أمينة خيري
المدرسة الدولية الجديدة في أرقى أحياء القاهرة تقول في إعلاناتها إن أحد أبرز أهدافها “بناء الشخصية المصرية”، وخطيب المسجد التاريخي في قلب القاهرة القديمة يؤكد في خطبه مكون “الشخصية المصرية” وكيفية تعزيزه، والكاتب والمفكر الثمانيني لا يفوت فرصة إلا ويذرف دمع الكلمات على ما ألم بـ”الشخصية المصرية”، والكاتب الصحافي الثلاثيني لا يتوانى عن وصف مشروع أنجزته الدولة أو قرار اتخذته الحكومة أو برنامج جديد على شاشة التلفزيون بأنه “يبني الشخصية المصرية”، والمؤثر العنكبوتي الذي يحظى بمتابعات مليونية يشير إلى أن هدف “بناء الشخصية المصرية” جزء أصيل من محتواه.
وفي “إستراتيجية مصر للتنمية المستدامة 2030” يشكل بناء الشخصية المصرية مكوناً رئيساً يشار إليه وقت سن السياسات واتخاذ الإجراءات، وفي معارض الكتاب السنوية تعقد ندوة أو تنظم فعالية تحمل عنوان “بناء الشخصية المصرية”، إما “بين الأمس واليوم” أو “بين الحاضر والمستقبل” أو “بين الثقافة والتعليم” أو “بين السكن والصحة” أو “بين الدين والدنيا”.
وكلما جرى تكليف حكومة جديدة أو تعيين وزير جديد يؤكد الأعضاء الجدد أن بناء الشخصية المصرية على رأس الأولويات، ويقول الوزير الجديد إن إعادة بناء الشخصية المصرية سيكون نصب عينيه دائماً، وكلما وقع حدث جلل عكست تفاصيله عواراً سلوكياً أو عللاً أخلاقية دار حراك شعبي حول ضرورة بناء أو إعادة بناء الشخصية المصرية، وذلك بين فريق يؤكد أن النجاة في العودة لكتاب الله والتمسك بسير الأولين وتطبيق الشرع بحذافيره، وآخر يجزم أن الحل الوحيد هو اتباع قواعد الدولة المدنية حيث فصل الدين عن الدولة، وإصلاح حال المواطنين بدءاً بالسياسة ومروراً بالتعليم والثقافة والإعلام وانتهاء باستدامة الفصل لا موسميته أو تطويعه بحسب هوى الحاكم أو ميل المحكومين، وثالث يرى أن السبيل الوحيد هو تغيير نظام الحكم أو إلغاء التجنيد الإجباري أو مصادرة أموال الأثرياء أو اتخاذ أي إجراء أصولي له علاقة بالشخصية المصرية.
الطريف أن كل من يتحدث عن إعادة بناء الشخصية المصرية يتطرق إلى عملية التشييد من وجهة نظره الشخصية وبناء على معتقداته الإيمانية والثقافية والأيديولوجية، والأكثر طرافة أن الغالبية تعتقد أن المراد بإعادة بناء الشخصية أمر متفق عليه، وأن أسباب العوار عليها إجماع، وسبل الترميم لا يختلف عليها اثنان.
من الفرعوني إلى الأفريقي
الأكثر طرافة أنه بالنقاش والحوار، وأحياناً العراك والخناق، يتضح أنه بينما يعتقد المواطن (أ) أن سبب المشكلة هو البعد من الدين، يؤمن المواطن (ب) أن أس الأزمة هو التطرف الزائد في الدين، في حين يجزم المواطن (ج) أن السبب في ما ألمّ بالشخصية المصرية هو الانفتاح على ثقافات غريبة وأخلاق غربية ونبذ العادات المصرية والتقاليد الشرقية، ويؤكد المواطن (د) أن ما جرى سببه الانغلاق بعيداً من الغرب والتمسك بتلابيب الثقافة المصرية.
