كريتر نت / كتب – أحمد ناجي
في غضون العقدين المنصرمين، تحوّل الحوثيون من كونهم مجرد حركة دينيّة محلية في محافظة صعدة الشمالية في اليمن ليصبحوا سلطة الأمر الواقع التي تُسيطر على العاصمة صنعاء ومعظم المحافظات الشمالية. صحيح أن هناك عوامل عدة ساعدتهم على الظفر بمثل هذه القوة، بما في ذلك انهيار مؤسسات الدولة والفرص التي أفرزتها التنافسات المحلية والإقليمية، إلا أن السبب الرئيس يعود في المقام الأول إلى قدرة الحوثيين على استخدام مجموعة من الهويات الدينية والسياسية والاجتماعية، ما ساعدهم على تجنيد المقاتلين، وإنزال الهزيمة بالخصوم، وبناء التحالفات المختلفة. وهذه طريقة برغماتية؛ حيث كان الحوثيون يتبنون، وفق الظروف، هويات معينّة ويفضّلونها على غيرها. هكذا استراتيجية مكّنتهم من أن يكونوا خصماً صلداً وعنيداً فاق كل التوقعات التي نُسجت حولهم.
كان الهدف النهائي للحركة الحوثيّة، وهي حركة تبنت تمثيل أقلية زيدية شيعية قوية في اليمن، هو إحياء القيادة الزيدية كموازن للإيديولوجيات السنّية المزاحمة لها. هذا كان أحد الأسباب الرئيسة لتحوّل نزاع اليمن إلى حرب بالوكالة بين تحالف بقيادة السعودية ودولة الإمارات وبين إيران. لكن، وعلى رغم تورّط هذه القوى في النزاع، يحتفظ الحوثيون بسيطرة مُحكمة على شمال اليمن وصنعاء. وقد تؤدي الضغوط الدولية الأخيرة لوضع حد للنزاع إلى فرض تسوية سياسية تمكّن الحوثيين من تقمّص هوية أخرى، هي حكومة شرعية محلية في شمال اليمن.
من حركة دينية إلى حركة سياسية
وُلدت الحركة الحوثية من رحم تحولٍ جذري في “منتدى الشباب المؤمن” الذي أسّسه قادة دينيون زيديون العام 1992 في مدينة صعدة الشمالية. ووفق محمد عزان، أحد الشخصيات المؤسِّسة للمنتدى، تم تشكيل هذه الهيئة بهدف إحياء الفكر الزيدي من خلال تنمية الشباب تربويًا وثقافيًا.1 لكن، حين انضم حسين الحوثي، وهو قائد ديني بارز وناشط سياسياً، إلى هذه المنظمة العام 1999، أقدم على إحداث تغيير جوهري في دورها، وحوّلها إلى منصة لأجندة سياسية سرعان ما تطورت في نهاية المطاف لتصبح تمرّداً عسكرياً، مُستخدماً لهذا الغرض التظلمات والتضامنات المذهبية.
قبل انضمامه إلى المنتدى، شارك حسين الحوثي في تأسيس حزب الحق العام 1990 لحماية مصالح المجتمع الزيدي. برز الحوثي كأحد المتأثرين بالمذهب الشيعي الجعفري الإثني عشري الذي تتبناه إيران، إذ يعتبر أية الله روح الله الخميني الراحل مثلاً أعلى. لكنه في البداية لم يحظ بدعم كل القيادات الزيدية في مساعيه لإحياء الحكم الزيدي، لاحقاً تخلى عن مقعده البرلماني الذي لم يشغله سوى لسنة واحدة، بسبب خلافات مع قيادات الحزب.
