أحمد سالم
كاتب مصري
إنّ محنة التفكير الديني السائد في الأوساط الإسلامية، يكمن في إعلاء قيمة النص، من أجل تكميم وتحجيم حقّ العقل في التفكير والمساءلة، وحق العقل في التفكير في دلالات النص، وحق العقل في نقد أعمال السلف، وذلك بسبب ترسيخ الأفكار الدوجماطيقية (القطعية) في تلك الطريقة في التفكير، ولذلك فإنّ التوجهات السلفية قد وسعت دائرة القداسة من كونها مرتبطة بالكتاب والسنة، إلى كون تلك القداسة ممتدة إلى مدونات الفقه القديم، واجتهادات الأعلام الذين اجتهدوا وفقاً لزمانهم وبيئتهم وثقافتهم، فصار لآراء ابن حنبل، وابن تيمية، وابن عبد الوهاب سلطة على العقول قد تعادل أو تجاوز في حضورها سلطة الكتاب والسنة، وتناسى المعاصرون من السلفيين المتشددين أنّ اجتهاد العلماء في مجالات علوم الدين؛ هي تنزيل للمطلق (الكتاب والسنة) في حركة النّسبي (الواقع المتغير)، وتنزيل للرّوحي على حركة الواقع الإنساني، ولما كان الواقع متغير، والبيئات مختلفة، كان من الضروري للفكر الديني أنْ يتجدد بتجدد واقع الناس ومشكلاتهم، لأن الدين الواحد لا يؤدي في الواقع الاجتماعي المتغير بصورة واحدة .
وقد نتفق على ثبات النظر في مجالات العقيدة والأصول الدينية، رغم أنّ الأسلاف قد اختلفوا حتى في النظر لها، فاختلفوا حول الأسماء والصفات، واختلفوا حول القدر والفعل الإنساني، وصاروا مذاهباً وفرقاً في أصول الدين، كما اختلفوا في الفقه (علم الفروع)، وكان لكل فقيه من فقهاء السنة أو فقهاء الشيعة فقهاً خاصاً به .
ولكن بعض الخلف المعاصرين قدسوا السلف، وأصبح من يقتل النفوس البريئة، أو من يقصى الآخر، أو من يفجّر نفسه في الآمنين يقول لنا، هذه فتوى ابن تيمية أو تلك فتوى ابن عبد الوهاب، ولا يصدرون لنا كلام القرآن، فنحن إذاً في محنة كبرى، لأننا لا نميز بين ما هو مقدس وحدود هذا المقدس، وما هو بشري وحدود هذا البشري، وذلك لأن توسيع دائرة المقدس على حساب البشرى، هو سعى نحو سجن الواقع في النص، وحركة الواقع تنفلت من أي قيد أو سجن يمكن أن يسعى له رجال الدين.
من ثم كانت الحاجة والضرورة الملحة إلى تجديد الفكر الديني، باعتباره يمثل المنتج البشري حول فهم النصوص المؤسسة لكل دين، ولما كان الناس يعيشون فى واقع متغير، فإن مطلب تجديد فهم الدين، أصبح مطلباً ملحاً وضرورياً، لاستمرارية حضور الدين بشكل فاعل في المجتمع، وإذا كان التجديد مطلباً ملحاً، وكان التجديد هو عبارة عن فاعلية العقل فى فهم النص وتفسيره، وتقديم قراءة جديدة له، فإن تفعيل المقدرة العقلية لدى القائمين على تجديد الفكر الديني أمر في منتهى الأهمية، ولكن كيف تتأتى مسألة تفعيل الممارسة العقلية؟ إنّ هذا لا يتمّ إلا عبر تعليم الفلسفة لمن يقومون على شأن تجديد الفكر الديني، إنّ الفلسفة تكسب هؤلاء فاعلية عقلية ومقدرة نقدية، ويمكن أنْ نحدّد الأثر الإيجابي للفلسفة في جوانب عدة:
أولاً: أنّ الفلسفة هي الصورة العليا لفاعلية العقل البشري في انتاج الأفكار، ولذا فإن تعلمها لأصحاب تجديد الفكر الديني، يمكن أن يمدهم بأفق واسع لرؤية الأديان ودراستها، وهذا ما يتجلى في مبحث فلسفة الأديان، والذى يبرز الأهداف العليا للأديان، وعلاقتها بالعلوم والمعارف .
