إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
سافر رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا العام 1826، وعاد بمشروع إسلامي نهضوي تنويري يستوعب التقدّم الناجز في الغرب، وسافر بعده سيد قطب بـ(100) عام، فعاد بمشروع إسلامي احتجاجي معادٍّ للغرب.
اليوم تمثل عملية تدمير مركز التجارة العالمي في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 لحظة صدمة كبرى لم تتوقف متوالياتها بعد، ولا يمكن تجاوز تلك الحادثة برغم كثرة الحديث عنها وملله أيضاً، لكنّنا في حاجة إلى التوقف الدائم عند تلك اللحظة، كلما حاولنا البحث والتفكير في ما يدور في العالم من عنف وكراهية.
ذلك أنّ شباباً يعيشون ويتعلمون في الغرب، ويوظفون كلّ أدواته ومنجزاته الحضارية في مواجهته والعمل على تدميره.
لقد كانت لحظة أثبتت لشديد الأسف أنّ التعصب والاستعلاء على الآخر أقوى أثراً وجاذبية من العيش معاً في سلام متنوعين مختلفين، وفي عبارة رمزية انتصار سيد قطب على رفاعة الطهطاوي، كيف عجزت جهود الإصلاح والتحديث والتعليم والتنوير على مدى قرنين من الزمن عن مواجهة التطرف والكراهية؟ كيف انتصر “معالم في الطريق” على “مناهج الألباب في مباهج الآداب”؟ بالتأكيد هي جولة أو فقرة في حرب طويلة متصلة، لكنّها جولة أثبتت قدرة سيد قطب، وبعد وفاته بعقود، على التأثير القوي والعميق في اتجاهات الشباب وأفكارهم، بل أن يهزّ العالم هزة قوية، ويُدخل المسلمين والعالم في متاهة معقدة مخيفة.
برغم بداهة فكرة المشاركة الإسلامية مع العالم والتفاعل معه على أساس التقبل المتبادل؛ فإنّها بديهية واجهت التحدي والإفشال؛ ربما لأنّها فكرة وسطية بين حالتي التبعية والإعجاب أو الرفض والوصاية، وربما لأنّها فكرة عقلانية لا تجتذب الجماهير التي تشعر بمرارة الهزيمة والفشل، الهزيمة المتواصلة والمتراكمة أمام الغرب منذ (4) قرون، والفشل المتراكم والمتواصل في عالم المسلمين منذ (5) قرون، وتكون في مثل هذه الظروف الفكرة الجامعة الأكثر تماسكاً وجاذبية وجماهيرية هي التعصب للذات والتاريخ المجيد السابق للهزائم، ورفض الآخر والاستعلاء عليه، لكن وفي جميع الأحوال، لا مناص من استيعاب عقلي للحالة وإدارة أزماتنا بما يخرجنا منها، وليس بالهروب منها بالتخلي عن الذات والتبعية للآخر، أو إعلان الحرب على العالم بما في ذلك من انتحار وخسائر.
لقد بدت مقولات وكتب سيد قطب وخاصة بعد حرب 1967 نداء قوياً جاذباً للأمّة المصدومة بالهزيمة العسكرية والاقتصادية والتنموية والتكنولوجية. صحيح أنّها كانت صحوة إدراك للهزيمة، لكنّها لم تكن إدراكاً للتقدم، ولا شكّ أنّ ثمّة فرقاً كبيراً بين الوعي بالهزيمة والوعي بالنصر، أو إدراك الظلم وإدراك العدل.
تلقف الإخوان رسائل سيد قطب التي كانت تصلهم من السجن، ومنحتهم عزيمة على الاحتمال وأملاً بالخروج من المصيبة، ثم خرجوا بها إلى العالم، صار العرب في صدمتهم وذهولهم مثل ما كان الإخوان في السجون، وصار الإخوان دعاة منقذين كأنّهم جميعهم سيد قطب، ولم تعد مقولات الاستعلاء والتميز والاشمئزاز من الآخر محصورة بالإخوان، لكن حملتها الجماعات الإسلامية الجديدة التي انتشرت وتكاثرت واكتسحت الجيل الجديد، كما حملتها جموع المتدينين وعموم الناس، وحملها القادة والدعاة الدينيون من الجماعات والمؤسسات الرسمية والتعليمية الذين يختلفون مع سيد قطب والإخوان المسلمين، والجماعات الخارجة من عباءتها أو حول خيمتها صاروا يبشرون بالخلاص الإسلامي والوعد الإلهي الحتمي للمؤمنين.
