أحمد سالم
كاتب مصري
في لحظة فارقة من تاريخ العالم؛ حيث يتداعى العنف باسم الإسلام في كلّ مكانٍ، نصبح في حاجة ماسّة إلى الكشف عن الوجه المتسامح للإسلام، عبر ثقافته وتاريخه، وذلك حتى نرى كيف نظر التراث الصوفي الإسلامي إلى المسيح؟ وكيف تجلّت صور المسيح في هذا التراث؟ وكيف انفتح التراث الصوفي على المسيحية وغيرها من الأديان؟ وكيف تجلّى الله كسبيل للمحبة والتسامح في التصوف الإسلامي؟ أسئلة كثيرة تطرحها سارة الجويني، في كتابها الصادر عن دار الطليعة ببيروت 2010، وفيه عالجت “صورة المسيح في التراث الصوفي الإسلامي”.
دأب المستشرقون على البحث في الأصول الأجنبية للتصوف الإسلامي، سواء أكان أثراً هنديّاً أو مسيحيّاً، أو بوذيّاً، أو فارسيّاً أو يونانيّاً، رغبة منهم في الانتقاص من أصالة التصوف الإسلامي، والنيل من العقلية المسلمة، لكنّنا في كتاب سارة الجويني، نجد أطروحة متألقة، تبحر وبقوة للكشف عن مدى وحدة التجربة الصوفية في كلّ الأديان، وأنّها تجربة متجاوزة لخصوصية الدّين، وتجربة تنفتح وبالكلية على كل التراث الديني في كلّ الأديان، وتكشف سارة الجويني في كتابها مدى حضور المسيح في التراث الصوفي الإسلامي، وأثره الكبير في متصوفة الإسلام .
تذهب الكاتبة إلى أنّ “المحبة الإلهية من أجزاء العقيدة الإسلامية، وهي العمود الفقري لدى المتصوفة منهم، فالغالب عليهم وصف المسيح، بأنّه مؤنس النفس ومحبوبها؛ فالمحبة تنمّي القوة الخاصة داخل المسيحي، وتمكّنه من التخلي عن أنانيته، وتفسح له المجال الحرّ للعطاء الحر للآخرين، باعتبار أنّ المحبة إنما هي كائن فعّال، ينتقل من الرضاعة إلى الطفولة إلى الكهولة، عبر تلك العلاقة الشخصية بالمسيح، والحبّ، لدى المتصوفة، يجري في الكون كما يجري الدم في الكائن الحي، وعلى ذلك؛ فدورة الحبّ تشبه الدورة الدموية، تبدأ من الله، وتعود إليه”.
ولا شكّ في أنّ مركزية المحبة في تراثنا الصوفي، يعود وبقوّة إلى التأثّر الواضح بتعاليم المسيح، وما بثّه من تعاليم المحبة في الأناجيل.
وقد تأثر بالمسيح وتعاليمه العديد من المتصوفة؛ حيث انطوى تراث ابن عربي على أوصاف كثيرة للمسيح، جاءت على سبيل التلميح والإشارة حيناً، وعلى سبيل التصريح حيناً آخر، وهي، في كلّ الحالات، تعبّر عن اعتناء ابن عربي بالمعارف الربانية، والأنوار الإلهية، والتنبيهات الشرعية، ويصرّح بأنّ نموذج المسيح وشرعه لصيق بذهن العارف من المتصوفة، كما جاء في الفتوحات المكّية “ولا يخلو من هذه الأمة من يصادف في عمله فيما يفتح له في قلبه، وطريقه من طرق الأنبياء المتقدمين، مما تضمنته هذه الشريعة، فإذا فتح له ذلك؛ فهو ينسب إلى صاحب تلك الشريعة، فيُقال فيه: عيسويّ أو موسويّ، وذلك لتحقق ما تميز له من المعارف، وظهر له من المقامات، ويرى ابن عربي أنّ الإسلام حوى حقيقة عيسى، وانطوى شرعه على شرعه، وإن كان تمثّل روح المسيح يصور في الكنائس، ويتعبّد بالتوجه إليه؛ لأنّ أصوله كانت عن تَمثل تلك الحقيقة في أمته، فقد شرّع لنا الرسول أن نعبد الله كأننا نراه، فأدخله لنا في الخيال وهذا معنى التصوير، وإن كان قد نهى عنه في الحس”.
