رباب كمال
كاتبة مصرية
لطالما كانت نبرة الصوت الخافتة للدعاة مؤشراً على سماحة الخطاب الديني لدى الجماهير، فأصبح التشدّد لدى الجموع الغفيرة الباحثة عن خطاب “وسطي”، مرتبطاً بغلظة الصوت في خطاب بعض الأئمة، فنبرة الصوت الرخيم الهادئ، قد تخفّف من حدّة المفردات في فتاوى تتّسم بالغلوّ.
الصوت بطبقاته بات مؤشراً للتمييز بين الخطاب الوسطي والآخر المتشدّد، وكذلك لغة الجسد؛ فالإمام الذي يميل إلى الهدوء وعدم استخدام حركات اليد المفرطة أثناء الحديث؛ قد تراه الجماهير وسطياً، بغضّ النظر عن فحوى الفتوى التي يلقيها، فإلى أيّ حدّ قد يلهي الصوت ولغة الجسد الهادئة عن مضمون الفتوى ذاتها؟
ماهية الوسطية
الوسطية: كلمة مشتقة من الأمة الوسط، عملاً بالآية القرآنية ﴿وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، كما وردت في سورة (البقرة: 143)، وبحسب تفسير ابن كثير؛ فهي تعني الخيار الأجود؛ أي الأفضل، والمقصود به الاعتدال.
هكذا انتشرت كلمة “الوسطية”، بمعناها الحديث والمعاصر، لتمثّل حالة التضاد مع الغلوّ والتطرف الديني، ويدعونا ذلك لعدة تساؤلات أهمها؛ ما هو مقياس الوسطية؟ ومن الذي يحكم على فتوى أو شخص أو مؤسسة دينية بأنها وسطية؟
على سبيل المثال لا الحصر؛ دعاوى عدم الاختلاط بين الجنسين، التي احتلت مساحات كبيرة من فتاوى السلفيين، في حقبة تُعرف باسم “الصحوة الإسلامية المعاصرة”، في سبعينيات القرن الماضي، وأصبحت قضية الاختلاط في بؤرة المعارك، خاصة في الجامعات الحكومية، وهو ما تطرّق إليه د. فؤاد زكريا، في كتابه “الصحوة الإسلامية في ميزان العقل” (1987).
وعلى مدار أعوام؛ استهجنت الجماهير المتمسكة بالخطاب الوسطي هذه الدعوات، على اعتبار أنّها غلوّ وتطرّف زائد عن الحدّ، خاصّة حين صرّح الشيخ السلفي أبو إسحاق الحويني، العام 2016، بأنّ “الطالبات المختلطات مع الذكور في الجامعة آثمات”.
رغم ذلك؛ لم يقترب مستهجنو خطاب الحويني قيد أنملة من نقد ما أسموه “خطاب الوسطية” للشيخ الشعراوي؛ حيث قال الأخير، في حديث تلفزيوني: “الاختلاط حرام شرعاً، والسماء لا تنزل لمستوى الأرض؛ بل الأرض هي التي ترتفع للسماء، لأنّ السماء هي التي تشرّع”.
وفي برنامج “لقاء الإيمان”، وهو من تقديم فوزي ناصف، وإخراج إبراهيم عكاشة وأُذيع على شاشة التلفزيون الرسمي المصري، سأل المذيع الشعراوي آنذاك قائلاً: “لكنّ المرأة تختلط بالرجال في العمل”، فيقول الشيخ الشعراوي: “من الأول هذا أمر خطأ”.
هذا مجرد مثال بسيط من بين جملة مواقف فقهية عديدة، تقاربت أو تطابقت فيها الفتوى المتشددة مع الفتوى الوسطية في العقل الجمعي للجماهير، لكنّ النبرة الحادة والوجه المتجهم هما ما يثير الجماهير أكثر من مضمون الفتاوى ذاتها، وتعدّ قضايا المرأة والأقليات العقائدية، تحديداً، من أكثر القضايا التي قد يُصعب فيها التمييز بين الخطّ الوسطي والخطّ المتشدّد؛ فـ “الاختلاف هنا أصبح في الدرجة، لا النوع، كما قال المفكّر المصري الراحل د. نصر حامد أبو زيد، في كتابه “نقد الخطاب الديني”.
الوسطية المبهمة في قضايا التكفير
ارتبطت كلمة الوسطية بفقه المراجعات، إلّا أنّ هذا يزيد المصطلح ضبابية، فما هي المراجعات والمرجعيات التي يمكن الاحتكام إليها، لتمثل الفيصل النهائي بين ما هو معتدل وما هو متشدّد؟
لعلّ قضية التكفير والردّة عن الدين الإسلامي هي من أكثر القضايا الشائكة في ميزان الوسطية، فغالباً ما يُفتي دعاة الوسطية بضرورة إقامة حدّ الردة، إلا أنّ الصوت الهادئ الرزين في قول الفتوى أو مقام قائلها لدى الجماهير، قد يخفّف صدى تلك الفتوى.
