أحمد عبد الحليم
بعد الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق فلسطينيي غزة منذ أكثر من 10 أشهر، كثرت الكتابات التي تناولت عدة مفاهيم حول الاستعمار والإبادة والجسد والمقاومة وماهية الحياة وما بعدها في ظل التوحش الإبادي، وغير ذلك. من ضمن هذه الكتابات ما صدر عن دار مرفأ (بيروت) هذا العام، وهو كتاب “الوصايا: شهادات مبدعين ومبدعات من غزة في مواجهة الموت”، ليجمّع الكتاب أشعارهم ونصوصهم وقصصهم.
جاء الكتاب بمقدمتَين من الكاتب والمترجم الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، والمنظّرة والباحثة الأمريكية جوديث بتلر، ومن تحرير ومراجعة الكاتبة والشاعرة الفلسطينية ريم غنايم. كانت المقدمتان، على غرار الوصايا ذاتها، تتساءل، لا تعرف، أو تعرف لكنها تستنكر، وتصرخ في وجه هذا الوجود، العالم، الأرقام، والزمن وما يمرُّ به من مآسٍ لا تتوقف.
الوصايا، ولو أنني لا أحبّذ استعمال مفهوم الوصايا لهؤلاء الكتّاب، لأنه مفهوم دلَّ على الكتابة قبل الموت، مع أن هذه الكتابة تحاول، حتى وإن فشلت، أن تنفي هذا الموت. لكن أيضًا هذا موت مختلف، موت من نوع آخر، نوع قاتل، إبادي. لذا ربما تنجح الكتابة في نفيه، في إيقافه.
كانت هذه الصرخات المقاومة لمجموعة ممّن مورست عليهم الإبادة، باختلاف أعمارهم ومهنهم وأفكارهم، لكنهم اجتمعوا على الصراخ في وجه القتل، في وجه الكتابة ذاتها، كما يفكر الكاتب الغزي يسري الغول حين قال: “إن ما جرى فوق الخيال، ويتجاوز فكرة الانصراف إلى الكتابة في هذا الوقت العصيب، فتحريض العقل على طهي نص مسبوك، لأجل صديقة تقطن في الضفة الأخرى من الوطن، محض هراء، أن نجمع الوصايا المتخمة بالموت في كتاب يوثق اللحظة، كي نضع العالم أمام واجبه الأخلاقي تجاه الإنسان المهزوم في قطاع محاصر، يشبه المدن المتحضرة رغم لونه قاتم السواد، يسمّى غزة”.
الحلم، أو الذكرى، ذكرى حتمية المقاومة برفقة وجود الموت، ومعهما يتمشّى الإنسان الغزي ذاته، ذكرى وجوده في أرضه، مع أهله وأحبابه وأشيائه، هكذا ترك الكاتب والشاعر رفعت العرير كلماته الأخيرة، وكأنه يشترط على الموت، إن أتى، وهو يعرف أنه قادم، فليأتِ بحياة جديدة، لناس وأحلام وأشياء جديدة، تكمل مسيرة الإنسان الغزي، فيقول:
“إذا كان الموت لزامًا عليَّ
لا بدَّ أن تحيوا أنتم
لترووا حكايتي
لتبيعوا أغراضي
لتقتنوا قطعة من الملابس
وبعض الخيوط
(ولتكن بيضاء ذيلها طويل)
حتى يرى طفل، في مكان ما في غزة،
وهو يتأمل السماء
ينتظر والده الذي رحل في انفجار
ولم يودّع أحدًا
ولا حتى لحمه
ولا حتى نفسه
يرى طائرة ورقية، أنتم من صنعها، تحلّق
عاليًا
ويحسب للحظة أن ثمة ملاكًا هناك
يردُّ الحبَّ
إذا كان الموت لزامًا عليَّ
فليأتِ بأمل
وليأتِ بحكاية”.
لكن إلى متى نتحايل على الموت، ألا تكون نهايته هي النهاية الأخيرة فحسب، وأن نطلب منه حياة جديدة من دون موت إباديّ. هذا هو الكبرياء، هو أن تقول للموت تعالَ، لكنك لن تأتي مرة أخرى، لأننا لن نُكرر أنفسنا أو نُكرر مأساتنا أو دمائنا. إنها النهاية، نهايتنا، لن نترك أجسادنا مرة اُخرى للتمزق بواسطة طائرات الإمبريالية الصغيرة التي تُسمّى “إسرائيل”. هذا هو معنى الكرامة والانتصار في كلمات الشاعرة أمل أبو عاصي، التي تقول:
“لو رحلنا اطووا صفحاتنا، مزّقوا فلسطين من كراسة ذاكرتكم، فليس لكم بها حاجة، أخبروا أصدقاءكم أنه كان هناك أمل، ثم انطفأ. واصلوا حياتكم كأننا لم نكن. العبوا، اشربوا، كُلوا، تنزهوا، احتفلوا، تزينوا، غنوا، ارقصوا، افعلوا أي شيء”.
