ماهر فرغلي
كاتب مصري
للعمل الجماعي لدى تنظيمات الإسلام السياسي، بمن فيهم الإخوان المسلمون، قيمة محورية ضخمة جداً تُقدَّم على كل شيء، ولم يخالف هذه القاعدة إلا عدد بسيط من رموز تلك التيارات، على سبيل المثال، التيار المدخلي السلفي، الذي يرى أنّ العمل الجماعي بدعة، وأنّ الجماعة الحقيقية هي الدولة، رغم أنّها عملياً جماعة لها رموزها ومشايخها، ومساجدها، وقادتها، ووظيفتها التي تلعبها.
العمل الجماعي والوصول للسلطة
يعد العمل الجماعي أفضل وسيلة لدى هذه الجماعات للوصول إلى السلطة؛ فهذه التيارات، بلا استثناء، ترى أنّ ما يغيره السلطان لا يغيره القرآن، لذا أوجبوا العمل الجماعي، وخططوا طوال الوقت للانقلاب على الأنظمة، واعتبروا أنّ الإسلام منظومة قانونية، وأنّ تغيير القوانين الحالية هو أوجب الواجبات، وكل ذلك لن يستطيع الفرد وحده أن يفعله دون تنظيم وجماعة.
اعتمدت التيارات الإسلامية على القاعدة الأصولية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، واعتمدوا على تفسير ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب لهذه المسألة الخطيرة، التي كان معناها النهائي هو أنّ الواجب هو إقامة الخلافة، وأنّ ما لا يتم به هذا الواجب هو العمل الفردي، ومن ثم أوجبوا إقامة التنظيمات.
وجوب الجماعة معناه السمع والطاعة للأمير؛ أي أن يكون الفرد مقولباً وفق التنظيم، وأن يعلو التنظيم فوق كل شيء حتى لو الدولة ذاتها، وهنا نتذكر كيف كان الإخواني يستجيب لتعليمات القادة أحياناً دون أن يعرف الهدف أو السبب، ولعل ما سبق هو السبب في طرح السؤال أثناء اعتصام رابعة لكل الجماعات بمصر، وما بعده، لماذا نحن هنا؟ لماذا كنا في قصر الاتحادية وفجأة أصبحنا عراة في ميدان رابعة والنهضة؟
لم يجد أحد من الإخوان ولا قادتهم إجابة عن السؤال، ومن هنا بدأت مشكلة الانقسام والانهيار الإدارى للتنظيم.
لا يمكن للشخص في الجماعة أن يكون له مبدأ خاص؛ فالجماعة دائماً تعلو فوق الشخص ومبادئه، بل إنّ بعض التنظيمات الجهادية تغرس في نفوس أصحابها فكرة (أنت ومالك للجماعة).
ترى التنظيمات أنّ احترام قواعد العمل الجماعي والإيمان به، لا يقاس في المواقف السهلة البسيطة، بل يقاس في المحنة، وهكذا ذكر الإخوان فى موسوعتهم المنشورة على الإنترنت (إن العمل الجماعي في قوته مثل شعاع الليزر، فهي عبارة عن حزمة مركزة من الأشعة، هذا التركيز يعطيها قوة غير عادية تمكنها من قطع المعادن، وهكذا المؤسسات، تستطيع أن توجه أفرادها في اتجاه واحد، لتنجز إنجازاً ضخماً في وقت قصير، وإنّ قيمة العمل الجماعي لجديرة بأن ندافع عنها ونقف وراءها في المنشط والمكره، والتفريط في هذه القيمة أو اهتزاز الثقة فيها في لحظة ما، لن يأتي بخير؛ لأننا حينها سنكون قد فرّطنا في قيمة إسلامية، بغض النظر عن اقتناعنا بالقرار، أو ما هي نتيجته).
ويرى عناصر هذه التنظيمات أنّ قيادة الجماعة هي منحة ربانية، وأنّ أحداً من المجتمع لا يكون عضواً في الجماعة إلا بقربه من الله، كما أنّه ما من شيء أوصله لقيادة التنظيم وارتقى داخلها، قرّبه من الله تعالى، وأنه لو ترك القيادة فهذا دليل غضب من المولى سبحانه عليه، لذا يرى الكبار في السن من قادة جماعة الإخوان كمحمود عزت، أنّه لن يتخلى مطلقاً عن القيادة، فهو الأحق بها، ولأن الله اصطفاه من أجلها.
إنّ وجود الله تعالى في معادلة إقامة الجماعات قيمة محورية، لأن هذا يمنحهم الأفضلية؛ فالإخوان أو التنيظات الإسلاموية الأخرى، تساوي بين جماعة المسلمين وبين جماعتهم المحدودة، وترى أنّهم جماعة المسلمين المصطفاة الحقيقية، وهنا نتذكر قول مرشد الجماعة، محمد بديع، عقب فوز الإخواني محمد مرسي بالرئاسة: يبدو أنّ حلم البنّا بدأ يتحقق.
والحقيقة أنّ الإسلام لا يحتاج إلى جماعة لتحميه، أو تنظيم يدافع عنه، فهو يحمل في تكوينه ما يجعله باقياً إلى الأبد، وكل هذه التنظيمات تدّعي أنّها وجدت من أجل الدفاع عن الإسلام وشرائعه، وهي في الحقيقة جماعات كاذبة ومخادعة، تضلل الناس والمجتمع باسم الدين، من أجل الوصول للسلطة.
