محمد الزغول
كاتب أردني
“من دون السّيف لا يُمكِن العيش في الشرق الأوسط”. هكذا علّق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين #نتنياهو على العمليّة التي نفّذها المواطن الأردني ماهر الجازي الحويطي أمس على الجانب الغربي من معبر جسر الملك حسين بين #الأردن و #الضفة_الغربية، والذي تُسيطِر عليه قوات الاحتلال الإسرائيلي خلافًا للقوانين الدولية، وقرارات مجلس الأمن الدولي، وخلافًا لتعهدات الجانب الإسرائيلي وفق اتفاقية أوسلو. وقد أودت العمليّة بحياة ماهر الجازي الحويطي، ومعه ثلاثة من عناصر الأمن الداخلي الإسرائيلي.
يريدُ نتنياهو أنْ يُبقِي السيف مُشْهَرًا، فهو يرى أنّه مُحاصَرٌ. وأنّ عودة السيف إلى غمده قد تعني نهاية الحُلم الإسرائيلي. لكنْ مَن الذي يُحاصِر نتنياهو، وكلّ الأيدي من حوله ممدودةٌ بأغصان الزيتون، ومُبادَرات السلام؟ يتطوّع نتنياهو إلى الإجابة بنفسه حتى قبل طرح السؤال: “نحن مُحاصَرون بأيديولوجيا دمويّة من محور الشرّ الإيراني”. وفي الحقيقة، لم يكن نتنياهو هو الوحيد بين المسؤولين الإسرائيليين الذي أشار بأصابع الاتّهام إلى إيران بعد هذه العمليّة؛ فوزير الدفاع يواف #غالانت أَلْمحَ أيضًا إلى ارتباط العمليّة بإيران والأيديولوجيا الإيرانية، حتى قبل انتظار التحقيقيات التي أجراها الجانِبَان؛ الإسرائيلي، والأردني كُلًّا على حدة.
ليس واضحًا كيف تفتّق العقل الاستراتيجي الإسرائيلي عن محاولة الزجّ بالجازي فيما يسمونه #محور_الشرّ_الإيراني؟ الجازي الذي لا أتّفق مع ما قام به، ولا أرى أنه يخدم القضية، أو يخدم غزة في شيء، هو في النهاية ابن البادية الأردنية، وابن المؤسسة العسكرية الأردنية، وهاتان لا تلتقيان مُطلقًا، لا مع إيران، ولا مع مشروعها الإقليمي، إن لم نقل إنهما في الجبهة المقابلة لها في خريطة الصراع الإقليمي. الجازي ليس سوى غاضبٍ، وهو ليس أوّل من يغضب من جرائم نتنياهو، ويمينه المُتطرّف، ولن يكون الأخير. وليست إيران على قائمة مُحفّزي الجازي الذي أكدت وزارة الداخليّة الأردنية أنه قام بعملٍ فرديّ. ولا شك أن احتكاك الجازي بالإسرائيليين من خلال عمله وتردده على المعابر أسهم في إطلاق شرارة الفكرة في رأسه. لكنْ لماذا لم يأتِ المسؤولون الإسرائيليون على ذكر إيران في عمليّةٍ مشابهةٍ جرت على الجانب المصري من معبر فيلادلفيا، حينما أقدم جندي مصري على إطلاق النار باتجاه قوات الاحتلال الإسرائيلي في مايو الماضي؟ كانت الاتّهامات آنذاك تتوجّه إلى “حماس” والمتعاطفين معها في الداخل المصري. ألا يمكن القول: إنّ توجيه الاتّهام إلى “حماس” لم يعُد مفيدًا أو منتجًا من وجهة نظر اليمين الإسرائيلي؟ فاتّهام حماس اليوم ليس مُنتِجًا لحربٍ جديدة يريدها نتنياهو، ولا مُبرِّرًا كافيًا لإبقاء سيف نتانياهو مُشْهَرًا، رغم كثرة الأيدي الممدودة للسلام والأمن والاستقرار الإقليمي؛ فقد انتهت “حماس” عسكريًّا تقريبًا، ودُمِّر قطاع غزّة برمّته، وأصبح رُكامًا. إن الدوافع السياسية التي تقف خلف هذا التلميح الفجّ إلى دورٍ إيراني في عمليّة الجازي حتى قبل إجراء التحقيقات واضحة للعيان.