مثلاً؛ يقول رئيس جامعة الأزهر الأسبق، د. أحمد عمر هاشم، في حوار متلفز: “حدّ الردّة لم يرد في القرآن، إلا أنّ السنّة النبوية جاءت شارحة للقرآن”، واستدلّ بحديث “من بدّل دينه فاقتلوه”، قائلاً: “الخلاف بين الفقهاء جاء على خلفية مدة الاستتابة التي تسبق تنفيذ حدّ الردة، وليس على إقامة الحدّ نفسه” (برنامج “السلام عليكم”، قناة القاهرة والناس، حلقة يوم 18 تموز (يوليو) 2014).
ورغم الانتقادات الموجّهة لتنظيم داعش، بسبب إقامته حدّ الردة في التوقيت ذاته؛ فإنّ فتوى د. أحمد هاشم لم تحدث دويّاً إعلامياً، وهنا تتضح الصورة المبهمة قليلاً؛ وهي أنّ الاعتراض ليس على حدّ الردّة ذاته، إنما على كيفية تطبيقه والجهة الشرعية التي تحكم به؛ فالاختلاف هنا كان على تحديد “أولي الأمر” الموكول إليهم تطبيق حدّ الردّة.
عبّر الشيخ محمد الغزالي، ويشار إليه بأنّه من القامات الوسطية، عن هذه الإشكالية؛ حين أدلى بأقواله في “محاكمة التكفيريين”؛ الذين قتلوا د. فرج فودة (1992)؛ إذ قال: إنّ “غياب حكم الله في إقامة حدّ الردّة يتسبّب في فوضى المجتمع، وحكم الله لا يلغيه أحد، وإن نفذ آحاد الناس الحدّ، يكون مفتئتاً على السلطة ولا عقوبة لذلك في الإسلام”(مجلة “الوعي” الإسلامية، العدد رقم (75)، عام 1993، شهادة الشيخ محمد الغزالي أمام محكمة أمن الدول في مصر).
والمفتئت على السلطة: مفتئت أو مفتأت، في معجم المعاني، أي: انفرد بالأمر، مضى عليه، ولم يستشر أحداً.
التكفير المطلق والتكفير الـمُعين
الوسطية، كمفهوم، يظلّ حائراً وسط المصطلحات الفقهية، ومن بينها: التكفير المطلق، والتكفير الـمُعين (بضمّ الميم).
والتكفير المطلق هو تكفير الفعل؛ أي القول إنّ من فعل هذا، أو قال ذاك، كافر في المطلق، دون تحديد شخص بعينه، أما تكفير الـمُعين؛ فهو تكفير شخص بعينه، ولا بدّ من أن يتمّ وفق معايير فقهية من أهل العلم، أو كما يقول الشيخ صالح الفوزان: إنّ “تعيين، أي تحديد، شخص والحكم عليه بالكفر، أمر خطير ليس ملكاً للعامة، بل للفقهاء والقضاة؛ أي أنّه لا يعترض على مبدأ التكفير، إنما يوكله لأناس بعينهم”.
تتّضح الصورة أكثر؛ حين يقول الأستاذ بكلية المعلمين بالرياض، عبد الله الجبرين، في مقدمة كتابه “ضوابط تكفير الـمُعين”: “هناك أزمة؛ إمّا في الإفراط أو التفريط، في تكفير المسلم الـمُعين، فالإفراط هو تكفير دون سند شرعي، والتفريط هو رفض التكفير، رغم ثبوت الكفر بالسند الشرعي”.
لذلك؛ فإنّ الوسطية لا تعني رفض التكفير، لكن العمل وفق ضوابطه، وهنا تحدث الأزمة في المصطلحات؛ فالتكفير في إطاره العام يتناقض مع فكرة التعايش والتسامح والاختلاف في الرؤى، لكنّ التكفير لا يتناقض بالضرورة مع كلمة وسطية؛ لأنّ الوسطية لا تعني التسامح أو التعايش بالضرورة، وإنما تعني المنطقة الوسط بين الإفراط في شيء والتفريط فيه” كما أشار د. عبد الله الجبرين.
فالخطاب الوسطي؛ قد يكون خطاباً أقلّ تشدداً، لكنه ليس سمحاً بالضرورة، هكذا أصبحنا في دائرة مفرغة؛ بين التكفير الدعوي والتكفير الجهادي: الأول يرتدي عباءة الوسطية، ويتبنّى خطاباً مهادناً، يعتمد على ترك الأحكام في يد أولي الأمر بضوابط شرعية، والثاني: خطاب مسلح، لأنّه لا يعترف بأولي الأمر من الحكّام، ويعدّهم من الطواغيت.
هنا؛ ينتقل خطاب التكفير الدعوي، الذي يعتمر عمامة الوسطية، إلى منطقة أخرى؛ هي تعيين وتحديد دائرة المرتد، التي تطال عادةً الكتّاب والأدباء أو الحقوقيين.
نقلآ عن حفريات