د . ياسين سعيد نعمان
١-الحدث الذي يثير جدلاً إنما هو دليل على حيويته . فالمواقف المتباينة منه ، في إطار المكونات التي تحمل قضية واحدة ، لا تعني أكثر من اختلاف في التقديرات لأسباب عدة منها ما تضخه انفعالات الزمن من هواجس تحتاج إلى المزيد من العمل النزيه لبناء جسور الثقة ، وهو ما يتطلب عدم الذهاب بهذا الاختلاف إلى القطيعة .
٢- لنأخذ العبرة من الماضي على مدى عقود طويلة من العمل السياسي . في هذا الماضي إختلف الناس واتفقوا ؛ وحينما دهمتهم الأحداث ،فيما بعد، إكتشف كثيرون ممن اختلفوا أنهم متفقون في الجوهر ، وأن المشكلة تكمن في أنهم لم يستطيعوا إدارة الخلاف واستيعاب وجاهة المختلف ، لكن الوقت كان قد تغير وتغيرت معه مسارات الاحداث . أما الذين اتفقوا فقد تبين لهم أن إتفاقهم لم يكن متجذراً في بنية من الفهم المشترك لقضايا الاتفاق ، وأن دوافع الاتفاق كانت في معظم الأحيان رد فعل لصدمات روضت الكثيرين بعيداً عن قناعاتهم ومساراتهم السياسية ، وبدلاً من أن يفترقوا بسلام فقد أورثوا الأرض كوارث أخطائهم مرتين : في الاتفاق وفي الاختلاف .
٣- علينا أن لا نغرق كثيراً أمام ما ينجز اليوم على امتداد طريق طويل من التحديات، حتى وإن كان ذلك مهماً بحساب اللحظة الفارقة التي أشعلت الحاجة إلى مثل هذا الحدث .
٤-ربما كان علينا أن ننتبه إلى حقيقة ذات مغزى وهي أن “المبادرة” التي كان يجب أن تتحلى بها القوى المقاومة للانقلاب ومشروعه العنصري لإنجاز هذ الحدث كانت قد صانعت التسوية بملامحها المُرحّلة من الزمن القديم ، ولم تشتبك معها إلا بقواعد ذلك الزمن ذاته . خٰذِلت المبادرة بدورها عند مراحل مختلفة من هذا الاشتباك مما يعني ان الفعل ما كان ليتم لولا هذه التسوية بكل ما رافقها من استحضار لأليات من زمن غير ما يحتاجه الزمن المعاش، وهو أمر ، لكي يستوعب ، يحتاج إلى قدر كبير من الصبر والتفهم بالطبع ، لكنه يظل من النوع الذي يحتاج إلى بيئة ملائمة تحتضنه ليتشبع بروحها ، أي أن البيئة السياسية المحيطة يجب أن تشهد تغيرات هي الاخرى لتصبح بيئة كفاحية حاضنة لعناصر هذا الفعل ، حتى يتناغم مع متطلبات استعادة دينامية الحراك الشعبي باعتباره عنصراً حاسماً في هذه المعركة .
٥- مجلس النواب في طبعته الجديدة معني بتعميق الحوار كقاعدة لإنتاج أوثق الصلات بين النخب السياسية والناس ، وعلى هذا الطريق لا بد أن يستوعب التنوع السياسي الذي أفرزته المرحلة الماضية ، وأن يبدأ بالحوار والنقاش مع من تبقى من أعضاء المجلس لإثبات أن هذه الخطوة إنما هي على طريق استعادة الزخم الشعبي في مواجهة المشروع الانقلابي الكهنوتي .
لا يجب إعلان القطيعة ، خاصة وأن المجلس يتكون في الاساس من القوى التي تجمعها مصلحة مشتركة في مواجهة هذا المشروع بعد أن رتبت الحياة هذه الحقيقة بقوانينها الموضوعية وأعادت الارادة الخاطئة إلى المسار الصحيح ، مما يعني أنها لا تزال في حاجة الى المزيد من الحوار والتفاهم ، ولا بد من التعاطي مع بعض الحالات بقدر من الحكمة وبعد النظر حتى لا يتسع “الوسط” الذي سيشكل في نهاية المطاف حاجز حماية للانقلابيين رغماً عن إرادة الكثيرين في حالة القطيعة .
٦- ليكن هذا الموقف تعبيراً عن التمسك بالمضامين السياسية للعملية التاريخية التي مثلها الوفاق الوطني والحوار في أهم مفاصل العمل السياسي ، حتى تصبح مواجهة القوى التي خانت وانقلبت على التوافق الوطني عنواناً يؤصل لنشوء مرحلة جديدة من مراحل العمل السياسي تجسد الاستجابة للارادة الشعبية بالمعنى الذي لا تبقى فيه النخب منفصلة عن الناس حينما يتعين عليها أن تأخذ الخيارات المصيرية .
٧- إن قيمة أي خطوة سياسية وشعبية في هذا الظرف ستتوقف على إسهامها في بناء جبهة المواجهة ضد الانقلاب ، وتوفير مناخ شعبي لمحاصرته ، بما في ذلك إكساب المعركة بعدها الشعبي الذي سيعجل باستعادة المبادرة على أكثر من صعيد .
٨- سيحكم على أي حدث من هذا النوع إنطلاقاً من هذه الحقيقة بعيداً عن انفعالات الرضى أو عدم الرضى التي نجترها وراءنا كعربات محملة بهموم الماضي ، أو حسابات مستقبل ليس لنا فيه خيارات كثيرة في هذا الوضع الذي يحاصرنا فيه سؤال كبير هو : ما العمل ؟
٩- لا شك أن سؤالاً على هذ القدر من الأهمية يحمل في طياته أسئلة كثيرة ذات قيمة خاصة في احترام إرادة الناس حينما يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية ، هذه الاسئلة يجب أن تتم الاجابة عليها في قلب هذه الاصلاحات وكجزء منها ، حتى لا تبدو وكأنها عناوين متفرقة ، وتكون الخطوة الحاسمة هي إكساب المعركة بعداً شعبياً ، وهذا لن يتأتى إلا بإصلاح الجبهة السياسية ضمن رؤيا سياسية – كفاحية تشاركية ، وسيكون الحديث عن تكتل سياسي لدعم الشرعية بهذا العنوان ملتبساً حيث يبدو وكأنه يضع حاجزاً بين الشرعية وبنيتها السياسية ، المفروض أن التكتل السياسي هو الوجه السياسي للشرعية ، إن مهمته لا تقتصر على الدعم لكنه عنصر أصيل في هذه الشرعية الدستورية والشعبية والتوافقية الوطنية .