سعود الشرفات
كاتب أردني
الخطاب هو تعميم لمفهوم المحادثة إلى أي شكل من أشكال الاتصال، وهو موضوع رئيسي في النظرية الاجتماعية، حيث يمتد في مجالات مثل علم الاجتماع، والسياسة، والإنثروبولوجيا والفلسفة، والأديان المقارنة.
تنظر هذه المجالات إلى الخطاب على أنّه نظام للفكر أو المعرفة أو التواصل الذي يبني تجربتنا في العالم، وبما أنّ السيطرة على الخطاب ترقى إلى السيطرة على كيفية النظر إلى العالم، فإنّ النظرية الاجتماعية غالباً ما تدرس الخطاب باعتباره نافذة على السلطة، ومن هنا تأتي أهمية الخطاب السياسي.
في العلوم الإنسانية والاجتماعية العامة يصف الخطاب طريقة تفكير رسمية يمكن التعبير عنها من خلال اللغة، والخطاب هو حدٌ اجتماعي يحدد ما يمكن أن يقال عن موضوع ما.
والعديد من تعريفات الخطاب، ودراسات “تحليل الخطاب” مستمدة إلى حد كبير من أعمال ما صار يُعرف بـ”المدرسة الفرنسية في تحليل الخطاب”، وعلى رأسها أعمال (ميشال باشي) وكتابه “التحليل الآلي للخطاب”، والفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) وكتابه “أركولوجيا المعرفة”، الذي كان له دور كبير أيضاً في نشأة تحليل الخطاب، فقد استطاع فوكو أن يحوّل تاريخ الأفكار إلى دراسة للخطاب ونظامه وأشكاله.
وبالإضافة إلى فوكو، هناك الفلاسفة الفرنسيون دولوز وجاك دريدا، الذين يتخذون من الخطاب أساساً لتحليلاتهم، ويرفضون أيَّ صياغة لمفهوم الجوهر الشامل، والكلية أو القيم الشمولية، “حيث يحتلّ مفهوم السلطة مكانة بارزة في أعمال دولوز وفوكو على وجه التحديد، وسيكون حاضراً ـ بل مُستهدَفاً ـ في كلّ تحليلاتهم الخطابية، بدءاً من الأعمال الأولى حتى مؤلَّفاتهم المتأخرة”.
أهمية “المدرسة الفرنسية” -هناك مدارس أخرى ساهمت في إثراء دراسة الخطاب مثل المدرسة الأمريكية- أنها طوّرت دراسة الخطاب من خلال التوسع في مشروع تحليل الخطاب والتركيز على “الخطاب السياسي” من خلال الاستعانة بما يُسمى باللسانيات البنيوية وبنظرية “الإيديولوجيا” كما صاغها الفيلسوف الفرنسي الماركسي (لوي بيير ألتوسير) في مقالته “الإيديولوجية وأجهزة الدولة الإيديولوجية”، وتحدد المقالة مفهوم (ألتوسير) حول الإيديولوجيا الذي يستمد، بالإضافة إلى ماركس، من علم النفس عند فرويد، ولاكان حول اللاوعي، وتصف البنى والمنظومات التي تمكن وجود مفهوم الذات، هذه البنى، بحسب (ألتوسير)، هي عوامل كبت، وفي الوقت نفسه حتمية -من المستحيل التهرب من الإيديولوجية ـ أي ألّا تكون خاضعاً لها” .
المثير في نظرية ألتوسير حول تأثير الإيديولوجيا في الخطاب، وجعلها مفيدة في دراسة الخطاب هي أنه يستخدم مفهوماً تراثياً وفقهياً في الإسلام والأديان السماوية الأخرى، وهو مفهوم: الظاهر والباطن، أو ظاهر النص وباطنه.
من هنا فقد “رفض الاكتفاء بظاهر الخطاب ومنطوقه، فالإيديولوجيا في تقديره تضرب في اللاوعي بجذور، وهي التي لا تفصح عن نفسها إلا إذا جاوزنا الخطاب الظاهر إلى آخر أعمق غوراً، أي خطاب اللّاوعي الذي يمثّل في نهاية الأمر الإيديولوجيا”.
