رباب كمال
كاتبة مصرية
شهدت ثمانينيات القرن الماضي، العقد الأخير في الحرب الباردة التاريخية بين المعسكرين الغربي والشرقي، وفي خضم هذا الصراع قام الاتحاد السوفييتي باجتياح أفغانستان العام 1979، لتصبح هذه المنطقة مسرح معارك عسكرية بين الطرفين.
هرع الاتحاد السوفييتي إلى دعم الحكومة الأفغانية الموالية له لمواجهة المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها، التي المجاهدين بالسلاح والعتاد.
تصدّرت الإدارتان، الأمريكية والبريطانية من المعسكر الغربي، مهمة التصدي للتوسع السوفييتي، وتجلت خطابات الخلاص الإلهي أو ما ُيمكن تصنيفه خطاب استدعاء الله في النزاع السياسي والاقتصادي بين الرأسمالية والاشتراكية، وكذلك في سباق التسلح النووي بين قطبي العالم حينها، وفي خضم معركة الاقتصاد والتسلح النووي على الأرض، تجلت السماء بحضورها الديني في الخطابات السياسية الرسمية.
الذات الإلهية في خطابات اليمين المحافظ
كان الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (1981- 189) في هذه الفترة قائداً للثورة على علمانية أمريكا في الستينيات والسبعينيات، حسب وصف الأكاديمي الأمريكي سكوت هيبارد Scott Hibbard صاحب كتاب Religion in secular states أو الدين في البلاد العلمانية، فيذهب ريغان إلى حد الإشارة إلى أنّ الإنجيل يحتوى على كافة الإجابات لتحديات أمريكا الراهنة، وصنع الرئيس سمة مميزة في خطاباته ربطت بين الدين والوطنية، واتخذ من هذا الخطاب ركيزة لمزيد من الدعم الجماهيري والسياسي من أجل مواجهة النظام الشيوعي ودعم المجاهدين في الحرب الباردة فيما عُرف تاريخياً بـoperation cyclone أو عملية الإعصار.
أما المجاهدون الذين دعمهم ريغان فكانوا على خط موازٍ، يرون أنّ القرآن الكريم يحمل كافة الإجابات لتحديات العصر.
ركّز سكوت هيبارد في كتابه على جنوح ريغان إلى الربط بين السياسة الخارجية والقداسة الدينية، لكن وجبت الإشارة إلى أنّ خطاب القداسة المسيحي في خطابات بعض رؤساء أمريكا كان يصطدم بحاجز الحريات الفردية والشخصية داخل البلاد بسبب الفصل التشريعي بين الكنيسة والدولة، لذا كان تطويع الدين في السياسة درباً من دروب الضغط والبروباجندا السياسية.
وفي ذات السياق، قامت رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك مارجريت تاتشر (1979-1990) بوصف الاتحاد السوفييتي بـ (نظام شيوعي بلا إله) The Godless communist system حين زارت باكستان العام 1981، وأثنت على المحاربين الأفغان الذين يرفضون تحمل احتلال بلادهم من قبل “دولة بلا إله”.
وكانت مفردات تاتشر محسوبة وموجهة؛ فهي لم تحث المحاربين على الانتصار من أي احتلال غاشم، بل من الاحتلال الملحد، فبلادها بريطانيا كان لها تاريخ مديد في احتلال الشعوب، وهنا طوّعت تاتشر خطاب القداسة الدينية ودلّ ذلك على وعيها الكامل باستمالة المجاهدين، على اعتبار أنّ المسيحية والإسلام من الديانات الإبراهيمية، التي وإن اختلفت تقف معاً لمجابهة الإلحاد، بالرغم من أنّ الصراع كان على النفوذ الاقتصادي والتسلح النووي في مقامه الأول.