وترى الكاتبة، أنّ للمسيح أثره البارز في عقيدة الولاية عند المتصوفة؛ حيث ” يبسط المتصوفة ومن خلال آثارهم المكتوبة، وسيرتهم المنقولة جوانب اتصال بين تصوّرهم لمقام الولاية، وخصوصية إدراكهم له، بما انطبع في الذاكرة من تصوّر للمسيح، في علاقته المزدوجة بين السماء والأرض، وجاء على ألسنتهم وأفعالهم صور ذلك الانطباع، ومستترة أحياناً تفهم من السياق العام للمتصوف، أو من خلال محاكاة الفكر المتأمل لتلك الآثار، باعتبار شراكة المتصوف في التجربة الروحية الإنسانية، التي من ضمنها شوق المتصوف الدائم إلى الترقي في المراتب، وملامسة مكانة النبيّ، أو الرسول، ومن بينهم عيسى، “ويؤكّد ذلك الحكيم الترمذي، حين قال: “الختم ختمان، ختم يختم الله به الولاية العامة، وختم يختم به الولاية المحمدية، فأمّا ختم الولاية على الإطلاق، فهو عيسى، عليه السلام، فهو الوليّ بالنبوّة المطلقة في زمان هذه الأمة، وقد حِيل بينه وبين نبوة التشريع والرسالة، فينزل في آخر الزمان بنبوة مطلقة “.
وتتعّرض الكاتبة لدور صورة المسيح في نظريات الاتحاد والحلول، والمحبة، ووحدة الوجود، وذلك بما يعكس مركزية المسيح في التصوف الإسلامي وقضاياه.
كانت صورة المسيح في التراث الصوفي جلية الملامح، عبر كتابات العديد من المتصوفة المسلمين، وعبر نزعاتهم الروحية، وفيض أشجانهم في أشعار أولئك المتصوفة، وعبر مقاماتهم وشطحاتهم، وإن تنحت في صورة المسيح وشخصه، تمثالاً صامداً عبر الزّمن، بوصفه يجسّد الرغبة الجامحة في الالتحاق بالله، والتحرّر من كلّ ما يشغل المرء عنه، كما مكّنت صورة المسيح المتصوفة المسلمين من الظفر بالهوية الغيبية؛ لأنّ المسيح يجمع الطبيعة البشرية بالطبيعة الإلهية، وذلك مطلب التصوف في الرقيّ بجسمه إلى شفافية الغيب، والقرب والدنو من الله، وعلى ذلك تعدّ شخصية المسيح مثالاً عزيزاً على قلب كلّ متصوّفٍ راغبٍ في السموّ بروحه.