وقد أشرت إلى (ألتوسير) بشكل مقصود، لأنني أعتقد أنّه أفضل من تحدث عن علاقة الخطاب بالخطاب السياسي والبنى الإيديولوجية الكامنة في هذا الخطاب، وفي أحسن الأحوال “العلاقة المعقدة بين الظاهرة اللغوية التي ينطق بها الخطاب السياسي، و”التشكل الخطابي” الذي تحدث عنه باشي (تلميذ ألتوسير) والظاهرة الإيديولوجية”.
ويُصنف الباحثون الخطاب من حيث النوع إلى عدة أنواع؛ أهمها الخطاب السياسي: وهو خطاب الأطراف الفاعلة في السلطة (الحكومات، السياسيون) الذي يوجّه عن قصد نحو المتلقي للتأثير به وإقناعه بمضمون الخطاب الذي يتضمن أفكاراً سياسية، أو يكون موضوعه سياسياً، ويلجأ غالباً إلى استثارة الرموز في عقول المخاطبين من أفراد المجتمع ليتمكن من تحقيق هدفه؛ لأنّ الخطاب السياسي إفراز للمثيرات الاجتماعية والسياسية التي تنعكس عليه، والواقع الذي يتناوله هو التفاعلات والصراعات والأزمات بين المجتمعات السياسية وما ينتج عنها.
والخطاب الديني: الذي وصفه الراحل الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، بأنه “خطاب أمْري تسليمي، يطالب بالإيمان بالغيب وبالعقائد، ويعتمد على الإرشاد والوعظ وتصوير الحياة الأخروية وما بها من نعيم وعذاب، وهو على أنواع؛ فقد يكون خطاباً عقائدياً كما هو الحال في علم الكلام، أو خطاباً باطنياً كما هو الحال في التصوف، أو خطاباً تشريعياً كما هو الحال في الفقه وأصوله.
وللخطاب الديني أصول وفروع، وهو يعتمد على النص والعقل الذي يفسره ويستنبط منه الأحكام والقواعد والتوجيهات والمعاني والعبر.
الخطاب الإسلامي هو إذن، كما يقول حسن حنفي الذي رحل مؤخراً، اجتهاد ذهني أكثر منه اجتهاداً واقعياً لإصدار حكم في واقعة جديدة. هو اجتهاد مقرون بعملية النهضة عن طريق ربط الاجتهاد بالقضايا المستحدثة على الساحتين الداخلية والخارجية، الإقليمية والعالمية، في مواجهة تحديات حضارية جديدة. وهو اجتهاد في ظل ازدهار العلوم الإنسانية وليس مجرد قياس منطقي.
هو اجتهاد يأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتجددة من القدماء إلى المحدثين.
ويوضح: إنّ “الاجتهاد الفقهي والتجديد الحضاري صنوان”؛ الاجتهاد والتجديد والعمران، 3 مفاهيم يؤدي بعضها إلى البعض الآخر لإحياء ما اندثر، وإيصال ما انقطع، وبداية يبدأ المجددون والمصلحون منها.
يتسع مفهوم الاجتهاد بحيث يشمل التجديد في العلوم الإسلامية القديمة، بل في الموقف من الآخر، والموقف من الواقع الحالي بكل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لذلك فالاجتهاد كائن داخل النص منذ نشأته، وليس فقط في تفسيره وتأويله، يتطور حكمه بتطور الزمان وتغير المكان.
هكذا فعل الشافعي بتغيير أحكامه من العراق إلى مصر.
ويضيف حنفي أنّ “الاجتهاد ليس مجرّد آلية منطقية لاستنباط الأحكام؛ قضية كبرى (وهي الأصل)، وقضية صغرى (وهي الفرع)، وحد أوسط (وهو العلة)، ونتيجة (وهي الحكم)… بل هو تجديد للخطاب الديني، وتحوّل من النص المنزّل إلى النص المستنبط، من الوحي إلى العقل، من التنزيل إلى التأويل، وبهذا المعنى فالخطاب الإنساني هو امتداد للخطاب الإلهي، والخطاب الجديد امتداد للخطاب القديم… في تواصل وليس في انقطاع.
أعتقد أنه من هذه النافذة المشرعة لفهم الخطاب، التي نُدين بها للراحل حسن حنفي، يمكننا العمل على استخدام تحليل الخطاب للوقوف على كافة الزوايا التي ينطلق منها الخطاب المتطرف المؤدي إلى الإرهاب، والنجاح في تفكيكه… ربّما.
نقلآ عن حفريات