رباب كمال
كاتبة مصرية
حسب التعريف النمطي في القواميس العالمية، فإنّ ميدان المعركة هو أرض القتال التي يتمّ التنازع عليها، من أجل الظفر بها وإعلان النصر والانتصار للهوية الدينية أو الانتماء القومي.
لكنّ بعض المعارك قد تُشنّ في ميادين غير تقليدية، ومن بينها جسد المرأة الذي تحوّل إلى دلالة رمزية في أرض المعارك الإيديولوجية المحتدمة، والتي تسعى إلى تنميط دورها وتطويع جسدها للتعبير عن هوية وإيديولوجية المجتمع أو النخبة السياسية.
قبل تحوّل جسد المرأة إلى دلالة رمزية للصراعات الإيديولوجية، كان هو ذاته ميداناً للمعارك، فكان الجسد جزءاً من غنائم الحروب.
حتى وإن لم تكن أجساد النساء هي الغنيمة الوحيدة للمعارك، إلّا أنها كانت على رأس تلك الغنائم، التي تُعدّ في أعراف المنتصر مكسباً اقتصادياً، حيث تُباع وتُشترى حتى حين، أو تُستخدم في التسرية عن المقاتلين تحت مسمّيات مختلفة، بعضها سعى لإضفاء نسق حضاري على الأمر منذ قديم الأزل، حين كان متعارفاً عليه منذ زمن الرومان واليهود والعرب ما قبل الإسلام، ومن بعده أيضاً، في شبه الجزيرة العربية، مروراً بالعصور الوسطى في أوروبا، حتى زمن الحرب العالمية الثانية، حين وصف جيش الإمبراطورية اليابانية الأسيرات اللاتي وقعن في قبضته بـ”الونيسات”.
لكنّ شيوع الظاهرة لا يعني عدالتها، وإبّان تبنّي العالم المعاصر لمعاهدات منع الرق والاتجار انحسرت الظاهرة، لكن لم تنتهِ تماماً في مناطق النزاع المسلح، مثلما حدث مع الأيزيديات أو نساء أفريقيات في النزاعات الراهنة، لكنّ ما استجدّ على هذه الممارسات، هو تصنيفها ضمن انتهاكات جرائم الحرب، فلم تعد غنائم مستحقة بل انتهاكات.
جسد المرأة ما بين الملكية الاشتراكية والخاصة
في الأزمنة القديمة، كان جسد المرأة (الغنيمة) بمثابة ملكية اشتراكية للفرقة المنتصرة، ومن ثمّ تحوّل الجسد إلى ملكية خاصّة ذات طابع رأسمالي، بعد توزيع الغنائم بالتراضي بين الذكور الأعلى درجة، ومن بعدهم الذكور الأدنى في الطبقة أو المنزلة؛ أي إنّ جسد المرأة الغنيمة كانت تحكمه قواعد التراتبية والقوة داخل الجماعة، فالذكور ليسوا على قدم المساواة، وهو ما يُشار إليه بشكل عام في التمثلات المعاصرة بمصطلح الطبقية.
تلك التراتبية الطبقية، في العصر الراهن، قد تجعل الذكر الميسور قادراً على الانتقاء (حسب منظور المجتمع) من بين قاعدة عريضة للنساء بغرض الزواج أو ما يجعله قادراً على الزواج بأكثر من امرأة، بينما الذكر محدود الموارد يجد نفسه عاجزاً أمام متطلبات الأسرة التي تستخدم المتطلبات كحماية لبناتها في ظلّ قوانين أحوال شخصية قائمة على فلسفة القوامة والولاية، مهما كان التمدين ظاهرياً، ولهذا تستمرّ حالات الطلاق الغيابي والشفوي ومحاكمات النساء، تحت مظلة الطاعة والنشوز، في عدد لا بأس به من البلاد العربية، حتى في تلك التي تعلن عن أنّ حكوماتها تناهض الفكر الأصولي لجماعات الإسلام السياسي تجاه المرأة.
وعلى صعيد آخر، قد تُشكّل هذه السردية التاريخية محاولات السيطرة على جسد المرأة، حيث تحوّلت بعض النساء من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة، دون تحرّر للجسد ولصاحبته؛ أي إنّ الغنائم، حتى لو جُرّمت تشريعياً، إلّا أنّ هناك نظرة مجتمعية (دون تعميم) ما زالت تنظر لجسد المرأة في هذا السياق، حتى وإن تمّ في إطار الزواج.