بالمثل، لم يدعم كل قادة المنتدى وجهات نظر الحوثي السياسية، أو استخدامه هذا المنبر لأغراض سياسية. بيد أن والده، بدر الدين، الذي أصبح المرشد الروحي للمنتدى، ساعد حسين على توسيع رقعة نفوذه ومكّنه من العزف على وتر التضامن المذهبي لحصد دعم أكبر من جانب القبائل الزيدية في محافظة صعدة. كما نجح في استقطاب الشبان الزيدييين الناقمين والمُمتعضين من وضعية الطائفة الزيدية منذ الثورة الجمهورية العام 1962 التي أنهت قرابة ألف عام من الحكم الزيدي في الشمال. كما أنه استغّل أيضاً التصميم المتصاعد للزيديين على التصدي لنشاطات الجماعات السنّية. على سبيل المثال، حاول السلفيون منذ العام 1980 تغيير الهوية الدينية للمجتمعات القبلية في صعدة، عبر إقامة مركز دماج الديني المموّل سعودياً في مديرية الصفراء في المحافظة. وفي التسعينيات، كان هناك توسع للجناح السلفي لحزب الإصلاح، المرتبط إيديولوجياً بجماعة الإخوان المسلمين. كل هذا وفّر الظروف المؤاتية لحسين الحوثي كي يلم شمل الزيديين في صعدة حوله وينشط لإحياء القيادة الزيدية لليمن.
مع مرور الوقت، بدأ منتدى الشباب المؤمن يُعرف باسم الحركة الحوثية، وتحوّل ليصبح قوة عسكرية مُعارضة للرئيس آنذاك علي عبد الله صالح، تسعى إلى الحصول على حكم ذاتي. لكن ذاكرة العديد من الحوثيين كانت لاتزال طرية إزاء أحداث الستينيات، فلم يدعموا في البداية الحركة الحوثية. هذا الأمر تغيّر حين اندلعت الحرب العام 2004 بسبب نزاع بين صالح والحوثيين حول جمع الضرائب الدينية من أحياء في صعدة، وأيضاً بسبب نشاطات حوثية أخرى اعتبرها صالح مزعزعة لسلطته.2 حينها، سعت الحكومة إلى اعتقال حسين، الذي قتل لاحقاً خلال قتال نشب ذلك العام. بيد أن هذا لم يلقِ الرعب في صدور أنصاره، لا بل أدى مصرعه إلى تعبئة الدعم الزيدي للحركة ونماها أكثر. وقد حلّ شقيق حسين مكانه في حلبة القيادة.
تواصل تنامي التمرّد الحوثي في السنوات اللاحقة، وكان أحد الأسباب المُحفزة لذلك قدرة الحوثيين على استقطاب الهاشميين، وهم أساساً عائلات زيدية لعبت دوراً إدارياً مهماً خلال الحكم الزيدي، وهي تدّعي أنها تنحدر من سلالة النبي محمد. ومن خلال تبنّي هوية الهاشميين، حصدت الحركة الحوثية الاحترام نفسه الذي كان يحظى به الهاشميون، واغتنمت فرصة حضورهم وشبكاتهم لمد نفوذها خارج مناطقها التقليدية. وهذه كانت خطوة أولى واضحة نحو تحرّك الحوثيين إلى مايتجاوز الهوية الدينية، وصولاً إلى بلورة هوية سياسية جليّة.
اسم جديد، استراتيجية جديدة
تمكّن الحوثيون بعد ست جولات من الصراع مع الحكومة في الفترة بين 2004 و2009 من السيطرة على معظم أنحاء محافظة صعدة. ومع هذا الانجاز، توافرت للحركة فرصة توسيع نفوذها خارج صعدة (بعض قادة الحوثيين رغبوا في التوصّل فقط إلى ترتيبات لتقاسم السلطة، فيما سعى آخرون إلى السيطرة على كل اليمن). خلال الانتفاضة العربية العام 2011، اندلعت الاحتجاجات في العديد من المحافظات ضد حكم صالح، فانخرط فيها الحوثيون بعد أن رأوا فيها فرصة سانحة لطرح مطالب على مستوى الطائفة ككل، مثل تمثيل أوسع في المجالس المحلية والحكومية، والتعويض عن قتلاهم الذي سقطوا خلال النزاع. وهذه كانت المرة الأولى التي كان بمقدور الحوثيين أن يطرحوا على نحو سلمي أهدافهم السياسية على نطاق أكبر وأوسع.