من يتمعن في قراءة هذه الحقبة سيجد أن تاتشر رسمت لنفسها صورة “التدين الوسطي” في خضم خطاباتها السياسية، فوقفت موقف وسيط ما بين حزب العمال صاحب الخطاب العلماني وما بين خطاب مسيحي محافظ كان يمثله جون إينوك باول (1912-1998)، وقد تطرقت الأكاديمية البريطانية إليزا لتحليل هذا الخطاب السياسي من خلال كتابها God and Mrs Thatcher: The Battle for Britain’s Soul (الله و السيدة تاتشر: معركة من أجل روح بريطانيا) الصادر العام 2015.
وفيه تقول فيلبي إنّ تطويع نصوص من الإنجيل في خطابات تاتشر لم يكن غريباً على الحقبة حينذاك، وهو الأمر الذي ينتقده جيل جديد معاصر من الشباب البريطاني.
يقودنا الخطاب أعلاه إلى بحث مقاربات بين تجلي الله في الخطاب السياسي الذي يحتمي بالمسيحية أو الإسلام على حد سواء وتضافرهما في واحد من أكبر النزعات والحروب في تاريخ العالم الحديث وأثر ذلك إقليمياً، لنرصد كيف تم تديين النزاعات السياسية ومصالحها الاقتصادية منذ الحرب البادرة.
هل هناك احتلال مؤمن وآخر كافر؟!
على ذات الوتيرة، سنجد أنّ رفض الاحتلال (الملحد) له سياق في التاريخ الحديث والمعاصر في البلاد الإسلامية كذلك، تبنّته الحكومة المصرية في عهد الرئيس أنور السادات (1970-1981)، فانطلقت عناوين الصحف القومية المصرية تناصر المجاهدين الأفغان في حربهم ضد الشيوعية، بل سمحت مصر بإرسال المجاهدين إلى هناك نصرة للإسلام حسب الخطاب الرسمي.
وتساءلت الولايات المتحدة عن دور مصر الإسلامية في مناهضة الإلحاد الشيوعي في أفغانستان وذلك في لقاء تم في العام 1980 في القاهرة ما بين الرئيس السادات ومستشار الرئاسة الأمريكي بريجنيسكي في عهد جيمي كارتر (1977-1981)، أي قبل تولي ريغان مقاليد السلطة في العام 1981.
وخطاب السادات “المجاهد” ضد الشيوعية خدم كذلك سياساته الداخلية التي من خلالها شبّه الأحزاب اليسارية بالملحدة، وصنع من هذا الاتهام ركيزة للقضاء على المعارضة الداخلية من خلال تكفيرها ضمنياً وصراحة، خاصة في حال اعتراضها على سياسته الاقتصادية؛ أي إنّ خطاب السادات (في العام 1980) سيتماهى مع الخطاب الذي سيتبنّاه لاحقاً ريغان في ذات الحقبة والذي جعل الوطنية والإيمان وجهين لعملة واحدة.
كما تشابهت سياسة تاتشر والسادات في رسم نموذج القائد المتدين الوسطي؛ فالسادات اعتبر نفسه رئيساً مؤمناً يحارب الإلحاد والتطرف بالرغم من دعمه للجماعات الإسلامية المؤيدة له، فأصبحت الوسطية مرهونة بمدى تأييد الحاكم من عدمه.
من قبل السادات وفي مطلع القرن العشرين، نشأت حركة وطنية بمفردات إسلامية بغرض دعم الاحتلال العثماني في مواجهة الاستعمار غير الإسلامي، لاقت هذه الحركة دعماً من أقطاب الحركة الوطنية في مصر مثل مصطفى كامل (1874-1904)، وفيها نبذ الاحتلال البريطاني ليس من منطلقات رفض الاحتلال فحسب، وإنّما من منطلقات رفض الاستعمار “المسيحي” وتفضيلاً لتبعية مصر للخلافة؛ أي إنّ مصطفى كامل لم يرفض التبعية كفكرة وإنما شغلته هوية التبعية الدينية.