وكعادة العبارات التي تدق على أوتار الملايين وتلك التي تحمل معاني يُعتقد أنها متفق عليها وغير خاضعة للنقاش أو الخلاف أو الاختلاف، تنتشر بسرعة البرق ويستخدمها الجميع في أفكاره وصياغاته وأحلامه وربما كوابيسه، ثم فجأة يكتشف الجميع أن العبارة غامضة أو أن فيها التباساً أو تقبل تأويلات وتفسيرات مختلفة، بعضها يصل إلى حد التناقض.
حدث هذا في دعوة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عام 2016 لتجديد الخطاب الديني وتنقيحه مما علق به من تفسيرات متطرفة واجتهادات متشددة وتأويلات مغلوطة، وبات الملايين يستخدمون العبارة، إما على سبيل الثناء أو التنديد أو المناشدة بالتنفيذ أو المطالبة بالتعطيل، واليوم يقف ملف تجديد الخطاب الديني محلك سر، وفي أقوال أخرى تسلمه من كانوا في المقام الأول مسؤولين عما لحق بالدين من تشدد وتطرف وتركيز على المظهر دون الجوهر.
سلسلة أحداث وحوادث محلية أعادت فتح مغارة إعادة بناء الشخصية المصرية، مثل تعدي المطرب المصري محمد فؤاد بالضرب على طبيب في مستشفى، أو تعدي طبيب في مستشفى بالضرب على المطرب، والتحايل والنصب والاحتيال للاستيلاء على سيارات من دون جمارك مخصصة للمعوقين، والزوجة التي ضربت حماتها ضرباً مبرحاً في مكان عام، ومناطحات المطربة شيرين عبدالوهاب وزوجها أو طليقها حسام حبيب على الأثير العام، ووفاة لاعب كرة القدم الشاب أحمد رفعت واتهامات وجهها مقربون لأباطرة اللعبة بتسببهم في الوفاة بطريقة غير مباشرة وبسبب ظلم وضغط هائلين تعرض رفعت لهما، وقتل طفل بطريقة بشعة بهدف بث الجريمة على “الدارك ويب”، وتعليقات الجمهور المتدين بالغة القسوة على الفنانات والحفلات واليوميات، ووصول التعدي اللفظي والشتم الافتراضي والاتهام بالكفر والفسق أو بالسرقة والنصب من دون سند للآخرين على أثير الـ “سوشيال ميديا” ضمن أنشطة اليوم الاعتيادية وغيرها، تجدد دعوات ورغبات ومطالبات إعادة بناء الشخصية المصرية.
ولأن الشخصية وثيقة الصلة بالهوية فقد كانت إحدى نقاط انطلاق المحاولات الرسمية التي تبناها الرئيس السيسي نفسه لإعادة البناء عبر الأعمدة السبعة للشخصية المصرية للمؤلف الراحل ميلاد حنا، ويبدو أن هناك من أيقن أن إحدى أزمات الشخصية المصرية خلال الأعوام أو العقود الأخيرة تكمن في التمسك بتلابيب عمود واحد دون باقي الأعمدة التي تشكل، شاء المصري أو أبى، هويته.
من الفرعوني إلى اليوناني والروماني، ومنه إلى القبطي ثم الإسلامي والعربي والبحر المتوسط، وأخيراً الانتماء الأفريقي، تبذل محاولات عتيدة على مدى نصف قرن لدفع المصريين نحو التمسك بعمود واحد ونبذ غيره، ألا وهو عمود الانتماء الديني. توليفة من الظروف والمتغيرات أحاطت بالشخصية المصرية على مدى نصف قرن، فأثرت فيها وأجرت تغييرات عدة، فاختفت أو توارت سمات عدة وظهرت صفات جديدة.
