) في نظام الطبقات الهندوسي.
ثمّ نجد أنّ المسعوديّ يبالغ فيما يحكيه عن مقامرات أهل الهند، فيقول: “والأغلب عليهم القمار في لعبهم بالشطرنج والنرد على الثياب والجواهر؛ وربما أنفد الواحد منهم ما معه فيلعب في قطع عضو من أعضاء جسمه… فإذا لعب في إصبع من أصابعه وقُمِر (= خسر في القمار)، قطعها.. [بـ]ـالخنجر وهو مثل النار… ثمّ عاد إلى لعبه، فإن توجّه عليه اللعب أبان (= قطع) إصبعاً ثانيةً، وربما توجّه عليه اللعب في قطع الأصابع والكفّ، ثمّ الذراع والزند وسائر الأطراف”!! وهذا خبر تأنف منه العقول ويمتنع في العادة الجاريّة، ولا يذكره البيروني.
وإضافة إلى ما سبق؛ يُصحّح البيروني ما ذكره غير واحدٍ من الرحالة (السيرافي المتوفى بعد 237هـ/851م وابن خُرْدَاذَبَه) من عقوبات الهند وقتلهم الزاني والسارق؛ فيذكر عقوباتهم بتفصيل دقيق قائلا إن من “كبائر الآثام” عندهم “قتل البقر ثم شرب الخمر ثم الزناء…، وأما السرقة فعقوبة السارق بمقدارها، فإنّها ربما أوجبت التنكيل بإفراط والتوسّط (= شقّ جسد المجرم نصفين)، وربما أوجبت التأديب والتغريم، وربما أوجبت الاقتصار على الفضيحة والتشهير…، وعقوبة الزانية أن تخرج من بيت الزوج وتنفى”.
معوقات ونقد
يُحمد للبيروني وعيه بالمنهج ومزالق الحكاية عن الآخر، وأعتقدُ أنّ الدرسَ الإبستمولوجي الذي قدّمه في الإنصاف لا يزال صالحاً إلى اليوم. فقد عَرضَ -في مقدّمة كتابه- لبيانٍ مفصّل للآفات التي تلحق بالخبر، فذكر أنها:
1- تفاوت الهمم بين المخبرين.
2- الانحياز الناجم عن “غلبة الهراش والنزاع بين الأمم”.
3- الخبر الكاذب الذي يقصد به المُخبـِر “تعظيم جنسه”.
4- أو الخبر الكاذب عن “طبقةٍ يحبّهم لشكر أو يبغضهم لنُكْر”.
5- أو الخبر الكاذب بنيّة التقرّب إلى خير ومنفعة أو اتقاء الشرّ.
6- والجهل والتقليد لمن سبق.
7- ومنها -وانظر دقّة الفهم- أن يميل المُخبـِر ويداهن بحكم طبعه “كأنّه محمولٌ عليه غير متمكّن من غيره”.
وهذه الآفة الأخيرة هي أشدّ أنواع الانحيازات فتكاً لأنّها تأتي من الانحياز اللاواعي.
وفي وجه هذه المزالق؛ يُذكّرنا البيروني ويُذكّر نفسه بأنّ الصدق “مرضيّ محبوب لذاته مرغوبٌ في حسنه”، وأنّ واجب المؤرّخ -بل والمسلم عموما- هو أن يقول الحقّ ولو على نفسه، وأنّ هذه الدرجة من الصدق لا تتأتّى إلا بالشجاعة، والتي هي في حقيقتها “الاستهانة بالموت”!
ثمّ إنّ البيروني يتواضعُ بين يديْ موضوع دراسته، إذ يذكر المعوّقات التي تحول دون المعرفة الصحيحة واستشفاف أحوال الهند: فـ”القوم يباينوننا بجميع ما تشترك به الأمم، وأوّلها اللغة” التي تحوز مخارج حروف لا نظير لها في العربيّة، وتلتقي فيها السواكن، وتتعقّد فيها أساليب التعبير وتكثر فيها المجازات، ويحكم معانيها سياق العبارة، ويقع فيها الاسم الواحد على عدّة مسمّيات. ثم يُفصّل في منهجه في نقل المصطلحات وتعريبها.
وثاني هذه المعوقات “أنّهم (= الهنود) يباينوننا في الديانة مباينة كلّية لا يقع منّا شيء من الإقرار بما عندهم ولا منهم بشيء مما عندنا”؛ و”يباينوننا في الرسوم والعادات” ويستوحشون من عادات المسلمين ويستنكرون “تسويتنا بين الناس”، أي رفض التقسيم الطبقي للمجتمع (وهو ما يرى البيروني أنّه من أعظم الحوائل دون دخول الهنود في الإسلام)؛ ويرون غير الهنديّ -ويسمّونه “مُليج” (= القذر)- نجِساً لا يؤاكل ولا يُخالط، ويضنّون عليه بعلومهم وأخبارهم؛ ثمّ إنّ غزو المسلمين أرضَهم قد زادهم استيحاشاً من المسلمين.
وإضافة إلى هذه المعوّقات؛ يعترف البيروني بقصوره –وقصور كلّ باحث- في تحصيل كلّ ما كتبه القوم عن أنفسهم ويُصرّح مراراً بأنّه ينقل إلينا ما سمعه من علومهم “إلى وقت تحرير هذه الأحرف”، فكأنّه ينوي الزيادة فيها والتصحيح إن وصله علمٌ جديد؛ ويعترف بأنّ أحد المعوّقات هو مطالعة علومهم “من الخارج”، وهذا فهمٌ دقيقٌ، ذلك أنّ الفارق كبير بين معرفة التقليد الثقافيّ من داخله، وبين محاولة فهمه من خارجه، وهو أمرٌ قلّما فطن إليه المستشرقون!
المصدر : الجزيرة نت