ثانياً: تقدم الفلسفة المعين الخصب للمنهجيات الحديثة في العلوم الإنسانية، ولعل أهمها البنيوية، والظاهرية، والتفكيكية، والهرمنيوطيقا (التأويلية ) والسيموطيقا (علم الدلالات)، والتاريخية الاجتماعية، وهذه المناهج هي نتاج فاعلية العقل البشرى، وهذه المناهج فاعلة في دراسة الظاهرة الإنسانية عامة، والظاهرة الدينية خاصة، وما تتميز به هذه المناهج أنها تفتح لصاحبها آفاقاً جديدة في دراسة علوم الدين من كافة النواحي، وتربط الدين بحركة الاجتماع البشرى وتطوره، ولذلك فإن هذه المنهجيات فاعلة في تقديم قراءات جديدة للدين من ناحية، وللفكر الديني والتراث من ناحية أخرى، وهذا ما يثرى مسألة تجديد فهمنا للدين، وتجديد الفكر الديني.
ثالثاً: وتسهم دراسة الفلسفة بالنسبة لصاحب الفكر الديني بأنها تُمتعه بأفق مفتوح، وعقلية منفتحة في النظر للأفكار والمعتقدات، فأثر الفلسفة على العقلية يُورث دارسها قدراً من المرونة في التعامل مع شئون الفكر بما يجعله رافضاً لكل المعتقدات المغلقة، والأفكار التي تتحول إلى عقائد جامدة، وايديولوجيات مغلقة، وتسهم في انفتاح العقل على كافة الثقافات والأديان، بما يجعله ينظر إلى ثقافته ودينه ضمن محيط الثقافات والأديان العالمية ، كما أن انفتاحية العقل على الآخر يجعله باحثاً عن المشترك الإنساني العام بين الثقافات والأديان، وهذا ما يرسخ للتعايش وقبول الآخر .
رابعاً: وتمنح دراسة الفلسفة لأهل الاختصاص في الفكر الديني رؤية جديدة للعالم والفكر تقوم على النسبية، فتحدث تحولاً في جوهر اعتقادهم في النظر للاجتهادات البشرية الدينية بأنها أفكار نسبية مقيدة بزمانها واجتهادات أصحابها، ولا تتسم بصفة الإطلاق، وأن عليهم أن يراعوا حركة الزمن وتطوره، وحركة الواقع وتغيره، ومدى تأثير هذا التغير في تقييد اجتهاد السلف السابقين بواقعهم، وحاجة الخلف إلى تجديد فهمهم للدين وفقاً لنسبية الفكر البشرى ومحدوديته .
خامساً: إنّ دراسة الفلسفة كان لها تأثيرها الفاعل في بزوغ حركة الإصلاح الديني في أوروبا أولاً، وفي ظهور وتطوّر حركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي ثانياً، وينبغي أنْ نُدرك أنّ العمائم العظيمة، التي صاغت أفكار حركة الإصلاح الديني من أمثال: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده ، وأمين الخولي، وأحمد أمين، وعبد المتعال الصعيدي، وخالد محمد خالد، ومحمد البهي، وعبد الله دراز، قد قرأوا أو درسوا الفلسفة، وكانت لها تأثيرها الخلاق في صياغة منتجهم الفكري والعلمي الذى خلده لنا تاريخ الثقافة الإسلامية، ذلك المنتج الذى يعلي من قيمة العقل البشري، ويعلى من تغير الزمان، وضرورة تجديد فهمنا للدين في ضوء التطور والتغيير .
نقلآ عن حفريات