نزاريت سيفريان
عندما رُشِّحت إلفيرا نابيولينا لمنصب محافظ البنك المركزي الروسي، تصدر رد فعل واحد في مجلس الدوما أو البرلمان عناوين الصحف.
فقد قال فلاديمير جيرينوفسكي، رئيس حزب “الديمقراطيين الليبراليين” المشاغب، وهو معروف بالتعبير عن آرائه من دون مواربة، إنه يعتقد أن إدارة البنك المركزي تتطلب “عقولا لا يمتلكها إلا الرجال”.
وفي سنة 2024، بعد مرور أكثر من 10 سنوات، لا تزال نابيولينا ترأس البنك المركزي، لكن لم يعد جيرينوفسكي جزءا من المشهد، إذ توفي في سنة 2022.
في أول مقابلة مهمة لها بعد تعيينها محافظة للبنك المركزي قالت نابيولينا: “أعتقد أن البنك المركزي يجب أن يكون أكثر انفتاحا في سياساته.
ومع أن البنوك المركزية تكون في العادة هياكل مغلقة في الكثير من الدول، فإنني أدرك أهمية شرح ما نقوم به لمواطنينا”.
تعمل نابيولينا خلف واجهة من السلوك المهني المحسوب، ونادرا ما تبتسم خلال ظهورها العلني وتركز بشدة دائما على موضوع حديثها.
إنها هنا لأداء مهمة، ويبدو أن هذه المهنية أكسبتها ثقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أكثر من عقدين.
فماذا يعرف العالم اليوم عن المرأة التي سميت “مصرفية بوتين” والشخصية الرئيسة في المحافظة على فاعلية أداء الاتحاد الروسي الاقتصادي رغم الحرب في أوكرانيا؟
صعود إلفيرا نابيولينا
تعتبر نابيولينا عضوا في الحلقة المقربة من بوتين، لكنها تختلف عن كثير من أعضاء ذلك الفريق.
فهي امرأة وتنحدر من عائلة من الطبقة العاملة فيما يسمى الآن جمهورية باشكورتوستان في الاتحاد الروسي.
درست في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو الحكومية وأكملت دراستها قبل بضع سنوات فقط من انهيار الاتحاد السوفياتي.
وقد قالت في مقابلة مع الصحافي الروسي الشهير فلاديمير بوزنر في سنة 2014: “لا أستطيع أن أقول إن الاقتصاد هو ما جذبني، فلم أكن أعرف حقا ما هو.
لقد جذبني المجهول. عندما قدمت إلى موسكو للمرة الأولى وقرأت قائمة الكليات التي يمكنني الالتحاق بها، بدا لي كل شيء مألوفا باستثناء الاقتصاد، الذي لم ندرسه في المدرسة”.
المجتهدة في اقتصاد السوق
شغلت نابيولينا مناصب مختلفة في تسعينات القرن العشرين، وعملت مدة وجيزة في الحكومة، لكنها وقعت تحت تأثير بوتين عندما انضمت إلى لجنة التحضير لرئاسة روسيا لمجموعة الثمانية في سنة 2006، وفي أعقاب ذلك عينت وزيرة للتنمية الاقتصادية والتجارة في سبتمبر/أيلول 2007.
وكانت في تلك الأثناء قد اختيرت في برنامج زمالة جامعة يال العالمية المرموقة، لكنها لم تستمر فيه لتعيينها وزيرة.
وصفها أحد زملائها في الوزارة في ذلك الوقت بأنها “ذكية ومجتهدة ومرنة وليبرالية وخبيرة في اقتصاد السوق، تعمل وزيرة في اقتصاد سوق بعيد عن المثالية.
وهي في عداد فريق مليء بأشخاص يدور في أذهانهم سؤال واحد: لماذا؟ ولعل إلفيرا نابيولينا نفسها هي الوحيدة التي لديها الإجابة عن هذا السؤال”.
في سنة 2012، عاد فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا بعد تبادله مع ديمتري ميدفيديف. فعُيّنت نابيولينا مساعدة له للشؤون الاقتصادية، مما عزز مكانتها في الحلقة الضيقة جدا من المسؤولين الذين يعملون مع بوتين.
