إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
كان مفهوم الجاهلية يعني، قبل سيد قطب ومحمد قطب، المرحلة التاريخية السابقة للإسلام، أو من الجهل؛ بمعنى عكس المعرفة أو الطيش والغرور، أو الخطأ والزيغ، وفي القرآن الكريم، قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ}، وقوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}، ويقول الشاعر “الجاهلي” عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلنّ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لكنّ سيد قطب أسّس على الآية القرآنية “أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؛ مفاهيم دينية وحركية وتنظيمية تؤسس للانفصال عن الآخر، بما هو الجاهلية؛ إذ ليس ثمة إلا حكم الله وحكم الجاهلية، فما كان ليس حكم الله فهو حكم الجاهلية، وهكذا امتدّ مفهوم الجاهلية ليشمل كلّ ما يعدّ غير إسلامي، أو ليس حكم الله، ثم ألّف محمد قطب كتابه “جاهلية القرن العشرين” مؤسساً لمفهوم ينفي الإسلام عن المسلمين جميعاً، عدا فئة قليلة هم “الإخوان المسلمون”، ثم خرجت جماعة “التكفير والهجرة” من وسط الجماعة لتراها هي أيضاً جاهلية، وليس سوى جماعة شكري مصطفى مسلمة؛ بل إنه عدّ الأمة جميعها دخلت في ردة منذ القرن الرابع الهجري.
يتساءل سعيد حوى، أحد منظري الإخوان المسلمين، في كتابه “جند الله ثقافة وأخلاقاً”: هل العالم الإسلامي في ردّة؟، ويجد أنّ العالم الإسلامي يعيش في ردّة؛ ففي مطالعاته للآيات التي توصف في الأدبيات الإخوانية بآيات الحاكمية، مثل قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، و{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، و{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}، وآيات أخرى كثيرة، ويستعيد ما قرره في كتابه “الإسلام” عن نواقض الشهادتين؛ تلك النواقض التي لم تجعل مسلماً، يصل إلى نتيجة أنّ الله هو “الحاكم المطلق”، وأنّ “أيّ خروج على هذه الحاكمية أو عدم الإذعان لها، أو عدم الاستسلام لها والرضا بها يعدّ خروجاً من الإسلام، لقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وبمطابقة حال العالم الإسلامي اليوم، وخروجه على أحكام الشريعة الإسلامية في السلطات السياسية والتشريعية، يجد أنّ المسلمين في حالة ردة، أو أنّهم في حالة ترك للإسلام، وإن لم يكن بعض المسلمين مرتداً، فإنّ طابع الردة هو الذي يصبغ حياة العالم الإسلامي باعتبار الحكم فيه آل إلى مرتدين، أو منافقين، أو كافرين أصليين.
ما هو المجتمع الجاهلي؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته؟ يتساءل سيد قطب، ويجيب: إنّ المجتمع الجاهلي هو كلّ مجتمع غير المجتمع المسلم، وإذا أردنا التحديد الموضوعي، قلنا: إنّه كلّ مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده، متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية، وبهذا التعريف الموضوعي تدخل فعلاً في إطار المجتمع الجاهلي، جميع المجتمعات القائمة اليوم على الأرض، بما في ذلك تلك المجتمعات التي “تزعم أنّها مسلمة”.
ويقول: “ليست وظيفة الإسلام أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كلّ مكان؛ فالإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور، فإما إسلام وإما جاهلية!”
وفي توضيح تطبيقي وتفصيلي لمفهوم الجاهلية، يقول سيد قطب: إنّ وجود الأمة المسلمة يعدّ منقطعاً من قرون كثيرة، ولا بدّ من إعادة وجود هذه الأمة، فالعالم اليوم يعيش كله في “جاهلية”، ونحن اليوم في جاهلية مثل التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كلّ ما حولنا جاهلية؛ تصورات الناس وعقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم، وثقافتهم، وفنونهم، وآدابهم، وشرائعهم، وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً، هو كذلك من صنع الجاهلية، ولأجل ذلك لا بدّ لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي، والتصورات الجاهلية، والتقاليد الجاهلية، والقيادة الجاهلية، خاصة في نفوسنا، وإنّ أولى الخطوات في طريقنا؛ أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي، وقيمه، وتصوراته، وألا نعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيراً، لنلتقي في منتصف الطريق، كلا! إنّنا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة، فإنّنا نفقد المنهج كلّه ونفقد الطريق؛ ولذلك فإن الذين يحاولون تقديم الإسلام في الحكم والسياسة والاقتصاد والدعوة إلى أنظمة إسلامية، هم أيضاً يقعون في الجاهلية وحبائلها، أو هم لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد الله، إنّهم مهزومون في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة. ينبغي أن يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنّهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين؛ أيجب أن يدعوهم أولاً لاعتناق العقيدة حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين؟!
تدخل في الجاهلية، كما يقول سيد قطب، المجتمعات الشيوعية والوثنية، التي ما تزال قائمة في الهند اليابان والفلبين وإفريقيا، والمجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعاً. وأخيراً، يدخل في إطار المجتمع الجاهلي، بنظره، تلك المجتمعات التي تزعم أنّها مسلمة، بدعوى أنّ الأصل الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها؛ هو دين الله ومنهجه للحياة، والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة وليست غامضة، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه، لا (الشعب)، ولا (الحزب)، ولا أيّ من البشر.
نقلآ عن حفريات