بيد أنه تعيّن على الحوثيين أن يتغلّبوا على عقبة كأداء لجذب الانتباه الوطني إليهم. فبسبب الصدى الضعيف بين العديد من اليمنيين، خاصة في الجنوب، للهويات الدينية أو القبلية التي تبنوها حتى ذلك الحين، توجّب عليهم العثور على هوية تستقطب قطاعات أوسع من المجتمع. التعبيرات الأولى لهذه الهوية كانت تغيير اسم الحركة إلى “أنصار الله” كي يتم التشديد أكثر على أجندتهم السياسية. هذا الاسم اشتُق من آية قرآنية لتتناسب مع المجتمع اليمني المعروف بأنه مجتمع محافظ دينيًا، في الوقت نفسه الذي تحاكي فيه اسم حزب الله، بكل ما يعنيه ذلك في المخيلة السياسية التي يستحضرها اسم هذا الحزب اللبناني. كما طرح الحوثيون كذلك الرؤية السياسية وكتابات حسين الحوثي، التي عكست أفكاراً تتماشى مع التوجهات السنّية في المذهب الشافعي، على غرار الوحدة الإسلامية، والآثار النبوية، ومحاربة الفساد. وهذا سمح للحوثيين ليس فقط بتعبئة الزيديين بل أيضاً سكان المناطق ذات الغالبية الشافعية.
كان تبنّي الاسم الجديد أكثر من مجرد تغيير لغوي. إذ أن الحركة أقامت شبكات من مجموعات العمل في كل منطقة تعمل لتحقيق الأجندة السياسية والدينية للجماعة، ما مكّنها من تجنيد المزيد من المقاتلين. عادة ما يكون لكل مجموعة ثلاثة مشرفين: المشرف الثقافي (الديني)، الاجتماعي، والأمني، لاحقًا أُضيف إلى مهامهم مراقبة نشاط مؤسسات القطاع العام.
انتهت الاحتجاجات ضد صالح بتسوية سياسية توسّط فيها مجلس التعاون الخليجي في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، أسفرت عن تنحية هذا الأخير من السلطة وتعيين نائب الرئيس آنذاك، عبد ربه منصور هادي، رئيساً انتقالياً. في ذلك الوقت، كان الحوثيون قد أصبحوا كياناً هجيناً يقوم بنشاطات سياسية ودعوية، في الوقت نفسه الذي كان يطوّر فيه قدراته العسكرية على نحو كبير. وفي الفترة بين 2012 و2014، اغتنم الحوثيون فرصة ضعف القوات الحكومية واستولوا على محافظات إضافية قرب صعدة، بما في ذلك الجوف وعمران وحجة.
على رغم أن الحوثيين رفضوا تسوية مجلس التعاون الخليجي، إلا أنهم اشتركوا في أهم محصلاتها، وهي عقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل في 2013-2014 ، فكان 35 من أصل 565 من أعضاء المؤتمر من الحركة، التي طرحت نفسها ليس على أنها جماعة دينية بل ككيان له رؤية سياسية وقادر على التعاون مع أطراف وطنية أخرى. خلال هذه الفترة، دشّن الحوثيون اتصالات مع دبلوماسيين غربيين لتغيير السمعة التي كانت رائجة آنذاك بأنهم مجموعة عسكرية وحسب. وهذه كانت حسبة سياسية مدروسة جاءت استكمالاً لاستراتيجيتهم المحلية السياسية والعسكرية.
هذا الاهتمام بالدوائر الخارجية ساعد الحوثيين على طرح أنفسهم كأعداء للتطرف. وقد استغلوا الهوية الزيدية لتأكيد معارضتهم للجماعات الجهادية السلفية، في وقت كانت الحكومة تقاتل تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية في بعض المناطق اليمنية. وهذا ما مكّنهم من استقطاب قطاعات أوسع في المجتمع اليمني.
