هشام النجار
إلى جانب المقاربة الأمنية والتحوط الاستخباراتي من أجندات جماعة الإخوان المسلمين وتكتيكاتهم لضرب مقومات الدولة الوطنية، تبدو المقاربة الفكرية وتسليط الضوء على أديولوجياتهم عنصرا وقائيا هاما، وهو ما يقدمه برنامج “مراجعات” التلفزي.
وي.سد البرنامج التلفزي “مراجعات” الحاجة إلى معرفة أكثر عمقا لظاهرة الإسلام السياسي والاقتراب من أقدم تنظيم ديني في مصر والعالم، وآليات عمله والصراعات ومراكز القوى داخله عبر التدقيق في تجارب شخصيات عايشت التجربة عمليا لسنوات طويلة.
ويُفوت البرنامج الذي يعُرض في توقيت دقيق على جماعة الإخوان فرص الترويج للمظلومية كخروج سهل من أزماتها المركبة الحالية، ويعوض تسليط الضوء على المراجعات الفردية لرموز جماعة الإخوان المنشقين عنها غياب المراجعات التي يشرف عليها رأس التنظيم، حيث توحي الجماعة لأتباعها والمتعاطفين معها بأن ما تتعرض له من هزائم وأزمات نتيجة مؤامرة من خصومها في مصر والعالم، وليس بسبب أخطاء أو خلل داخلي تعانيه، ودون تحمل مباشر للمسؤولية عن الأخطاء التي ارتكبت.
واستضاف البرنامج الذي يقدمه الباحث في شؤون الحركات الإسلامية رئيس هيئة الاستعلامات المصري ضياء رشوان في حلقته الأولى الكاتب عبدالجليل الشرنوبي الذي رأس تحرير موقع الجماعة الإلكتروني (إخوان أونلاين) قبل أن يقدم استقالته من التنظيم عام 2011، كاشفا العديد من الأسرار المتعلقة بالمستويات المتدنية للشخصيات القيادية منذ حسن البنا وحتى المرشد الأخير محمد بديع إلى درجة إخفاء مذكرات عبدالحكيم عابدين صهر البنا وحامل أسراره كي لا تُخدش القداسة الزائفة التي أُضفيت عليه.
واستخدم الشرنوبي تعبير “الجرثومة التنظيمية” لتفسير حالة الغيبوبة التي تصيب عضو الجماعة وتجعله منضويا داخلها غائبا في دهاليزها سنوات طويلة دون امتلاك القدرة على الفكاك منها، مشددا على أن التنظيم يخلق شخصية متوحشة مجردة من إنسانيتها وحريتها ومنفصلة عن محيطها الأسري والاجتماعي، ومحرومة من العلاقة السوية بين الإنسان وخالقه، واصفا الخروج من أسره بأنه إفاقة من غيبوبة تترك آثارها على مفارقيه طيلة حياتهم.
البرنامج يفوت على جماعة الإخوان المسلمين فرص الترويج للمظلومية كخروج سهل من أزماتها المركبة
وانهمك جيل من الباحثين ومحللي السياسات في محاولة لفهم ظاهرتي التطرف والإرهاب واستنباط الأسباب التي تدفع أفردا عاديين إلى الانضمام إلى جماعة متطرفة، ونشرت منذ عزل جماعة الإخوان عن السلطة في يونيو 2013 مؤلفات تحلل الظاهرة من أبعادها المختلفة، فيما مثلت طروحات المنشقين ومراجعاتهم إضافة مهمة لفهم المؤلفات الموجودة بشكل عميق واكتشاف مساحات غائبة لمن يحلل الظاهرة من خارجها.
وعندما تُبث كل حلقات البرنامج الجديد الذي يستضيف عددا من الرموز التي فارقت جماعة الإخوان واشتهرت في المجال العام برؤيتها المغايرة للأحداث والمفاهيم، مثل مختار نوح وثروت الخرباوي وغيرهما، يصبح الفضاء الثقافي إزاء حالة متضافرة تسهم في تصحيح المفاهيم المغلوطة، مع الافتقار لنشاط جماعي قادر على تعطيل عمل قادة الجماعة الدؤوب والبارع في التلاعب بسلوك الأفراد والقادر باستمرار حتى في أوقات الهزائم والأزمات على إلهام الولاء والطاعة.
ويقدم البرنامج الذي يسلط الضوء على مناهج التطرف ودراسة سلوك الجماعات الإرهابية، الرؤى المتماسكة على المستوى السياسي والفكري للرموز المفارقة لجماعة الإخوان في التأثير على شبابها الذين لا يزالون واقعين تحت سلطتها، في وقت تمتنع الجماعة عن القيام بأي قراءة نقدية لقوالبها النظرية ومسيرتها الممتدة لقرابة القرن ولتجربة العقد الماضي تحديدا.
وبينما تُحجم جماعة الإخوان عن إجراء مراجعات شاملة توقف استغلال الرأسمال الديني للإسلام وتوظيفه بشكل نفعي وأحادي للوصول إلى السلطة، دأبت مؤخرا على المناورة بعرض استعدادها لتقديم بعض التنازلات، مثل اعتزال العمل السياسي لفترة محددة مقابل الاكتفاء بالتفاوض حول مصير قادتها المحبوسين.