ويبرز تبرير مشروعية التأثر بالمسيح، من خلال إيمان المتصوفة بنظرية وحدة الأديان، وعدم الاعتراف بالفواصل الزمنية بينها، باعتبار وحدة مصدرها وأهدافها؛ حيث يعزو الحلّاج وحدة الأديان إلى المحبة الإلهية، فما دام الناس يحبون الله، فيجب أن يكون هذا الحبّ دينهم، أمّا الاختلاف بينهم، فهو اختلاف في الأسماء، ومن هذا المنطلق، يتّخذ الحلاج لنّفسه ديناً، فيقول:
ما لي وللناس كم يلحونني سفهاً
ديني لنفسي ودين الناس للناس
والكلام عند الحلاج عن وحدة الأديان، يستلزم كلاماً آخر في الجبر؛ لأنّه يرى أنّ الله شغل بكلّ دينٍ طائفة، لا اختيار منهم؛ بل اختيار عليهم، ومن لام أحداً ببطلان معتقدٍ من المعتقدات الدينية، خطأً وضلالاً، فدين التوحيد ليس لديه أكثر من صحّة دين التثليث، وفي ذلك يقول:
كفرت بدين الله والكفر واجبٌ
لديّ وعند المسلمين قبيحُ
ومما سبق يظهر لنا، أنّ المنطق الذي يحكم الحلاج مختلف، من حيث سعة الرؤية للأشياء، ومن حيث التعامل معها، وإن كان لا يختلف مع مجموع المسلمين في شيءٍ من مبادئ الإسلام، لكنّ انفتاح قلبه على الثقافات والديانات، جعله ينشد من داخل قلعته:
على دين الصليب يكون موتي
ولا البطحا أريد ولا المدينة
ولعلّ هذه النظرية استهوت ابن عربي، بعد بضعة قرون، الذي اعتبر أنّ الإنسان يدين بما يراه؛ لأنّ الإله في كلّ كائن من الكائنات، كما في قوله:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا
وما الرب إلّا راهب في كنيسة
كما يدعو إلى عدم التقيد بدين معين؛ لأن ذلك يجعله يكفر الأديان الأخرى، كما صرّح بذلك:
عقد الخلائق في الإله عقائداً
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
وطالما أنّ عقيدته تلك جامعة لمعتقدات جميع الناس، فهي تشمل ديانات السماء، وعقائد الأرض كلّها؛ حيث لا يفرّق بين وثنية قديمة أو إلحادية جديدة، لا بين إسلام ونصرانية أو يهودية، إنّ نظرية وحدة الأديان لدى ابن عربي، جعلت منه رجلاً منفتح القلب على جميع الديانات، فالعارف الكامل، في نظره، هو الذي يدرك أنّ العبادة الصحيحة، هي التي ينظر العبد من خلالها على أنها مجال لحقيقة واحدة، هي الله كما يستشف من هذه الأبيات:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دانٍ
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني.
وعلى الرغم من التأثير الواضح للمسيح وتعاليمه، في التجربة الصوفية، فإن ذلك يكشف عن عمق الوحدة الحاكمة في التجربة الصوفية في كل الأديان، وذلك لأنّ “الكلّ الثقافي، في العرف الصوفي، لا ينظر إلى الأجزاء الهائجة في موروثه؛ بل إلى العلاقات السارية في منطق الإبداع المتجدد، وفي العلاقات الوجدانية تجاه الإشكاليات الكبرى للوجود، والعمل على حلّها بمعايير الحق السامي، فعندما يقبل المتصوّفة على الله، يجيء بكلّ ما عنده؛ لأنّ الكلّ هو العروة الكبرى، والحقيقة العظمى في الوجود”.
إنّ التشبه بالله، هو لدى المتصوفة جميعاً، المطلب الأعلى؛ لأنّ أغلبهم يعدّ أنّ الإنسان الواقعي، هو مثال، أو نموذج للعالم الذي كانت توجد فيه روحه.
إنّ كتاب سارة الجويني عن صورة المسيح في التراث الصوفي الإسلاميّ، يكشف لنا وبقوّة أهمية وعمق التجربة الصوفية، التي تتلاشى عندها خصوصية كلّ دينٍ، وذلك بما تتمتع به التجربة الصوفية من انفتاحية على التراث الإنسانيّ بأكمله، وتذيب الفوارق العصبية بين كلّ تراث وآخر، وذلك لصالح المشترك الإنساني العام بين البشر، ولذلك فإنّ هذا الكتاب يكتسب أهميته في اللحظة التاريخية الراهنة، بما يدعو له من قيم التعايش والانفتاح، والتسامح، والمحبّة بين البشر، على اختلاف أديانهم ومللهم ونحلهم وأعراقهم، فهل يكون فضاء التصوّف الرحب، هو الملاذ الأخير لرؤية الدين القائم على التسامح والمحبة بما يرسّخ للتعايش السلمي؟
نقلآ عن حفريات