فيما كان الجناح السياسي من الحركة الحوثية منخرطاً في الحوار الوطني، كانت قواتها المسلحة تقاتل العديد من الخصوم، بما في ذلك القبائل وتجمعات السلفيين المتجمعين في مركز دماج الديني الذين هُزموا وأُجبروا على مغادرة صعدة في كانون الثاني/يناير 2014. ومرة أخرى، قال الحوثيون إن هذه الخطوات تندرج في إطار مكافحة التطرف. وهذا، كما هو معروف، شعار جذّاب يتردد صداه في اوساط أولئك القلقين من الجماعات المتطرفة في اليمن. والحال أن الحرب ضد القاعدة، وضعف مؤسسات الدولة اليمنية، والأزمة السياسية المتفاقمة، حققت للحوثيين مكاسب جمّة ملموسة. فالولايات المتحدة لم تتردد في التعامل معهم، على رغم أنهم يرفعون شعار “الموت لأميركا”، انطلاقاً من الافتراض أنهم يمثّلون حليفاً قيّماً ضد الجهاديين. وقد استمرت الاتصالات بين هذين الطرفين، على رغم قرار مجلس الأمن الدولي في العام 2015 الذي زعم أن إيران تزوّد الحوثيين بالسلاح عبر البحر، على الأقل منذ العام 2009 حين كانت الحركة تسعى إلى نسج علاقات وثيقة مع المجتمعات الشيعية في شتى أنحاء الشرق الأوسط.
لم يتوقف الحوثيون عند حد إستئصال السلفيين في صعدة، بل تحركوا لمهاجمة قبائل حاشد الموالية لحزب الإصلاح المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين بين محافظتي صعدة وعمران، ووظّفوا مجدداً شعار مكافحة التطرف. فقد اتهموا القبائل المدعومة من حزب الإصلاح بالقتال إلى جانب السلفيين، وكان في وسعهم الإقدام على ما أقدموا عليه بفضل الصمت الذي التزمت به الحكومة اليمنية آنذاك وأيضاً بفعل تأييد بعض الأحزاب، بما في ذلك حزب مؤتمر الشعب العام التابع لعلي صالح. ولأن العديد من اليمنيين يعارضون جماعة الإخوان، فقد رحّبت هذه الأطراف بإضعاف القبائل المؤيّدة لحزب الإصلاح ودعمت التحالف مع الحوثيين. لا بل حتى هادي نفسه، وعلى رغم أنه حليف لحزب الإصلاح، رأى في ذلك فرصة لتعديل موازين القوى مع هذا الأخير وحصد المزيد من السطوة السياسية.
من حركة سياسية إلى حركة ثورية
رفض الحوثيون في نهاية المطاف بعض خلاصات مؤتمر الحوار الوطني الشامل في العام 2014، خاصة تلك التي تنص على تشكيل نظام فدرالي من ست مناطق في اليمن، يكون فيها نفوذ الحوثيين محدوداً بإقليم أزال الذي يضم المحافظات الداخلية المغلقة عمران وذمار والمحويت وصعدة، مايعزل الحوثيين عن المحافظات الأغنى في البلاد حيث تتواجد الموانىء أو المخزون النفطي. وهذا ماحفز الحركة على بدء المرحلة الثانية من تقدّمها.
سعى الحوثيون في الوضع الجديد إلى توسيع قدرتهم على المناورة، وحققوا ذلك من خلال استغلال السخط واسع النطاق ضد حكومة باسندوة. وهكذا أصبحوا حركة ثورية تنافح ضد الفساد، والحكومة العاجزة. وقد اتهموا رئيس الوزراء حينها محمد سالم باسندوة بإبرام تحالف مع حزب الإصلاح واستخدموا تحالفهم الناشئ مع علي صالح لتعبئة القبائل التي كانت معزولة غداة اتفاقية 2011. جاء هذا في وقت كان فيه الحوار الوطني غارقاً في لجج الانقسامات المتنامية بين الأحزاب اليمنية، ليس فقط بين علي صالح وتحالف الأحزاب الذي عارضه والذي أطلق عليه اسم أحزاب اللقاء المشترك، بل أيضاً بين أحزاب المعارضة نفسها. ثم جاء ضعف هادي المتفاقم ليزيد الطين بلّة.
رأى الحوثيون في كل ذلك فرصة لملء الفراغ، فسارعوا إلى إبرام تحالف براغماتي مع علي صالح الذي كان يسعى إلى العودة سياسياً ورأى في الحوثيين جسر عبور إلى ذلك. حينها، صعّد الحوثيون من هجماتهم ودخلوا في تموز/يوليو 2014 محافظة عمران التي تقع على بعد 50 كيلومتراً من صنعاء. وبعد ذلك بشهرين إثنين، استولوا على العاصمة واستبدلوا الحكومة الشرعية بلجنة ثورية عليا.