ولا تلقى هذه العروض استجابة من الأجهزة المصرية أو ارتياحا من الرأي العام على خلفية الشكوك في كونها لا تعدو جزءا من خطط الجماعة لاختراق المشهد السياسي وتدوير نفسها تدريجيا، كما فعلت في أزمات سابقة.
ما يميز البرنامج هو عرضه لما يشبه حركة مراجعات جماعية من خلال تجارب رغم أنها فردية انفصلت عن مشروع الإخوان في شقيه التنظيمي والأيديولوجي
ولم تعد فكرة إجراء مراجعات جماعية لأحد التنظيمات المتطرفة تلقى قبولا وحماسة بعد تجربة الجماعة الإسلامية التي حققت نجاحا جزئيا ببقاء تيار داخلها وفيا لتعهداته ومراجعاته، على الرغم من الإغراء السياسي الذي تميزت به حقبة ما بعد ثورات الربيع العربي عبر صعود الإخوان والتيار السلفي في المنطقة العربية والظفر بكرسي الرئاسة في مصر.
وشهدت التجربة نكوصا من تيار وازن داخل الجماعة حيث كان مسيطرا على إدارتها من الناحية التنظيمية كفصيل ديني ومن الناحية السياسية عبر إدارة شؤون الحزب المعبر عنها، وعاد إلى قناعات وممارسات وخطاب ما قبل المراجعات، متورطا عبر التحالف الوطيد مع جماعة الإخوان خلال ذروة تحديها لمؤسسات الدولة في العودة إلى النمط الصدامي الذي ميز الجهاديين في مصر ما قبل العام 1997.
ويعزز من فرص رموز الإخوان المفارقين لها في كسب القبول الشعبي والترويج لرؤاهم الفكرية داخل الأوساط الإسلامية أن مواقفهم نابعة من إرادة حقيقية بخلاف المراجعة الجماعية للتنظيم التي عادة ما تكون نفعية ومرحلية نتيجة التعرض للهزيمة والفشل.
واكتسب قادة وناشطو الإخوان المفارقون لها مصداقية مسبقا عندما طرحوا تصوراتهم وقدموا نصائحهم للجماعة ومجمل فصائل تيار الإسلام السياسي مبكرا، فيما رفضت هي الاستجابة وصممت على التمسك بمشروع السلطة رغم الاحتجاجات، وعززت بإقرارها منهج العنف عقب خروجها من الحكم في مصر عام 2013 حالة النبذ المجتمعي ضدها.
وما يميز البرنامج هو عرضه لما يشبه حركة مراجعات جماعية من خلال تجارب رغم أنها فردية انفصلت عن مشروع الإخوان في شقيه التنظيمي والأيديولوجي، إلا أنها منسقة ويقوي بعضها الآخر، في مواجهة جمود فكري لجماعة لم تخرج على مدار ما يزيد عن تسعة عقود عما تزعم أنه ثوابتها التي لا تحيد عنها.
ولم تغير الجماعة من سياستها وتصميمها على رفض المراجعات الشاملة وهي تتلقى أقسى الضربات بعد إعدام منظرها الرئيسي سيد قطب في العام 1966، وحديثا بعد عزلها عن السلطة على وقع الانقسامات والضربات التي تلقتها بالقبض على مرشدها ونائبيه بجانب الآلاف من كوادرها ونوابها وأعضائها البارزين، علاوة على المتغير الأخير عندما التقى داعمها الإقليمي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كخطوة محورية نحو المصالحة المصرية التركية.
وتضيء المراجعات الفردية لرموز الإخوان المنشقين عنها مساحات معتمة وأخرى غير مرئية تتعلق بمشروعها ومقدار خطورته وكيف صعدت على الرغم من ماضيها العنيف، وباتت اللاعب الأكثر ربحا في مضمار سباق ما سُمي بالربيع العربي، عندما استحوذت على أو اقتربت من السلطة في بعض الدول العربية، تاركة لإيران تحكمها في الهلال الشيعي الممتد من العراق وحتى لبنان، مرورا بسوريا، فيما يشبه التقاسم المذهبي للنفوذ بين الإخوان وإيران وتركيا.
وتهم مراجعات رموز جماعة الإخوان الحالة العربية التي قطعت أشواطا في التعامل مع مشروع الإخوان وداعميه ونجحت في كبحه وتفادي تبعاته الكارثية، كما تهم العالم الخارجي ودول أوروبا التي بدأت تكتشف خطورة مشروع الإخوان الذي يشبه إلى حد كبير الشيوعية أو الفاشية في كونه أيديولوجية عابرة للحدود تنتشر بسهولة وتخطط للسيطرة على المجتمعات والدول.
وتحتاج برامج الوقاية الشاملة من التطرف والإرهاب التي باتت تولي اهتماما متزايدا بتصحيح المفاهيم المغلوطة وتفتيح الوعي والتثقيف الفكري إلى حركة مراجعات متماسكة تشخص الخلل وتطرح البدائل ولا تنتمي إلى التكتيكات المرحلية للجماعات، لمواجهة القناعات الراسخة لدى الآلاف من أتباع تنظيمات الإسلام السياسي التي تبقى مستمدة من الأصول الفكرية لفصائله لتحقيق أهدافها بالوصول إلى السلطة وتدمير الدول الوطنية.
المصدر : العرب