مجموعة من الباحثين في “معهد الدراسات والبحوث البيئية” في جامعة عين شمس المصرية أشاروا إلى بعض هذه الظروف والمتغيرات في دراسة عنوانها: “التغيير في خصائص الشخصية المصرية”، وأبرزها زحام شديد يدفع للإحساس بالضيق والاختناق، وارتفاع معدلات التلوث السمعي والبصري مع تصاعد اعتبارهما “حرية شخصية”، وتنامي العصبية وسرعة الاستثارة وعنف رد الفعل ولو بالنظرات فقط، وموجات هجرة غرباً وشرقاً لكن الشرق هيمن، ونظراً إلى التقارب الثقافي فقد جرت عمليات استنساخ ثقافية سطحية لكنها بالغة التشدد، وتنامي ثقافة الاستهلاك وتضاؤل قيمة الإنتاج أو تبجيل العمل بأقل مجهود ممكن وأكثر ربح متاح، وتنامي مفاهيم دينية عبارة عن خليط من الثقافات المستوردة والتفسيرات المتشددة واعتناقها باعتبارها “الدين الحق”، وشيوع أنماط من الفهلوة والبلطجة واعتبارها نماذج مقبولة ومهارات محمودة تعين على كسب العيش في زمن صعب.
وأضيف إلى ما جاء في الدراسة مستجدات في المحيط السياسي والأمني الإقليمي القابع على صفيح ساخن يهدد بالانفجار والانتشار في أية لحظة، مع أزمة اقتصادية محلية طاحنة لا تلوح نهايتها في الأفق، وبالتالي تفاقم مظاهر الإحباط والضيق والقلق لدى كثيرين.
السبعينيات نقطة انطلاق
غالبية المهتمين ببحث ما طرأ على الشخصية المصرية من تغيير ممن يطالبون بإعادة بنائها أو ترميمها يتخذون من سبعينيات القرن الماضي نقطة الانطلاق، فالباحثة في “المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية” نسرين الشرقاوي توثق ما جرى بقولها إن التغير الحادث للشخصية المصرية بدأ يظهر جلياً خلال السبعينيات جراء الانفتاح الاقتصادي والرغبة في الثراء السريع وتخفيف القيود على أنشطة الجماعات الإسلامية، إضافة إلى سفر المصريين للعمل في الخارج وعودة بعضهم بشكل جديد من أشكال التدين المتشدد والمتعصب، واختلاط كل ما سبق بالشخصية المصرية وثقافتها، فخرجت شخصية جديدة وثقافة مغايرة.
وتضيف في ورقة عنوانها “كيف أثرت الأحداث الاجتماعية والسياسية في طبيعة الشخصية المصرية؟” (2022) أن التغيرات بعد ذلك تواترت الواحد تلو الآخر إلى أن بلغ تغير الشخصية المصرية ذروته مع أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، مروراً بفترة حكم جماعة “الإخوان المسلمين” إلى الوقت الراهن.
وترى الشرقاوي أن “أحداث يناير” كشف عن تغيرات جذرية عبّرت عن نفسها في الاتجاه نحو الفوضوية وعدم الفهم السليم لمفهوم الحرية وتحول النقد إلى سخرية، ودخلت الغالبية في الحديث عن كل شيء أو أي شيء، وبينهم كثيرون غير مدركين لأبعاد ما يتحدثون عنه من قضايا أمن قومي وحروب وصراعات وأنظمة اقتصاد وغيرها، ناهيك عن خرق القانون وحرق وتخريب مؤسسات الدولة التي هي ملك للناس وليس للحكومات أو الأنظمة، وهو ما فاقم اهتزاز المنظومة القيمية للمجتمع.
كما تطرقت الباحثة إلى تنامي الاستخدام غير المسؤول لمنصات الـ “سوشيال ميديا” ونشر الأكاذيب وإعادة نشر الإشاعات وتحول كثير منها إلى ساحات عراك وطعن وتشكيك.
كما تطرقت إلى ابتعاد الغالبية من الثقافة المنفتحة والتسامح والتنوير وغيرها من الصفات التي كانت تسود المجتمع، وميل كثيرين إلى الرجعية والانغلاق.