تطويع الشعارات المسيحية والإسلامية
النماذج السابقة في ظل النزاعات الإقليمية لا يُقصد منها الاجتزاء، لكنها مجرد نماذج بينها مقاربات بحثية، على سبيل المثال لا الحصر في التاريخ المعاصر، نسعى من خلالها إلى رصد بعض ملامح خطاب النزعات السياسية الذي يحتمي بالقداسة.
أولها: قد يتماهى الخطابان، الأصولي المسيحي والأصولي الإسلامي، في مواجهة عدو مشترك على المستوى؛ السياسي والدولي، العدو المشترك ليس بالضرورة ملحداً، وإنما قد يُستخدم الخطاب الأصولي الإسلامي والمسيحي ويتضافران في مواجهة الحريات الفردية والشخصية كذلك على مستوى السياسات الداخلية.
لكن الموضوعية تحتم علينا أن نرصد الفارق بين الخطابين داخلياً؛ قد تجد البلاد العلمانية التي يستخدم رؤساؤها مفردات مسيحية في الخطابات صعوبة داخلية في كبح جماح حركة الحقوق الفردية، وقد يُعزى ذلك إلى الفصل التشريعي في دساتيرها بين الدولة والكنيسة، بينما في البلاد الإسلامية قد يجد الخطاب السياسي الأمور أكثر يسراً في كبح الحقوق الفردية حيث يتم التشريع من منظور الشريعة (دستورياً).
ثانياً: قد يستخدم الخطاب الأصولي الإسلامي (السنّي و الشيعي) ضد حكومات عربية أخرى في معركة التنازع على من يملك صحيح الإسلام، ويمثل الخطاب الديني قناعاً جيداً في حروب السيطرة على المُقدرات الاقتصادية ومناطق النفوذ.
ثالثاً: قد تدخل النزاعات السياسية والنفوذ الاقتصادي إلى سجال ديني إسلامي في مواجهة سجال ديني مسيحي يقوم فيه كل طرف باستدعاء الله أو خليفته على الأرض بهدف الانتصار السياسي في حرب البروباغندا.
اليوتوبيا الدينية في خدمة الصراعات السياسية
تشهد العلاقات الأمريكية الإيرانية حالة توتر دائم يتخللها هدنة باردة بين الحين والآخر منذ العام 1979 إبان تمكن نظام الخميني ودولة الملالي من السلطة، ولطالما تم استدعاء الذات الإلهية في خضم هذا الصراع السياسي، وتجلى السجال المسيحي في مواجهة السجال الإسلامي (في نسخته الشيعية) بينهما على مدار الأربعين عاماً الماضية وحاول كل خطاب خلق حالة يوتوبيا دينية وإضفاء صفة القداسة على الموقف السياسي والنزاعات الإقليمية وأزمات العقوبات الدولية.
وفي مطلع العام 2020 بعدما استهدفت الولايات المتحدة قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني في غارة بقرب مطار بغداد، سارع موقع المرشد الأعلى على خامنئي إلى نشر صورة للحسين يحتضن سليماني، فانتقلت معركة الأرض ونفوذه إلى السماء، ومن بعدها انتشرت صورة غير رسمية للمسيح يحتضن الرئيس ترامب في المكتب البيضاوي، وبالرغم من أنّ هذه الصورة ليست رسمية وكانت قد ُنشرت لأول مرة العام 2017 على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنّ خطاب ترامب في الثالث من كانون الثاني (يناير) 2020 في أول ظهور له بعد مقتل سليماني كان زاخراً بعبارات الدعم الإلهي لخطاه.
معارك استدعاء الله في التاريخ الحديث الحديث والمعاصر ليست بجديدة، وهناك من يتصور فعلاً أنّه ينصر الذات الإلهية من بين الجماهير والقادة، وهناك من يطوّع الأمر لنصرته السياسية، فالخط بينهما شديد التشابك في كثير من الحالات، وبصرف النظر عن درجة القناعات الإيمانية للقادة والرؤساء، فيظل تطويع الدين في السياسة الخارجية مستمراً ويعتمد من يروج هذا الخطاب على تجييش الجماهير واستمالة حسها العقائدي.
نقلآ عن حفريات