لنتخيل هذه العبارة الختامية لكتاب سيد قطب (المستقبل لهذا الدين) حين تحلّ على أسماع وقلوب المكلومين بالهزيمة والسجن والتخفي: “وهذا كفاح مرير، وكفاح طويل، ولكنّه كفاح بصير أصيل، والله معنا،.. “والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون”، وصدق الله العظيم”.
تتلخص رسالة سيد قطب إلى “الحركة الإسلامية أو طلائع البعث الإسلامي” كما يسميها، وكما عرضها في كتابه “المستقبل لهذا الدين” في المبادئ التالية:
1- انتهاء الحضارة الغربية، أو كما يقول: “انتهى دور الإنسان الأبيض”.
2- الإنسانية تعاني من الخواء والشقاء.
3- الإسلام يملك البديل الملائم، وليس ضد العلم والحضارة.
4- يجب على طلائع البعث الإسلامي أن تنقذ العالم من المعاناة والشقاء.
وهي مقولات، برغم جاذبيتها وقابليتها للحشد وبناء التماسك الجماهيري والعاطفي، ليست مؤكدة أو بهذا الحسم والوضوح الذي يقدّمه سيد قطب، ولكنّها أيضاً كونها وعوداً مثالية وكبرى غير قابلة لإثبات خطئها أو عدم إمكانية تحقيقها، وربما يكون ذلك سرّ جاذبيتها وبقائها، فالأفكار الكبرى والنهائية تظل وعوداً قابلة للبقاء، ولا يمكن إثبات عدم جدواها أو استحالة الوصول إليها، وبذلك فإنّها تظل جاذبة ومقدّسة، وأمّا الأفكار والوعود الواقعية والعقلانية، فإنّها بطبيعة الحال قابلة لإثبات خطئها وسرعة التلف، كما تنشأ على نحو يومي بمعطيات وأفكار وأحداث تجعلها موضع مراجعة وتغيّر على نحو دائم، وبذلك فإنّها تفقد قدسيتها وتماسكها، بل تكون هشة، ولا تشغل سوى جماعات قليلة من العقلانيين والذين لا تقل أعمارهم عن (25) عاماً، بل إنّ أغلبهم تزيد أعمارهم على الـ(40)، في حين تجتذب المقولات والوعود المثالية والكبرى الشباب الأكثر حماسة واندفاعاً للعمل والتضحية.
ولكن لا مناص من خوض معركة العقل والوعي؛ إذ يجب أن يجد هؤلاء الذين يستيقظون ويبحثون عن طريق العقل والتنوير الأفكار والأدلة الإرشادية التي تساعدهم أو تختصر الطريق وتقلل من عبء التيه والقلق، كما تضع تحت تصرفهم تجربة الجيل الذي سبقهم وخاض الطريق الذي سلكوه، وأدركوا الخواء الزاهي والجذاب الذي احترقوا فيه كما احترق فيه من قبلهم.
يقول سيد قطب: “انتهى العصر الذي يسود فيه الإنسان الغربي، لأنّ حضارة الغرب استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة الإنسانية. لقد أصيبت بالعقم-أو كادت- بعد ما ولدته في (الماجنا كارتا) الإنجليزية، ومبادئ الثورة الفرنسية، ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمّونه (التجربة الأمريكية)، وكلها كانت قيماً محدودة تروج في فترة خاصة، وتواجه حالات محدودة وأوضاعاً خاصة، ولم تكن رصيداً لبني الإنسان يصلح للبقاء مدة أطول من الفترة التي عاشتها تلك المبادئ الموقوتة! وكلها كانت مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية، ولا تعيش المبادئ والقيم، إلّا إذا انبثقت منه، وقامت عليه”.
ويتابع: “الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني.