وتخصُّ الكاتبة، تحديدًا، تخاذل العرب من جيران فلسطين، فتقول في كبرياء: “حين نرحل، مزّقوا كتب التاريخ، ولا تخبروا أولادكم أنه كان هناك شعب قاوم خمسة وسبعين عامًا دون أن يفقد الأمل، قبل أن يقتله الأمل. حين نرحل، إياكم أن تخبروهم (أولاد العرب) أنكم انشغلتم بإنجازاتكم العظيمة، فصنعتم أكبر صحن تبولة، وأعظم طنجرة مقلوبة، وأفخم منسف باللحم، وألذ طبق كشري، وأروع موسم فني للرقص والغناء بينما كانوا يُبادون حدهم”.
هل بعد أن تنتهي الحرب، بما ستخلّفه من أشلاء ودماء وركام وحطام، ستبقى الأرض، كما كانت من قبل، هل سيحبّها الغزي؟ أم سيرى أنها أخذت كلّ ما لديه، حتى أنها أفنته تمامًا، وما كان لها إلّا أن تخبئه في جوفها بعد موته.
في ظلّ الإبادة على صوت صرخات الأطفال من الجوع، وانكسارات القهر التي يشعر بها الآباء تجاه أطفالهم، كتب الشاعر حسن حرز الله، بعدما أن استبعد وصيته من القراءة بواسطة العالم القذر، المشارك والمتواطئ والمتفرج على الإبادة، وخصص العالم الصغير الجميل النقي كي يقرأ.
يكتب حسن لهذا العالم الصغير: “هل كُتبت لنا الحياة كي نمشي مرغمين أو متفقين في طريق الموت؟! أم أننا شعوب الأرض جئنا خطأً أو زيادة غير ضرورية ويجب التخلص منها؟! وتكون المعضلة الحقيقة هنا، هل نستسلم للموت أم نقاوم؟ بينما المقاومة الوحيدة التي تصلح مع الموت في شبه الحياة التي نعيشها هي الهرب أو الاستسلام! إذًا، كما قالت جدتي ذات مرة، ننجو بأجسادنا لننقل الحكاية، علَّه يخرج من أصلابنا من يقدر على إعادة الحق ومواجهة الموت”.
هنا المعضلة أنّه لا مفر من الموت، ولا مفر من الأرض أيضًا. لذا، من يخرج من الأصلاب سيقاوم مع من خرج قبله، أو سيخرج بعده، لإعادة شيء ما نحو الصواب. الحق. الدم. الأرض. حتى الموت ذاته سيُعيده موت لذاته أو موت للمستعمِر، فلا مفر من الأرض ولا من الحياة ولا من الموت.
الأمان. هذه هي الكلمة التي ركض مئات الآلاف من الغزيين لشهور طويلة، منذ بداية الإبادة وإلى الآن، بحثًا عنها. أمان الجسد. وأعضاؤه كلّها، عضوًا عضوًا. أمان من الموت، العريّ والجوع. هنا كما صوّره أخصائي الصحة النفسية، والكاتب والقاص الغزّي سعيد كحلوت، كأنه شبح قاتل، ينتقل معه هو وأسرته والغزيين كلهم، حين ركضوا، يركض معهم، يلاحقهم، يسبقهم، حيث وضعوا أجسادهم.
أحيانًا ينتظرهم، كأنه يقول لهم لن آتيكم في هذه الدقيقة، لكن ربما الدقيقة القادمة، أو في الليل، أو حتى قبل شقشقة الصباح، حتى أنه يفزعه، ومعه آلاف الآباء، حين تطمئن قلوبهم أن أولادهم يأكلون، قبل أن تبلغ اللقمة طريقها إلى بطونهم.
يقول سعيد، وكأنه يكتب وهو يجري، ويتلفّت حوله: “كان الموت أحيانًا يقف على رأس الطريق يلوح لي ساخرًا أرجع ثم أتقدم، وأحيانًا يجلس كسكّير على جانب الطريق بعد منتصف الليل بينما أركض أنا وأطفالي هربًا من قصف مجاور، فيقف هو ويتحقق من هويتنا، قبل أن يواجهنا ساخرًا لخطة لجوء جديدة”.
هذه الشهادات، الوصايا، والصرخات، ما هي إلَّا بحث عن بدائل، بدائل للحياة وبدائل للموت، وكأنها تتساءل قائلة، إن لم يكن هناك مفر من الموت، فهل هناك أي شيء آخر، حتى لو لم يكن حياة؟ وحيث إنه لا يوجد شيء آخر، إذًا فلتكن صرخاتنا آخر ما نتركه للحياة والموت معًا.
المصدر : نون بوست