ويمكننا رصد هذه الظاهرة حين نجد مصير فتاة ما، في بعض المجتمعات، رهن الأسرة التي تحدّد اختياراتها قبل الزواج في التعليم والخضوع للختان.. إلخ، ومن بعد الانتقال من منزل الأسرة إلى منزل الزوجية، نجد مصيرها رهن الزوج من الناحية القانونية، وحتى إن كان هناك تفاهم بين الزوجين في إطار علاقة سوية، فإنّ هذا التفاهم لا ينفي أنّ التشريع وضع الزوج في منزلة الولي مقابل الإنفاق.
ومن باب الموضوعية البحتة، فإنّ هذه النظرة ليست حكراً على الذكور، بل قد تسعى بعض النساء للاستفادة منها في سياقها الاقتصادي، لكن على جانب آخر، هناك نساء يسعين للتحرّر منها ومن حزمة قوانينها المكبلة التي تجعل الولاية القانونية مقابل الإنفاق وضعاً مرفوضاً لديهن.
لذا، فإنّ الصراع الذي يبدو دينياً في مفرداته، وهو كذلك بالفعل، يستلزم القراءة المتأنية التي تربط بين الدين والاقتصاد والملكية، أو بالأحرى اقتصاديات التدين.
الدلالة الرمزية المتنازع عليه
لطالما تمّ تطويع جسد المرأة في التعبير عن الهوية الدينية والخصوصية الثقافية للمجتمع، فتحوّل جسدها إلى خط ّالدفاع الأوّل عمّا يراه العقل الجمعي للمجتمع شرعياً أو متماشياً مع قيم الأسرة، وأصبح الدين والجسد معاً يشكّلان متلازمة للجسد الشرعي الذي يباركه المجتمع، ويستدلّ به للانتصار على قيم يعتبرها كافرة مستوردة.
فالدلالة الرمزية لجسد المرأة المتنازع عليه في الزمن المعاصر تأخذ شكلاً مختلفاً نوعياً، لكنه ينطلق من الفلسفة ذاتها التي تجعل الجسد مثاراً لاستفتاء المجتمع عليه، حتى وإن كانت الفتاة مستقلة مادياً، أو تسعى لذلك، فيتمّ التحكّم في جسدها بما لا يتعارض مع قيم المجتمع وموروثاته وتفسيراته الدينية؛ أي يصبح الجسد رهينة لسلطة المجتمع أو يُصبح ملكية عامة رهن الاستفتاء الشعبي، حتى وإن لم يكن الاستفتاء رسمياً.
لكنّ سلطة المجتمع تختلف حسب المنطقة الجغرافية والطبقة التي تسكنها، ولهذا قد تجد المرأة نفسها أكثر تحرراً (نسبياً) في المدن والضواحي البرجوازية، على عكس المناطق الشعبية، لكنّ هذا التحرر نسبي؛ لأنّ المجتمعات البرجوازية تجمع ما بين أصحاب الفكر الأصولي والفكر العلماني على حد سواء، فينشأ صراع علماني أصولي في تلك الضواحي، وقد يبدو صراعاً متكافئاً في الأبراج العاجية، لكنه ليس كذلك في أسفل الهرم الاجتماعي.
الشيء المختلف هنا هو عدم قدرة (البرجوازية الأصولية) في ممارسة سيطرتها الكاملة على فتيات خارج الأسرة في المجتمعات المتمدنة، ولكن تظلّ قادرة على التحكم في فتيات يخضعن لمنظوماتها الاقتصادية داخل العائلة بشكل خاص. أمّا بشكل عام، فالأصولية الدينية تجد مساحات أكثر رحابة في فرض سطوتها على النساء الفقيرات في المناطق المهمّشة.
لذا، قد نجد كثيراً من النساء الساعيات للتحكّم في مقدّراتهن يسعين إلى التطلعات الطبقية التي تحميهنّ من التسلط في أسفل الهرم المجتمعي، لكنّ هذا التطلع له وجهتان: التطلع في ظلّ التبعية الإقتصادية، أي عن طريق الزواج بشخص ميسور، وهو ما يجعل ظاهرة الزواج برجل متزوج ظاهرة اقتصادية تحتمي بالنصوص الدينية التي تعزّزها.
أمّا الوجهة الأخرى للتطلع، فتصبح بالاستقلالية من خلال العمل، وفي هذا الإطار تواجه النساء، كما الرجال، بآليات السوق التي تضع المكاسب أولوية. لهذا فإنّ التمكين الاقتصادي للنساء المهمّشات من خلال مشاريع صغيرة قد يكون في أهمية تمكينها في المناصب السياسية العامة.