ومن ثمّ كانت قيماً محدودة موقوتة لأنّها في الأصل قيم مبتوتة! لا جذور لها في أعماق الفطرة البشرية، لأنّها ليست آتية من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية. ومن أجل أنّها لم تنبثق من ذلك الأصل، ولم تجئ من هذا المصدر، فإنّها قامت على أساس مناقض لفطرة الحياة، ولفطرة الإنسان؛ ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيها… لم تراع في هذا كله احتياجات (الإنسان) الحقيقية، المنبثقة من طبيعة تكوينه، وأصل خلقته وحقيقة فطرته، وأهملت إهمالاً شنيعاً أهمّ مقوماته -التي بها صار الإنسان إنساناً- ولم تهملها فحسب، بل طاردتها في جفوة وعنف.
ومن ثم أخذ (الإنسان) يشقى شقاءً مريراً بالحضارة، التي قامت أصلاً -أو المفروض أنّها قامت أصلاً- لخدمته وترقيته وإسعاده.
وحين تتناقض (الحضارة) مع (الإنسان) فالنتيجة الحتمية بعد فترة -تطول أو تقصر- من صراع الإنسان مع الحضارة، ومن الآلام والتضحيات، والخسائر والمرارات، أن ينتصر الإنسان، لأنّه هو الأصل، ولأنّ فطرته أعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها.
إنّ بريق الحضارة المادية لا يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظلّ هذه الحضارة.
وإنّ الصواريخ المطلقة، والأقمار الصاعدة، لا يجوز أن تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه (الإنسان) ومقومات (الإنسان)! فجميع ما يصل إليه (العلم) في معزل عن (روح الإنسان) من تيسيرات للحياة المادية، ومن رفاهيات حضارية، لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي إليه البشرية، ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه، ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها…، ثم من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها، ومن ثمّ حقيقة الحاجة الماسة إلى نظام آخر أصيل، بريء -في أساسه- من العيوب الأساسية التي أفسدت حياة البشر، وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري… نظام يسمح للإنسانية بأن تحقق غاية وجودها الإنساني-كما أرادها خالقها العظيم- وأن تستخدم (العقل) و(العلم) و(التجربة) استخداماً آخر، يتناسق مع احتياجاتها الحقيقية، ومع مقتضيات فطرتها الأصيلة”.
إنّ الحضارة الغربية، برغم كلّ عيوبها وأزماتها، تملك رصيداً كبيراً من القوة والفاعلية الروحية والاجتماعية، وتملك أيضاً حلولها للأزمات والتحديات، وهي بالطبع حلول وأفكار ظنية قابلة لأن تثبت خطأها، لكنّها تراجع نفسها باستمرار وعلى نحو دائم، ومعظم إن لم يكن جميع ما يذكره سيد قطب عن أزمة الحضارة الغربية مستمد من مصادر غربية ومن نقد ذاتي للحضارة يؤديه فلاسفتها وحكماؤها، وهذه شجاعة أدبية ونقطة قوة وليست ضعفاً كما يستنتج سيد قطب.
ففي هذا الاعتراف بالخطأ ينشئ الغرب الأفكار والحلول والمراجعات للأخطاء والأزمات، وإنّنا نلمس ونرى بوضوح التطور الغربي في مراجعة الأخطاء، وبناء البدائل على نحو مستمر ومتواصل.
ويقول سيد قطب عن الحضارة الإسلامية مبرراً الدور الذي يجب أن تؤديه الحركة الإسلامية: “يظنّ بعض الناس أنّ هيمنة المنهج الإيماني على الحياة من شأنه طرد العلوم المادية ونتائجها الحضارية من الحياة! وهو وهم ساذج، فالدين ليس بديلاً من العلم والحضارة، ولا عدوّاً للعلم والحضارة، إنّما هو إطار للعلم والحضارة، ومحور للعلم والحضارة، ومنهج للعلم والحضارة في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم كلّ شؤون الحياة.
والإسلام – بالذات – كان هو الإعلان الشامل لحرية العقل البشري تجاه الكون المادي، وقوانينه، وقواه، ومدخراته. وكان الإيذان العام بانطلاق هذا العقل ليعمل ويبدع في ذلك الملك العريض الذي استخلفه ربّه فيه.