الإخوان والسلفيون في معادلة العمل الجماعي
كانت قضية العمل الجماعي هي مثار نقاش دائم بين تيارات الإسلاميين المختلفة؛ فالإخوان يرون بوجوب العمل الجماعي، والبيعة للمرشد، وكذلك الجماعة الإسلامية التي أفردت بحثاً يسمّى بوجوب العمل الجماعي، أما السلفيون فقد كان الأغلب منهم يعتبر أنه لا وجوب لعمل جماعي، لكن المدرسة السلفية بالإسكندرية كانت عملياً تسير بخطوات منظمة، فيما يشبه عمل الجماعات الكبرى جماعياً، ووضعت نظاماً هو أقرب لحد ما بجماعة الإخوان؛ إذ إنّ لهم نظاماً مالياً، وآخر تربوياً، وقالوا إن استراتيجيتهم قائمة على التصفية والتنقية، ومن ثم المفاصلة.
إنّ قضية “التنظيم والعمل الجماعي” تمثل إشكالية كبيرة عند دراسة الحالة السلفية فى مصر، فبالرغم من اتساع الرقعة التي يشغلها السلفيون، إلا أنّ أغلبهم موجودون بلا تنظيم هرمي ينخرطون فيه، لكننا نجدهم في النهاية تياراً له شيوخه وقواعده المنظمة، وإن كان لا يطلق عليها (جماعة).
وبشكل عام يرى السلفيون جواز ومشروعية العمل الجماعي المنظم، بشرط تحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وهو ما يلزم عندهم أشياء منها: عدم المصادمة مع الحكومات المدنية؛ لأن ذلك يجر على الدعوات كثير من المفاسد، والبعد عما يفهم منه خطأ البيعة والسرية حال التمكن من الجهر بالدعوة، فتكون السرية حينئذ مخالفة للمقصود من الدعوة، وعدم التعصب للجماعة بل يكون التعصب للحق.
ويرى السلفيون أنّ البيعة ليست شرطاً للعمل الجماعي، بل يرون إمكانية وجود عمل جماعي بغير بيعة، وكذلك عمل علني غير سري.
أما بالنسبة لـ”العلنية” فهي اختيار فكري لدى السلفيين، غير متأثر بالظروف الأمنية أو غيرها؛ لأنها عندهم مرفوضة تماماً، رغم كونهم يعترفون بأنّ السريّة منهج نبوي، كما كان عليه الحال في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ودعوات الأنبياء في كثير من الأحيان، وقد سئل الشيخ ياسر برهامي عن شعار السلمية والعلنية الذي رفعه السلفيون، فأجاب في موقع (أنا السلفي) قائلاً: “إنّ الأصل فى الدعوة العلن والبيان، ونحن في واقعنا لا نحتاج إلى سرية، وقد تمكنّا من الدعوة العلنية بحمد الله”.
حاولت الدعوة السلفية العلمية، وتحديداً في مصر، عمل روابط تنظيمية بين أفرادها، فأقامت معهد الفرقان، وهو معهد لإعداد الدعاة، ونشرت مجلة “صوت الدعوة”، وأجرت انتخابات داخلية، أدت إلى تولي الشيخ عبدالفتاح أبو إدريس منصب قيّم الدعوة السلفية (أي مسؤولها)، والدكتور سعيد عبدالعظيم، نائباً له، حتى تم القبض عليهما عام 1994، مما أدى لابتعاد سلفيي الإسكندرية عن العمل السياسي، واستمرارهم كحركة إسلامية، حتى قامت ثورة 25 يناير.
بالطبع يقف المدخليون في جانب آخر من العمل الحركي والجماعي، فهم يرون أنّ الجماعة المسلمة هي الدولة والسلطان، ومن ثم يشنّون هجوماً حاداً على الجماعات الإسلامية الأخرى ويصفونها بالحزبية؛ لأنهم يعتقدون أنّ الدولة هي الجماعة، والآخرون خارجون عليها، ومبتدعون في الدين.
وبالنسبة للإخوان، فإنّ التصلب الأيديولوجي في مسألة العمل الجماعي، كما الجمود التنظيمي الهيكلي للجماعة، من أهم الأسباب فى مشكلتهم دائماً.
يعمل تنظيم الإخوان وفق رؤيتين، الأولى ترى انكفاء التنظيم على ذاته، والاستعلاء على المجتمع، ثم القفز على السلطة للتغيير الفوقي لكل الدولة، وأما الثانية فترى الانفتاح على المجتمع، وجعل الجماعة جزءاً من هذا المجتمع؛ لأنها بغيره لن تستطيع الوصول للسلطة، أو التغيير الفوقي للدولة.
وفي جميع الأحوال فقد آمن الفريقان بالتغيير الفوقي للدولة عن طريق الوصول للسلطة، وببقاء الجماعة، ووجوب العمل الجماعي.
ومن جانبه يرى عبدالوهاب المسيري أنّ ما ينتج عن الإيمان بالعمل الجماعي، هو انفصال أعضاء الجماعة الوظيفية عن الزمان والمكان، ومن ثم تعلّقهم بمكان أو زمان أصلي، يتوقون للعودة إليه وتهفو نفوسهم لاسترداده، ويتعمق الإحساس بهوية مستقلة متخيلة، ثم يطور الطرفان رؤية أخلاقية ثنائية، فما يسري من منطلقات أخلاقية لا يسري على الآخر، كما يتميز أعضاء الجماعة الوظيفية بالحركية باعتبارهم عنصراً فاعلاً، وآلة بشرية.
نقلآ عن حفريات