صراع ديني علماني أم اقتصادي؟
لا يوجد نظام اقتصادي للعلمانية، فالعلماني قد يكون رأسمالي التوجه أو اشتراكي التوجه، لكن في الوقت ذاته يمكننا رصد خطاب علماني منحاز للرأسمالية في البلاد العربية في الآونة الأخيرة (دون تعميم)، قد يكون الانحياز نابعاً من قناعات حقيقية بضرورة تحرّر الاقتصاد وفهم إمكاناته المُعطلة، وقد يكون نابعاً من انحياز بعض العلمانيين إلى الأوليغاركية الرأسمالية الحاكمة، التي تناطح الرأسمالية الأصولية تارة وتتوافق معها تارات أخرى كثيرة، حتى وإن كان على حساب الحرّيات العامة للنساء والرجال معاً.
كما أنّ هناك فارقاً محورياً بين تحرّر الاقتصاد ومنع الاحتكار وتكافؤ الفرص من جهة، وبين تمركز رأس المال في يد مؤسسات بعينها، تتحكم في كلّ مداخل ومخرجات الاقتصاد، من جهة أخرى.
فالاقتصاد الحر لا يحقق نجاحه في مجتمعات تعاني من التضييق على الحريات العامة؛ لأنّ النساء أوّل من يخضعن لمنظومة القيم التي تمارسها السلطة والمجتمع معاً.
الخطاب العلماني ذو التوجهات الرأسمالية، الذي يولي اهتماماً بحرّية المرأة في التحرر الجسدي كوسيلة ردّ على الدعوة للحجاب والنقاب، التي دعت إليها جماعات الإسلام السياسي قبل عقود، في حاجة إلى التركيز على سياقات أخرى تعاني فيها النساء من التضييق، خاصة النساء اللاتي يعملن بحد أدنى للأجور بدون حماية من صاحب العمل، ممّا قد يوقعهنّ في مساومات على أرزاقهنّ في مقابل الصمت عن حالات التحرّش أو الاغتصاب التي قد يتعرّضن لها داخل أروقة العمل. إلّا أنّ الصراع على ما تخلعه أو ترتديه المرأة أصبح في بؤرة البروباغندا الإعلامية.
النساء ما بين الاستقلالية المادية والتبعية الاقتصادية
الاقتصاد الحرّ يعني حرّية اتخاذ القرارات الاقتصادية، وقد تجد النساء في ذلك متنفساً للتحرّر من سطوة التحكم في مقدّراتها، حتى وإن كان بشكل نسبي، لكنّ هذه الفرضية أدّت إلى الربط بين الرأسمالية وحرّية النساء في العموم، بدون تفنيد الصعوبات التي تواجههنّ، في ظلّ تحديات اقتصادية يئنّ منها المواطن العربي من الجنسين في أساسه.
وقد نجد في هذه القراءة مغالطات حين يتحوّل خطاب حرّية المرأة إلى خطاب يحتمي في أسوار المدن البرجوازية الجديدة، ويتهم هذا الخطاب أيّ امرأة غير قادرة على التحرّر من ثقافة العوام بالخنوع والضعف، وقد تصل الأمور إلى وصفهنّ بالجواري، بدون النظر إلى الظروف الاقتصادية الحاكمة والمتحكّمة في ذلك.
كما أنّ الحالة الميسورة للنساء ليست بالضرورة نتاج الاستقلالية المادية، فقد تكون نتاج التبعية الاقتصادية للعائل، سواء أكان الزوج أو الأب، لذا قد تنال حريتها في بعض الأمور وتُنزع منها في أمور أخرى، حسب مباركة العائل لهذه الحرّية.
أي لا بدّ من التمييز بين الاستقلالية المادية التي تملكها المرأة، وتكون دافعاً لتحرّرها عقلاً وجسداً، وبين الوضع الاقتصادي الجيد الذي تعيش فيه ولا تملكه، وهذه النظريات ليست مستجدّه، فقد سبق أن تمّت الإشارة إليها في دراسات عن النسوية المادية Materialist feminism في السبعينيات في الغرب، وهي نظرية تربط بين الرأسمالية والنظام الأبوي.
يبدو ظاهرياً أنّ قضية المرأة وحرّيتها، والدلالة الرمزية لجسدها، تقع في خضم الصراع الأصولي العلماني، وهي كذلك بالفعل، لكنها تقع في حقيقة الأمر، بشكل أكثر عمقاً، في قلب الصراعات والتوازنات الاقتصادية.
نقلآ عن حفريات