وكانت هذه إحدى الحقائق التي تضمنها التصور الإسلامي عن حقيقة علاقة الخلق بالخالق، ومركز الإنسان في هذا الكون، وحدود اختصاصه.
ومن ثمّ ازدهرت في ظل الإسلام حضارة كاملة بكلّ مقوماتها الإبداعية التي كانت تتيحها لها الأدوات والوسائل في حينها -والأدوات والوسائل قابلة دائماً للتطور والترقي- والإسلام يدفع هذا النمو ويقوده، ولكنّه يحفظه دائماً داخل إطار الفطرة؛ لا يصطدم بطبيعة الإنسان وخصائصه الثمينة، ولا يحطمها ويكبتها.
وقد كان الإسلام هو الذي أنشأ – بطبيعة واقعية ممنهجة ـ المنهج التجريبي، الذي انتقل إلى أوروبا من جامعات الأندلس، إنّ الإسلام يرسم (التصميم) الأساسي للحياة البشرية، إلى العلم الكامل الشامل، المبرّأ من الجهل والقصور والهوى كذلك يكله إلى علم الله – سبحانه- بما أنّ الله هو الذي أبدع الكون وما فيه، وأبدع قوانينه وطاقاته، وأبدع الإنسان وزوّده باستعداداته للعمل في مادة هذا الكون العريض، وهو الذي يعلم – وحده – كلّ حقائق الكينونة البشرية وكلّ حقائق الطبيعة الكونية فهو- وحده – القادر على أن يصنع للإنسان نظام حياة شاملاً لحياته الفردية والجماعية، ولحياته في الكون المحيط به عن (علم مطلق) يقابل (جهلنا المطبق)، وفي الوقت ذاته لا يلغي العقل البشري الذي وهبه الله للإنسان ليعمل بها ويبدع؛ لا ليغلها أو يلغيها! وفقط يحوطها بالسياج الواقي من الهوى، ومن التهور، ومن الخبط في التيه، ومن النكسة والانحدار. ويضع لها المنهج الذي يقوّمها منها فلا تميل، ويهديها فلا تضل، ويكفل لها حريتها واستقامتها على السواء.
ومن حسن الحظ أنّ الفطرة الإنسانية ذاتها- كما أبدعها الله- متناسقة مع فطرة الكون. وأنّ فطرة الكون، كفطرة الإنسان، تحتوي على عناصر الحركة والإبداع والنمو والترقي، ومن ثمّ ستجد الفطرة أنّ الكثير من هذه الحضارات يلبي ويتماشى مع حاجاتها الحقيقية المترقية، ولن تصطدم إلّا بما هو ضار بكينونة الإنسان ذاته. وهذا ما يجب أن يطرد وينفى، وهذا ما يكفله منهج الله للحياة، هذا الدين المخلِّص الذي يطلبه الغرب ولكنّه يأباه”.