وعلى رغم أن الشرقاوي ربطت بين جماعة الإخوان المسلمين وفترة حكمهم مصر، وهي عام واحد من جهة، وبين ما قاموا به من “محاولات هدم ثوابت الشخصية المصرية”، فإن هدم هذه الثوابت لا يقتصر على هذا العام فقط ولا يقف عند حدود الجماعة وحدها، بل يبدو بالعين المجردة وبمتابعة انعكاسات المخزون الثقافي والمعرفي لدى كثيرين أبعد من ذلك بكثير.
صحيح أن الجماعة بالفعل تقوم كما تذكر الشرقاوي “على خلط السياسة بالدين وتفسير النصوص الدينية بصورة متطرفة لخدمة مشروعها السياسي البعيد عن الوسطية الدينية والقيم السمحة، مما أسهم في تغذية التعصب والتطرف وانتشار ظاهرة تكفير كل من يخالفها الرأي”، فإن ما يجري الآن في المجتمع لا يختلف كثيراً عما زرعته الجماعة، ولم يمهلها القدر لتحصده بل يحصده الجميع حالياً.
اعتبار السبعينيات نقطة انطلاق لتشخيص وكتابة “روشتة” إصلاح الشخصية المصرية وثقافتها التي تغيرت يجمع كثيرين، فالشاعر المخضرم أحمد عبدالمعطي حجازي كتب مقالة قبل أيام تحت عنوان كاشف “هل رأيتم أين نحن الآن؟” يعرّف الثقافة التي تكون وتؤثر وتتأثر بالشخصية المصرية بأنها “ليست نشاطاً فردياً أو فئوياً أو مكتبياً، بل هي قضية الجميع لأنها رابطة تؤلف بيننا وتجعلنا جماعة واحدة، وهي لغة مشتركة تتمثل فيها شخصيتنا وتاريخنا ونعبر فيها عما نحب ونحلم به ونسعى إلى بلوغه”، وذلك قبل أن يشير إلى “المسافة التي أصبحت تفصل بين ما صارت إليه ثقافتنا خلال العقود الأخيرة من ضعف وتهافت، وما كانت عليه خلال العقود السابقة من قوة وخصوبة وغنى وازدهار”.
ثقافة جماهيرية سوداء
ويمضي حجازي في تشريح ما جرى بدءاً من السبعينيات “هو هذه الكتب الصفراء السوداء التي غطت الأرصفة، وأصبحت توزع بعشرات الآلاف لتفسر الأحلام وتعالج السحر والحسد، وتحذر الرجال من النساء وتحدثهم عن الجن الذين يعاشرون الزوجات، وعن الحوارات الساخنة التي تدور بين الجن المسلم والجن المسيحي، وهي الفتاوى التي حرمت النحت والتصوير والتمثيل وأقنعت عدداً من الأسماء المعروفة باعتزال الفن، وهي الأحاديث والخطب التي تحولت إلى ثقافة جماهيرية وحرضت على قتل فرج فودة ودافعت عن قاتله وصنعت مع نجيب محفوظ ما صنعته مع فرج فودة، وأعلنت الحرب على نصر حامد أبو زيد وسلطت عليه أساتذة جامعيين وفقهاء وقضاة، وهو انحطاط مستوى التعليم في كل مراحله، وهو موت الأغنية المصرية المثقفة، وهو الانحطاط الخلقي الذي أصبح اعتداء فاضحاً على القوانين وانتهاكاً صارخاً للحرمات، وهو المصادرات التي تتعرض لها الكتب والمسرحيات والأفلام”.
الملاحظ أن جهات عدة تؤكد دورها وجزم مسؤوليتها، بل ومنها ما يسارع إلى الوقوف في أول صف “إعادة بناء الشخصية المصرية”، ويلمح خبثاء إلى أن بعض المسارعين إلى تصحيح مسار الشخصية المصرية كانوا أو لا يزالون هم أنفسهم السبب في ما ألمّ بها من انغلاق يحمل راية التدين، طبقاً لتفسيرات دينية طغت على تدين المصريين الذين توقف بصورته المتفردة في السبعينيات.