كانت قدرة الحوثيين على اللعب على العدد الوافر من الهويات فعّالة، في ضوء الانقسامات والتنافسات العديدة التي استشرت في اليمن آنذاك. وقد استفادوا إلى أقصى حد من العداء الذي برز بين بعض دول الخليج وبين جماعة الإخوان المسلمين العام 2013، ما أدى إلى المزيد من تقويض حزب الإصلاح. كما استفادوا أيضاً من رغبة هادي في إضعاف حزب الإصلاح والقبائل القوية الأخرى في الشمال خلال المعارك في عمران وصنعاء، والذي تمثّل في قيام الرئيس بفتح قنوات إتصال سرية مع الحركة الحوثية، والعمل على ضمان عدم تصدي القوات المسلحة التابعة له للحوثيين.
كانت سيطرة الحوثيين على صنعاء خطوة كبرى على طريق السيطرة على المحافظات المُحيطة بالعاصمة، قبل التوسّع خارجها. وفي كل مرحلة من هذه المراحل، كانت هذه الحركة تُثبت مدى قدرتها على التأقلم، عبر تغيير تحالفاتها وهوياتها. وحين سيطر الحوثيون على العاصمة، حاولوا وضع هادي قيد الإقامة الجبرية في منزله، بعد أن اعترتهم الخشية من أن يعمد إلى موازنة قوتهم المتصاعدة من خلال التحالف مع علي صالح. آنذاك، هرب الرئيس إلى عدن، ومن هناك ندّد بالعمليات الحوثية ووصفها بالانقلاب. كان وجود هادي في عدن يشكّل تهديداً للحركة، لأنه كان لايزال الرئيس الشرعي، ولذلك زحفت قواتها حتى وصلت إلى أبواب مدينة عدن، ماحفز التحالف بقيادة السعودية على التدخّل في آذار/مارس 2015.
في تموز/يوليو 2016، شكّل الحوثيون، بالاشتراك مع حزب صالح، المجلس السياسي الأعلى، الذي تولّى بعض سلطات اللجنة الثورية العليا وبدأ يدير المناطق التي يسيطر عليها الطرفان. بيد أن علاقات الحوثيين مع علي صالح تدهورت شيئاً فشيئاً بسبب تخوّفهم من احتمال قيامه بقلب ظهر المجن لهم وإحياء تحالفه مع السعوديين. وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، وبعد يومين من إعلان علي صالح انسحابه من التحالف مع الحوثيين وإبداء استعداده للحوار مع التحالف بقيادة السعودية، عمد الحوثيون إلى قتله فيما كان يهم بمغادرة صنعاء. ومنذ ذلك الحين، سيطر الحوثيون بمفردهم على شمال اليمن، وأصبحوا القوة الأبرز في ذلك الشطر من البلاد.
جاءت ذروة الصعود الحوثي في كانون الأول/ديسمبر 2018، حين شاركوا في محادثات السلام التي توسّطت فيها الأمم المتحدة في السويد بين الأطراف اليمنية المُتحاربة. وقد سمّى الحوثيون نصف الأعضاء المفاوضين، وبذلك حصلوا على درجة من الاعتراف الدولي بهم كقوة أمر واقع في شمال اليمن.
وهكذا، وخلال عقد ونصف العقد من الزمن، كانت الحركة الحوثية تتحوّل من تيار ديني محلي إلى قوة ثورية مُهيمنة في الشمال، ولها روابط سياسية مع أطراف في كل أنحاء البلاد. مثل هذه الشرعية المُستجدة حفزت الحركة على لعب دور بارز في تشكيل حصيلة محادثات السلام، في اتفاقية استوكهولم، فيما واجه التحالف بقيادة السعودية انتقادات مطّردة بسبب الأكلاف البشرية الباهظة لحملته العسكرية. وحين ننظر الآن إلى الوراء، نكتشف أنه في وسع الحوثيين القول بأن قدرتهم على احتضان هويات متباينة في سياقات منفصلة، هي التي ضمنت لهم الظفر. فهذه الحركة وظفت لصالحها بلين وسلاسة معظم التقلبات والتحولات في السياسات اليمنية المعقّدة والملتوية.