لكن وكما كانت الحضارة الغربية اقتباساً أو تفاعلاً مع الحضارة الإسلامية، والتي كانت هي أيضاً تفاعلاً واقتباساً مع الحضارات القائمة والسابقة مثل الآراميين واليونان والرومان والفرس والهند والصين؛ فإنّ المشروع الإسلامي يجب أن يكون اقتباساً وتفاعلاً مع الحضارات القائمة، فهذه الحضارات تمثل تراكماً طويلاً واستيعاباً معقداً للمعارف والعلوم والتجارب على مدى القرون، ونستطيع بهذا التفاعل أن نوفر زمناً طويلاً، وليس من المعقول أن نخوض تجربتنا من الصفر، إن كان ذلك ممكناً، ولكنّنا نستوعب المشهد القائم ثم نبدع أو نحاول أن نبدع نموذجنا الحضاري والاجتماعي، ليس بمعزل عمّا هو قائم، فذلك عبث إن لم يكن مستحيلاً، ويحتاج إلى قرون عدة. ولا يمكننا بالطبع أن نستوعب الحضارة الغربية من موقف عدائي أو استعلائي، فلن يكون في مقدورنا أن نفهمها من غير الاقتراب منها، ولن نقترب منها من غير تفاعل إيجابي معها، ولن تمنحنا أسرارها وفضائلها وخيراتها ما لم نتقبلها وتتقبلنا، ولن نؤثر فيها ونرشدها إذا لم نفهمها جيداً ونتفاعل معها بإيجابية وليس باستعلاء وعدائية، عدا عن كونها عدائية من غير قوة واستعلاء أجوف، فنحن نعتمد على الحضارة الغربية في كلّ شيء تقريباً، فلماذا الاستعلاء عليها والاشمئزاز منها؟
ويقول سيد قطب مقدّماً خلاصته الثورية التي لا تتفق أبداً مع المبررات والأفكار التي قدّمها عن خطل الحضارة الغربية وصلاحية الحضارة الإسلامية: “نحن اليوم في مثل الموقف الذي واجهه الرسول والصحابة، وحاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج ليست بأقلّ من حاجتها يومذاك. وإنّ وزن هذا المنهج اليوم – بالقياس إلى كلّ ما لدى البشرية من مناهج – لا يقلّ عنه يومذاك. ومن ثم ينبغي ألّا يخالجنا الشك في أنّ ما وقع مرّة في مثل هذه الظروف لا بدّ أن يقع.
ولا يجوز أن يتطرّق إلى قلوبنا الشك بسبب ما نراه من حولنا من الضربات الوحشية التي تُكال لطلائع البعث الإسلامي في كلّ مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية. إنّ الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تُكال للإسلام، إنّما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات.
إنّنا لسنا وحدنا، إنّ رصيد الفطرة معنا، فطرة الكون وفطرة الإنسان، وهو رصيد هائل ضخمن أضخم من كلّ ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة، ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة، فلا بدّ أن يُكتب النصر للفطرة، قصر الصراع أم طال. أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا؛ إنّ أمامنا كفاحاً مريراً شاقاً طويلاً لاستنقاذ الفطرة من الركام، ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام، كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له استعداداً طويلاً، ويجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين.
ونرتفع إلى مستواه في إحاطتنا لثقافة عصرنا وحضارته، وممارسة هذه الثقافة وهذه الحضارة ممارسة اختبار واختيار. فإنّنا لا نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها وما ينبغي أن ندع، إلّا إذا سيطرنا عليها بالمعرفة والخبرة، فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الاختيار، ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الحقيقية المتجددة، فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك”.
إنّ الحضارة الغربية، كما الإسلامية أيضاً، هي مجهود إنساني لتحسين الحياة، وهي بذلك (غربية كانت أم إسلامية) عرضة للخطأ والصواب، والنزاهة والأغراض والمصالح، لكنّ هذا الضعف هو أيضاً قوة الحضارة، ففي الاعتراف باحتمال الخطأ تظلّ المراجعة قائمة، ويحدث التنوع والاختلاف والقبول الإيجابي لكلّ الأفكار والمبادرات، وهذا ما يجعل الحضارة حيوية قادرة على تجديد وتصحيح نفسها.
هكذا، فإنّ البداية الصحيحة للتأثير الحضاري في العالم، كما الانتقال الإيجابي للذات في أنسنة العمل والتفكير، وإن كان مستمدّاً من الدين الذي نعتقد أنّه نزل من عند الله، ففي تنزيلنا لهذا الدين أو الرسالة السماوية ننشئ حتماً منهجاً إنسانياً لمعالجة النص الديني أو الرسالة السماوية، وهذه المعالجة هي عملية إنسانية تجتهد في تمثل النص واستيعابه، وبالتأكيد فإنّها ليست هي النص، وهذا يقتضي بالضرورة الاعتراف باحتمال خطأ الذات وصواب الآخر، ثم إنّ هذه العلاقة مع الآخر لا يمكن أن تكون وصائية أو استعلائية، فلا يمكن أن يتقبلنا الآخر أو يفهمنا من غير اعتراف متبادل، وكيف يقبل بنا ونحن نعتقد ضلاله وضآلته وتميّزنا عليه؟
نقلاً عن حفريات