لها الفضل في استقرار الروبل
وفي يونيو/حزيران 2013، عينت محافظة للبنك المركزي الروسي.
ويُعزى إليها الفضل في استقرار الروبل وتعزيز ثقة المستثمرين الأجانب في سنة 2014، باتخاذ إجراءات مثل رفع أسعار الفائدة، والسماح بتعويم سعر الصرف بحرية، والمحافظة على سقف للتضخم.
كما سحبت التراخيص المصرفية من نحو 300 مؤسسة كان أداؤها ضعيفا، مستهدفة ثلث المؤسسات الائتمانية الروسية.
وتمكنت نتيجة لذلك من دمج القطاع المالي والمصرفي الروسي وتقويته.
وفي السنوات التالية، حصلت على إشادات من المجتمع الدولي.
حيث اختارتها مجلة “يوروموني” كأفضل محافظ بنك مركزي في سنة 2015، وسمتها مجلة “ذا بانكر” أفضل محافظة بنك مركزي في المنطقة الأوروبية عام 2017.
وقد اشتهرت طوال الوقت بنهجها المباشر والصريح، وردودها التحليلية على الأسئلة المتصلة بسياسات البنك المركزي والاقتصاد الروسي، بالإضافة إلى كفاءاتها المهنية.
“أخبرني صديق مقرب أنها إذا شاهدت عرضا إيضاحيا أمامها ثم شاهدت العرض نفسه ثانية بعد عام أو اثنين، تقول: (لماذا تعرض علي المعلومات السابقة نفسها؟) لديها ذاكرة ممتازة”.
تلك كلمات يفغيني كوغان، وهو مصرفي استثماري وأستاذ في المدرسة العليا الروسية المرموقة للاقتصاد.
وقال ذلك في تقرير إخباري في أكتوبر/تشرين الأول 2023 بمناسبة عيد ميلاد نابيولينا الستين. وكان قد أعيد تعيينها لولاية ثالثة قبل عامين.
“مصرفية بوتين” النظيفة
مع أن نابيولينا تحظى باحترام واسع في روسيا بوصفها مهنية ذات معرفة استثنائية بالمبادئ الاقتصادية والمالية، فإن تصرفاتها تفسر أيضا من منظار مصالح بوتين.
فقد أشار مقال نشر في موقع “إن بي آر” في سنة 2022 إلى أن نهجها في دمج المصارف بين سنتي 2013 و2017 عاد بالفائدة على ثلاث مؤسسات يملكها أوليغارشيون مرتبطون بالكرملين– “بنك أوتكريتي” و”بنك بي آند إن”، و”برومسفياز بنك”- وقد فشل هذا الدمج في ذلك الوقت، مما كلف البنك المركزي تريليوني روبل.
كما أوضح ماكسيميليان هِس، وهو زميل معهد أبحاث السياسة الخارجية في لندن، كيف ساعدت نابيولينا في إنقاذ شركة النفط الروسية الرائدة “روسنفت” من العقوبات الغربية باللجوء إلى “حيلة مالية سحرية بارعة” سمحت لها بإقراضها مليارات الدولارات باستخدام “السندات الإذنية” للشركة بمثابة ضمان.
وقال هِس في سنة 2022 إن ذلك يتعارض مع واجبها الذي يحتم عليها العمل مستقلة عن الحكومة بوصفها محافظة للبنك المركزي، مضيفا: “يقول البنك المركزي الروسي إن لديه تفويضا بحماية الاقتصاد والحفاظ على استقرار الأسعار كما هو حال معظم البنوك المركزية، لكن ليس لدى نابيولينا في الواقع إلا تفويض واحد وهو حماية الكرملين ونظام الكرملين”.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أطلقت مجلة “بوليتيكو” على إلفيرا نابيولينا لقب “المعطلة الأولى” في فئة المعطلين لسنة 2024، وقالت إنه لم يعد يمكن اعتبارها ذات تأثير يخفف من غلواء بوتين. بل هي داعمته الصامتة، وقد “نجحت في تفادي آثار العقوبات الغربية غير المسبوقة المصممة لاستنزاف خزائن الكرملين، وإطالة أمد الحرب على أوكرانيا”.
غير أنها لم تسعَ البتة لإثراء نفسها مباشرة، كما فعل كثير من المسؤولين في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي.
