محمد جميل أحمد
كاتب سوداني
إذا لم يكن في مقدور الأيدولوجيا، بوصفها خطاباً نسقياً مدوراً، إنتاج انفتاح إنساني مُحرِر للفنون، حتّى في سياق التعبيرات الدنيوية لحركات اليسار، على ما كشفت كتابات كثيرة هشّة، لما سمِّي ذات يوم “الأدب الملتزم”؛ فإنّ الأيدولوجيا، من ناحية ثانية، تكشف لنا في سياق تجارب حركات الإسلام السياسي، ليس ما يدل على وفرة الخطابات “الفنية” الفقيرة جداً فحسب؛ بل ما يدل على خواء مصداقية ما يسوّق الإسلام السياسي من شعارات أيضاً. فكما بدا واضحاً عجز الإسلام السياسي عن إنتاج خطابات معرِّفة لسياقات الواقع؛ فإنّ انكشاف حركاته في جانب الفنون، هو الأكثر تعبيراً على نفي تلك الادعاءات التي تزعم، من شمولية متوهّمة لخطاب ينظم الحياة بأسرها!
والحقيقة، أنّ خطاب الفنّ فضّاحٌ وغيور، لاتّصاله بالحرية من ناحية، والضّمير الإنساني من ناحية ثانية، ولعلّ هذا ما يفسّر لنا غياب شاعر واحد كبير، أو مسرحي كبير، يمكن أن تنجبه تيارات الإسلام السياسي!
الوهم الذي يمكن تمريره في الخطابات الشعبوية، عبر استثمار واقع متخلّف كواقع المنطقة العربية، لا يمكن أن يكون منتجاً لقيمة فنية أو فلسفية أو شعرية، ويستحيل عليه، في الوقت ذاته، بروز شاعر كبير، ناهيك عن مجموعة من الشعراء، أو غيرهم من الفنانين!
فحركات الإسلام السياسي؛ إذ تسعى إلى تمثيل واقع متخيّل طهوريّ، لا وجود له إلّا في تصوّرات أتباعها، ستكون أبرز محطّات الحياة التي يصطدم بها واقع كهذا، هي محطة الفنون بمختلف أنواعها؛ فالفنون بوصفها تعبيرات إنسانية حرّة، ومتّصلة بالضمير البشري، ستجد، بالضّرورة، في تحديدات الأيدولوجيا وسياجاتها، ولا سيما الأيدولوجيا الإسلاموية، ما لا يمكنها التعايش معه؛ إذ تمارس تلك التصورات الطهورية قمعاً مواصلاً لحريّة الفرد وضميره، وتقسره على تمثيل خطاب فنّي ذي نزعة جماعية مشدودة إلى واحدية مسطّحة وواضحة، ومعمّمة تعميماً يخرج الفنّ عن فرديّته التي تكمن فرادته فيها؟!
يأتي الفنّ شاهداً على لا مصداقية دعاوى حركات الإسلام السياسي في تمثيلها الزائف “للإسلام”، عبر دعاوى شموليتها للحياة؛ فهو يقف، جنباً إلى جنب، مع قوانين الواقع التي تكذّب أوهام الإسلامويين، ولا سيما حينما يتوّلوا السلطة. ربّما هي مفارقة غريبة، في ألّا يكون هناك فرق، إلّا في الدرجة لا في النوع، حيال الآثار التي تنتج عن تولي الإسلامويين للسلطة، سواء جاؤوا بانقلاب عسكري (كما في السودان)، أم جاؤوا عبر انتخابات ديمقراطية، كما في تجربتي حماس والإخوان في مصر؟!
في السودان، حين كانت الحركة الإسلامية السودانية في المعارضة (وهي الحركة التي توصف بأنّها الأكثر انفتاحاً على الفنون والمرأة، والتجريب بين الحركات في المنطقة) كانت هناك دعاوى عريضة في رسائل صغيرة جداً، (كرسالة الترابي بعنوان “حوار الدين والفنّ”)، إلى جانب ادّعاءات حاولت تعويم البعض من فقيري الخيال والوجدان، كـ “أمين حسن عمر” على أنّهم شعراء! (من يتذكّر اليوم كتاباً شعرياً، أصدره أمين حسن عمر، بعنوان “أشجان التوحّد” على أنّه نموذج لشعر إسلامي!)، إلى جانب مسرحيات قصيرة وبسيطة للغاية، فضلاً عن الأناشيد الحماسية التي تمّت سرقة ألحانها من أغنيات، أو موشّحات دينية سودانية؟ بعد ذلك بسنوات، حين صار أمين حسن عمر مديراً للتلفزيون، عقب استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة بانقلاب، تبخّرت المزاعم الأيدولوجية، وتلاشى الصّراخ الذي كانوا يزعمونه حول “البديل الإسلامي” للفنون.
وقد اضطر أمين حسن عمر، بعد أن صار مديراً للتلفزيون السوداني، إلى إعادة بثّ المسلسلات المصرية والعربية (وكان قد تمّ توقيفها لأعوام بعد انقلاب العام 1989) بحجّة أنّ إنتاج المسلسلات “الإسلامية” سيكلّف الحكومة تكاليف باهظة! والحقيقة أنّ المشكلة لم تكن في التكاليف، إنّما كانت في فقر الخيال والإبداع، اللذَين لا يزهران في كنف الأيدولوجيا!
فيما الإسلاميون يزعمون أنّهم يستأنفون حياة إسلامية “حقيقية”، وجدوا أنفسهم أمام فراغ عريض فضحه الفن، أكثر ممّا فضحتهم المعرفة، والواقع؛ أنّ الفنّ هو التعبير الأسمى والمباشر عن الضمير والحرية.
لقد حفل تاريخ الإسلام بشعراء كبار؛ كالحلّاج، والمتنبي، والمعرّي، في ظلّ الفنون التي كانت التعبير الإنسانيّ الحرّ والطليق عن الإبداع الأصيل في حياة المسلمين، ربما كان من المهم، اليوم، تتبّع: كيف أنّ الفنون هي المؤشر الأبرز في تعرية زيف الأيدولوجيا الإسلاموية (كما تعرّيها قوانين الواقع، وشروط المعرفة)، فهوية الفنّ واتّصاله الوثيق بالحرية والضمير الإنسانيَّين، لاسيما الشّعر، هو صوت اللّسعة الأولى في مهمة التمرد على الأيدولوجيا.
ذات مرّة، قال الشاعر والمسرحي الألماني الكبير “برتولد بريخت”، أيَّام النازيَّة: “لن يقول الناس كانت الأزمنة رديئة، لكنّهم سيقولون: لماذا صمت الشّعراء!؟”.
نقلآ عن حفريات