ولا نحتاج إلى كثير من الذّكاء لنتبيّن أنّ نتنياهو، ومن خلفه اليمين المُتطرّف الإسرائيلي، يتخبّط، ويُكَابر، ويهرُب إلى الأمام. وأنّه يعاني في الحقيقة من حصارٍ آخرَ، غير الذي يُصرِّحُ به؛ فنتانياهو تُحاصِرُهُ الأسئلة الكبيرة: أسئلةٌ حول “إنتاجيّة” القُوّة المُفرِطة التي استخدمها في غزة، وحصيلة الارتكابات المُشينة التي اقترَفها جَيْشُه هناك، وأسئلةٌ حول اليوم التالي لإسرائيل، واليوم التالي لحكومته، واليوم التالي له شخصيًّا، ناهيك عن السؤال الكبير حول اليوم التالي في غزّة.
هل تمّ القضاء “حماس” التي كانت “حاجة إسرائيلية” قبل أن تقترف “السابع من أكتوبر”؟ هل تمّت استعادة الأسرى؟ وهل يمكن استعادة مَنْ بقي منهم على قيد الحياة “من دون تفاوض”، وأثمانٍ تُدفَع؟ هل “حماس” التي من دون سلاح، ستكون أيضًا من دون فعلٍ، وتأثيرٍ، وإرادة، بحيث يُمكِن شطبها من المعادلة؟ أساسًا هل يمكن لإسرائيل الاستغناء عن “حماس” في غزة في ظل أجندة اليمين الإسرائيلي القائمة على “أولويّة” منع توحيد الضفة والقطاع؟ هل تستطيع إسرائيل مواصلة احتلال القطاع؟ وهل تستطيع تركه؟ ومَنْ سيتحمّل أَكْلاف إعالته، وإزالة رُكامِه في الحالتين؟ متى يعود سُكّان مستوطنات الشمال إلى بيوتهم؟ وهل تمكّن مستوطنو غلاف غزّة من استئناف حياة طبيعية؟ هل لا يزالٌ مُمكنًا الحديثُ عن اندماجٍ إسرائيليٍّ في المنطقة من دون “حل الدولتين”؟ وهل لا يزالُ “حلُّ الدولتين” نفسُهُ مُمكنًا؟ هل لا يزالُ مُمكِنًا تجاهُل حقوق الفلسطينيين، ومظلوميّتهم؟ هل سيدعمُ الغربُ حروبَ نتنياهو المقبلة، والتي لن تكون الأخيرة، في الضفة، ولبنان، وهل يحارب الغرب إلى جانب نتنياهو في معركته الكبرى، والتي يراها مصيريّة مع إيران؟
أسئلة كبيرة، وليس هناك سوى إجابة صغيرة واضحة فقط؛ تمكّنت إسرائيل من إظهار قدرتها الفائقة على الانتقام. وكشفت عن قدرتها غير المحدودة على تجاوز الخطوط الحُمر القانونية، والإنسانية، والأخلاقية. وفوق ذلك، يبدو أنّ إسرائيل تمكّنت إلى حدٍّ كبير من تحييد القوة الصاروخية البدائية التي كانت “حماس” تمتلكها. وهذا هو “الإنجاز العملي” الوحيد الذي يبدو أنه تحقّق بعيدًا عن “عمى القوة”، وثورة الانتقام.
لكن هل باتت إسرائيل أكثر أمنًا بعد هذا الإنجاز الذي تطلّب قتل، وتشريد عشرات الآلاف من المدنيين العُزّل؟ وماذا عن الصواريخ القادمة من وراء الحدود؟ هل يمكنُ أنْ تحلم إسرائيل بمستقبل من دون ملاجئ جاهزة لاستقبل آلاف الخائفين على الدّوام؟ وهل يمكنُ لعجلة الاقتصاد الإسرائيلي استئناف دورانها الطبيعي في المستقبل المنظور؟
ليس “عمى القوة” وحده فقط الذي أفقد نتنياهو، واليمين الإسرائيلي توازنه الاستراتيجي، بل إنّ ما هو أصعب من “عمى القوة”، وطُغيانها، هو عدم “إنتاجيتها” لواقعٍ أفضل، بالرغم من الإفراط غير المحدود في استخدامها. إنّ ما تعيشه إسرائيل اليوم، هو أنموذجٌ حيٌّ على “عجز القوة” حينما تذهب الدُّوَل المدجّجة بالسّلاح إلى حربٍ من دون “رؤية استراتيجية”، ومن دون أهدافٍ واقعيّةٍ، سوى تفريغ عُقدة الانتقام. ليس من علاقة بين الجازي وإيران، سوى عجز نتنياهو عن توفير الإجابات. إنها مفارقة عجز القوة حينما تكون في أوجها.
نقلآ عن حفريات