وقال سيرغي غورييف، وهو خبير اقتصادي روسي يعرفها منذ 15 عاما، ويعمل الآن أستاذا في معهد العلوم السياسية في باريس، في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز”: “لم تحم حولها أي شبهة فساد قط”.
نابيولينا- الإنسانة وعاشقة الأوبرا
نجحت إلفيرا نابيولينا إلى حد كبير في إخفاء جانبها الشخصي عن وسائل الإعلام خلال معظم حياتها المهنية.
فهي متزوجة ولديها ولد واحد من ياروسلاف كوزمينوف، وهو اقتصادي تميز بكونه أصغر رئيس لجامعة حكومية عندما عين في هذا المنصب في المدرسة العليا للاقتصاد.
غالبا ما تذكر وسائل الإعلام الغربية حبها للأوبرا، وهو ما أثنى عليه مشاهير المال مثل كريستين لاغارد في الماضي.
وقال بافل رومانوف، زميلها في الجامعة، في تقرير إخباري بمناسبة عيد ميلاد نابيولينا الستين: “كثيرا ما نلتقي معا في موسكو في المتاحف والمسارح.
فلا تزال مهتمة بالثقافة مثلما كانت وهي طالبة”.
وقد أشارت أيضا إلى حبها للأدب، وذكرت أن تولستوي وبوشكين وبرودسكي كتابها المفضلون.
وثمة جانب آخر يبدو أنه يثير اهتمام وسائل الإعلام وهو اختيار نابيولينا للملابس والرسائل الخفية التي يُفترض أن تنطوي عليها. فعندما غزت روسيا أوكرانيا في سنة 2022، رأى محللون أنها كانت “تعارض” تلك الخطوة، لأنها كانت ترتدي ملابس سوداء.
وتم الاهتمام على وجه التحديد بدبابيس الزينة (البروشات) التي ترتديها، والتي اعتقد كثيرون أنها تحمل رسائل “مشفرة”.
وبدا أن نابيولينا نفسها أكدت ذلك في مقابلة مع محطة “التلفزيون الروسي الدولي” في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
في ذلك الوقت، ظهرت علنا وهي ترتدي “بروش” يصور طائر “الدغناش” بعدما حافظ البنك المركزي على استقرار سعر الفائدة الرئيس للمرة الثالثة على التوالي، في حين كانت روسيا تتعرض لموجة ثانية شديدة من جائحة “كوفيد-19”.
وقالت نابيولينا آنذاك: “الدغناش طائر شتوي جميل يمكنه تحمل مختلف أنواع الصقيع. إنه قوي الاحتمال”.
لكن من هي إلفيرا الحقيقية؟
يبدو أنها أجادت عملها في تقديم شخصية محددة للجمهور، وعززت صورتها بوصفها مهنية تحليلية تقوم بعمل صعب. وفي المقابلة التي أجرتها مع فلاديمير بوزنر في سنة 2014، ربما اقتربت كثيرا من الكشف عن شيء من تفضيلاتها الشخصية.
فقد سألها المحاور بعض الأسئلة من “استبيان بروست” (هو كتاب “استبيان بروست: اكتشف نفسك الحقيقية- في 30 سؤالا بسيطا”.
وهو كتاب يقدم طريقة لاستكشاف الذات) في محاولة للتعرف عليها بشكل أفضل. فأجابت بأن الامتنان هو الخاصية التي تعدها الأكثر أهمية لدى الرجال، في حين أنها القدرة على الحب لدى النساء.
ووصفت نفسها بأنها “مملة” وقالت إنها “لا تطيق صبرا أحيانا على نقاط ضعف الآخرين” مع أنها “تتمنى لو كانت تستطيع تقديم شرح أفضل لماذا تعد إجراءاتها صحيحة”.
وقدمها بوزنر في المقابلة: “لو كان هذا البرنامج على تلفزيون أميركي، لقلت إنك تجسيد للحلم الأميركي”.
ولا شك في أن إلفيرا نابيولينا اجتهدت كثيرا في مختلف الأدوار التي قامت بها على مدار العقود الماضية، وما من شك على ما يبدو في أن أمامها المزيد من العمل الشاق.
المصدر : مجلة المجلة