سلطة رسمية لليمن؟
على رغم أن التحالف بقيادة السعودية والقوات الموالية لهادي أخرجت الحوثيين من مناطق عدة، إلا أنهم لازالوا يُحكمون قبضتهم على شمال اليمن وصنعاء. أكثر من ذلك، يستفيد هؤلاء من الشرخ المتنامي بين الفصائل التي تقاتل في إطار التحالف، بما في ذلك الخلافات حول مستقبل جنوب اليمن والتنافسات بين الجماعات السلفية المؤيّدة لكل من السعودية ودولة الإمارات. وفي وقت تتصاعد فيه الضغوط على التحالف لوضع حد لعملياته العسكرية، وتتزايد بسرعة الكلفة الباهظة التي تتكبّدها الدول المنغمسة في الحرب، يبدو من المستبعد كثيراً أن تنقلب حظوظ الحوثيين.
في هذا السياق، قد تختار السعودية مجددا إحياء المفاوضات التي بدأتها مع الحوثيين في مدينة ظهران الجنوب الحدودية السعودية في العام 2016. وفي الوقت نفسه، ومع قدرٍ من الواقعية، سعت الرياض إلى اقناع القادة الحوثيين بقطع علاقاتهم مع إيران، في مقابل الدعم السعودي الكامل لخيار اشتراك الحوثيين في السلطة خلال حقبة مابعد الحرب، فالمملكة كانت الداعم الرئيس لنظام الإمامة والعائلات الهاشمية الزيدية خلال النزاع مع مصر والقوات الجمهورية الحليفة لها في الفترة بين 1962 و1967. مثل هذا الاتفاق يبدو وارداً بالفعل.
وقد أبدت السعودية ودولة الإمارات مؤخراً استعداداً للوصول إلى حل وسط مع حلفاء إقليميين آخرين لطهران، خاصة نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وفي حين أن الحوثيين لهم روابط لاجدال فيها مع إيران، إلا أنهم ينفون أنهم مجرد بيادق في يدها. وبالفعل، هذا ما جعل بعض المحللين يرون أن روابطهم مع طهران لم تلعب سوى دور هامشي في رحلة صعودهم إلى مدارج السلطة.
في هذه الأثناء، من غير المحتمل أن تتمخّض اتفاقية استوكهولم عن محصلات ملموسة، في ضوء تضارب وتباين تفسيرات الأطراف المعنية بها لبنودها، وبسبب غياب الثقة والشكوك العميقة بين هذه الأطراف. علاوة على ذلك، إذا ما تم بالفعل التوصل إلى تسوية، فالأرجح أن تُقيم الحركة الحوثية نظاماً يدمج رؤاها الدينية بمشروعها السياسي. ولاننسى هنا أن الحوثيين استبدلوا معظم مسؤولي الدولة بأشخاص من تيارهم، وبالتالي، يمكن لهؤلاء أن يعملوا كدولة عميقة وأن يحرّكوا الخيوط من وراء الستار. ثم أن بإمكان الحوثيين إقناع السعوديين بأنهم الأقدر على ضمان الحدود اليمنية- السعودية. وحينها قد يتلبّسون هوية جديدة، وهي أن يكونوا السلطة الجديدة الأقدر على حكم شمال اليمن.
على رغم أن الاشتباكات على الحدود لن تتوقف في مثل هذا السيناريو، إلا أنه في وسع الحوثيين استخدام هذه الهوية الجديدة لتصفية حساباتهم مع فصائل داخلية، ماقد يسفر عن موجة جديدة من الصراع وفقدان الأمن في مناطق أخرى من البلاد، لأن هذه الفصائل قد لاتحظى حينذاك بالحماية السعودية.
على أي حال، الكثير من المحصلات سيعتمد على الكيفية التي سيتمخض عنها النزاع. لكن ثمة شيء واحد واضح على الأقل، وهو أن الحوثيين لازالوا قوة نافذة يُعتد بها في الشمال. ولذا، سيكون امتثالهم ضرورياً للتوصل إلى أي حل نهائي في اليمن.