يشار إلى أن شيخ الأزهر أحمد الطيب أكد قبل أيام “ضرورة التصدي للأنماط الفنية والثقافية الغريبة التي اجتاحت مجتمعاتنا واستهدفت إقصاء الثقافة وتهميش دورها في بناء الإنسان وتشكيل وعيه، وجعلت الشباب العربي معزولاً عن كل ما يغرس فيه الاعتزاز بهويته الدينية والأخلاقية”، ودعا إلى ضرورة وضع إستراتيجية وطنية لمواجهة ما وصفه بـ “التقهقر الثقافي والتراجع الحضاري الذي تعانيه مجتمعاتنا، والخروج بمنتجات ثقافية وفنية وإعلامية تتناول وضع حلول للأزمات المجتمعية المعاصرة”.
وبينما يرى بعضهم أن الأعداد الكبيرة والمتصاعدة للمدارس والكليات الدينية التابعة للأزهر هي أحد العوامل التي جرى إساءة استخدامها لزرع ونشر وبث الأفكار المتطرفة والانغلاق الثقافي باسم الدين، فإن فضيلة الإمام الأكبر أكد أن “التكوين الأزهري يربي في الطلاب الاطلاع على مصادر المعرفة المختلفة”.
والأزهر ليس وحده الذي يرى نفسه مسؤولاً عن إعادة بناء الشخصية المصرية وتصحيح مسار الثقافة، لكن وزارة الأوقاف كذلك ترى في نفسها القدرة كذلك على الاطلاع بالمهمة، ووزير الأوقاف الجديد أسامة الأزهري أكد غير مرة دور وزارته في عملية البناء ومواجهة التطرف.
وقد تحدث الأزهري عن هدف “إعادة بناء الإنسان والشخصية المصرية وأن يعود المواطن المصري للتدين ويكون تدينه طريقاً لصناعة الحضارة، ويكون قوياً ووطنياً وشغوفاً بالعلم والعمران، ويقدم الخير للإنسانية”، كما عبر عن رغبته في أن “يدخل المصري لقراءة القرآن والهدي النبوي فيخرج وقد زاد وطنية ووفاء وانتماء لوطنه”.
وتتضمن قائمة الجهات الرسمية الضالعة في “بناء الشخصية المصرية” كذلك وزارة الثقافة، وهي الجهة التي كان، وربما لا يزال إلى حد ما، يتمسك بتلابيبها عدد من الحالمين بفصل الدين عن السياسة وإعادة بناء الشخصية المصرية ورد الثقافة المسلوبة عبر إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وما للثقافة لأهل الثقافة.
وزير الثقافة المصري الجديد أحمد فؤاد هنو تحدث أيضاً عن مهمة “بناء الشخصية المصرية والحفاظ على الهوية الوطنية وتنوير العقل والفكر”، وهو كلام جميل ومعقول، لكن لا تزال الأدوات غير معروفة والخطوات غير معلنة، لكن الحفاظ على الهوية المصرية وعودة دور الثقافة المصرية إلى ما كانت عليه قبل عصور الظلام مهمتان حديثتان معلنتان من الوزارة.
يذكر أن شيخ الأزهر أحمد الطيب التقى وزير الثقافة قبل أيام وتحدثا عن أهمية بناء الشخصية المصرية بالتضافر بين جميع المؤسسات، ولا سيما الأزهر ووزارة الثقافة، وهو اللقاء الذي أطرب الغالبية وأثار قلق الأقلية.
اختلال التركيبة الاجتماعية
يستشعر بعضهم هذه الأيام همة ونشاطاً في تقديم مناقصات لبدء العمل في مشروع إعادة البناء، وفي الحكومة الجديدة التي شُكلت مطلع يوليو (تموز) الماضي، جرى تكليف وزير الصحة والسكان خالد عبدالغفار بمنصب إضافي، وهو نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون التنمية البشرية، وقد استشعر المصريون أن المنصب الجديد له علاقة بهدف “إعادة بناء الشخصية”، ولا سيما في ضوء تواتر الجدل حول النهضة المعمارية والخدمية من حيث بناء الطرق والجسور وملايين البيوت لكل الفئات الاقتصادية، وتجديد شبه كامل لوسائل المواصلات العامة مثل الباصات والقطارات وغيرها، وهو ما تزامن وملاحظة سوء استخدام من قبل بعضهم، وفي أقوال أخرى من قِبل كثيرين، وفتح باب النقاش حول حجم الأهمية المولاة لبناء الحجر مقارنة بالاهتمام ببناء البشر.
وتبدأ الحلقة المفرغة مجدداً حيث أهمية إصلاح التعليم الذي يخرج بوضعه الحالي أجيالاً ربما تعرف القراءة والكتابة لكنها لا تعي من مفاهيم الصالح العام أو احترام القانون أو قيمة الجمال شيئاً، وضرورة تطهير الخطاب الديني الذي يصر قائمون عليه إلى أنه يحتاج إلى مزيد من التقوية والغرس والسيطرة، بينما يرى آخرون حتمية تكليف من لم يسهموا في تشويه الخطاب بتجديده، وهلم جرا.
الكاتب والشاعر فاروق جويدة بين عشرات من يتبنون مبدأ بناء البشر قبل أو أثناء بناء الحجر، وقد كتب تحت عنوان “استثمار الحجر لا يغني عن بناء البشر” (مارس 2024) أنه يدرك تماماً قيمة المال في الحياة والرخاء وتلبية المطالب والحاجات، لكنه يضع الجهد البشري فوق كل الاختيارات الأخرى، مؤكداً أن مكان البشر هو صدارة القائمة، إذ إن الإنسان هو أهم عناصر البناء لأنه وحده من يستطيع أن ينتج ويبدع، وهو صانع المال الحقيقي.
وبعد استعراض لإنجازات الإنسان المصري في الزراعة والجيوش والفنون والبناء والتاريخ يقول إن “هذا الإنسان المصري المبدع يحتاج الآن إلى وقفة، وهذه الملايين التي يجري إنفاقها في البناء الخرساني، أياً كان مصدرها، لا فائدة منها إذا لم نسترد هذا الإنسان، بخاصة وأن هناك تحولات خطرة حدثت في مكونات الشخصية المصرية التي فقدت كثيراً من مقومات تفوقها وتفردها ودورها”.
ويتحدث جويدة عن بطالة الشباب التي تأكل أعمارهم ونسبة الأمية الأبجدية، وهي عار يطارد الجميع، مشيراً إلى أن “بناء الأبراج ليس بديلاً عن معضلة من فقدوا الوعي والفكر والثقافة”.
ويرى جويدة أن “اختلال التركيبة الاجتماعية كان لها كثير من التوابع، وأن الفن باعتباره الابن الشرعي لانحدار الذوق العام كشف عن صعود نماذج بشرية غريبة بثقافة ولغة أكثر غرابة”، ويتابع أن “أزمة انحدار الذوق العام تركت آثارها على سلوكيات الشارع ولغة الحوار ومستوى الثقافة العامة، وكل ذلك أدخل الشخصية المصرية وتاريخها الطويل في القدوة والقيمة والترفع في متاهات”، ليخلص إلى أن البناء الحقيقي هو بناء الإنسان.
ومثلما حدث مع دعوات تجديد الخطاب الديني بعد انقلاب الإرادة الشعبية على حكم جماعة الإخوان المسلمين واكتشاف كثير من العوار في نسخة الخطاب التي تسود منذ السبعينيات، وتشتت مسؤولية التجديد تارة واحتكارها تارة أخرى، وبقاء الدعوة محلك سر، تبقى كذلك دعوات بناء الشخصية المصرية أو إعادة بنائها مثار تجاذب أو تنافس بين الجهات الراغبة في البناء، وتلك التي يفترض أن تقوم به فعلياً من تربية وتعليم وثقافة وإعلام وفن، ويبقى بدء التشييد منتظراً حسم المنافسة والوصول إلى معادلة ما، وإلى أن يجري ذلك فإن البنائين كثر، وكل يبني ما تمليه عليه ليلاه.
نقلآ عن اندبندنت عربية