أحمد سلطان
تمر جماعة الإخوان المسلمين بفترة حرجة في تاريخها الذي يمتد لنحو 93 عامًا، فمنذ الإطاحة بحكمها في مصر (يوليو- 2013)، دخلت في حالة سيولة تنظيمية كبيرة كان من تداعياتها انشقاق عدد كبير من أعضائها التنظيمين، جراء أسباب متعددة.
ومع أن ظاهرة الانشقاق ظلت ملازمة لوضع الجماعة في أطوارها المختلفة، إلا أنه يمكن وصف موجة الانشقاق الحالية بالأكبر في تاريخ الإخوان، التي انشطرت إلى جبهتين متمايزين في منتصف عام 2015، هما جبهة القيادات التاريخية وعلى رأسها محمود عزت (القائم بعمل مرشد الإخوان سابقًا)، وإبراهيم منير (نائب المرشد العام ومسؤول لجنة إدارة الإخوان حاليا)، وتيار التغيير المعروف أيضًا بـ”جبهة المكتب العام” والذي يمثل التيار الأكثر راديكالية في الحركة، فضلًا عن انشقاق عدد كبير من الأعضاء التنظيمين عن تياري الجماعة، ومفارقتهم الحركة نهائيا.
وتاريخيًا، لجأت جماعة الإخوان المسلمين إلى تحصين أفرادها ضد الانشقاق والخروج منها عبر ميكانزيمات تنظيمية عديدة منها: إصباغ وصف المنشقون بـ “المتساقطون على طريق الدعوة”[1]، وحث الأعضاء على التمسك بعرى الجماعة وعدم شق الصف أو مفارقة التنظيم، لكن تلك الإجراءات الوقائية لم تفلح في ثني قطاعات كبيرة عن الخروج منها، منذ 2013 وحتى الآن.
وتحاول هذه الورقة، تقديم تصور دقيق عن ظاهرة الانشقاق الحالية وأبعادها، وذلك استنادًا إلى مقابلات حصرية مع شبان/ وشابات انشقوا عن جماعة الإخوان المسلمين، واستبيان شارك فيه 15 من المنشقين منذ يوليو- 2013، إضافة لوثائق وبيانات (حصل عليها الباحث)، ومراجعة التقارير والدراسات التي تناولت ظاهرة الانشقاق عن تلك الظاهرة.
جذور الانشقاق
شهدت جماعة الإخوان المسلمين انشقاقات متتالية منذ تأسيسها وحتى الآن[2]، لكن تصاعد موجة الانشقاق الحالية ترجع إلى الفترة التي تلت الإطاحة بحكم الحركة من مصر في صيف 2013، وإن طفت على السطح بعد ذلك،وتحديدًا في منتصف 2015 وما بعدها.
ولعل السبب في تأخر ظهور موجة الانشقاق الحالية، هو حالة الانهماك التشغيلي التي عاشتها جماعة الإخوان المسلمين منذ فض رابعة (أغسطس- 2013) وحتى حل اللجنة الإدارية العليا الأولى (مايو 2015)، وتجذر مشاعر الرغبة في الثأر على عموم الصف التنظيمي، وإحساسهم بأن عليهم واجب العمل لإسقاط نظام الحكم المصري[3]، لكن فشل الاستراتيجية والتكتيكات الإخوانية، واستمرار الحملة الأمنية ضد أعضائها وأنصارها، إضافةً لعوامل أخرى أثرت على تماسك الجماعة التنظيمي، ودب الشقاق بين الأفراد المسؤولين عن قيادتها العليا، كما احتدم الخلاف بين القيادة والأعضاء من ناحية أخرى.
وجراء العوامل السابقة، خرج عدد كبير من أعضاء الجماعة خارج إطار دائرتها التنظيمية وجمد آخرون عضويتهم من تلقاء أنفسهم، ومع ذلك بقيت تلك الانشقاقات صامتة في غالب الأحيان، بمعنى أن الخروج من بوتقة الإخوان لم يصاحبه إعلان أو احتفاء كبير
ويمكن تصنيف المنشقين عن الإخوان خلال العقدين الماضيين، ضمن 3 موجات أو أجيال، مع الأخذ في الاعتبار، أن هذا التقسيم، مجرد تصنيف اصطلاحي للتفريق بين حالات الانشقاق، وتبيان الاختلاف بينها:
موجات الانشقاق الإخواني
وبالرغم من أن العديد من حالات وموجات الانشقاق السابقة حظيت باهتمام واسع سواء داخل الصف الإخواني، وخارجه، إلا أن الوصول إلى تحديد دقيق لأعداد المنشقين في أي منها بقي هدفًا بعيد المنال، وذلك لعدد من الأسباب منها طبيعة التنظيم المغلقة التي تُعلي من قيم السمع والطاعة للقيادة وتنظر للتماسك التنظيمي باعتباره الوسيلة المثلى للحفاظ على كينونة الإخوان وحمايتها من الانهيار، بجانب ردة الفعل الحادة التي تبديها القيادات والأفراد التنظيمين على حد سوء تجاه المنشقين الذي يجابهون في الغالب بتهم كـ(شق الصف، العمالة لأجهزة الأمن، التخاذل، والتساقط على طريق الدعوة، عدم الصبر على البلاء.. إلخ)، وذلك ضمن حملة اغتيال معنوي تميزت الإخوان باتباعها ضد الخارجين منها، فضلًا عن إيثار بعض المنشقين الابتعاد عن المشهد في صمت لأسباب ذاتية مختلفة كالابتعاد عن المشكلات.. إلخ.
وتبرز في هذا الصدد، مشكلة تحديد نسبة الخارجين من الإخوان منذ 2013 وحتى الآن، بسبب الأوضاع التي مرت بها جماعة الإخوان منذ ذلك الحين، واختيار أغلبية المنشقين الخروج الصامت أو تجميد العضوية كوسيلة للابتعاد عنها، بجانب عدم وجود اهتمام حقيقي برصد وتغطية ودراسة موجة الانشقاق الحالية.
وحتى في ظل حالة عدم اليقين حول أعداد المنشقين، تُشير مصادر مختلفة إلى أن غالبية الأعضاء انشقوا بالفعل أو جمدوا عضويتهم داخل التنظيم الإخواني، ويقدرهم “خيري عمر” الأكاديمي المصري، وعضو المكتب السياسي السابق للجماعة بـ80%، في حين تتراوح تقديرات المنشقين أنفسهم لحجم الظاهرة إلا أن غالبية المشاركين في الاستبيان الذي أجريناه يرجحون أن نسبتهم كبيرة قد تكون ما بين: 60: 75%، وهي نسبة لا تبتعد كثيرًا عن تقديرات “عمر”[4].
الجيل الجديد من المنشقين
يبدو الجيل الجديد من منشقي جماعة الإخوان، كجيل فريد وسط تركيبتها البنيوية، إذ تظهر الحركة عاجزة للمرة الأولى تقريبا على الحفاظ عليه، وحشده خلف قيادتها، والإبقاء على التماسك التنظيمي الداخلي في ظل الأزمة الحالية، خلافًا لما حصل في أزمات سابقة (1948، و1954، و1965.. إلخ).
وبحسب ما تقول منى شرف الدين” (عضوة سابقة بقسم الأخوات (القسم النسائي بجماعة الإخوان، التحقت بالجماعة عقب ثورة يناير وانتظمت داخلها لمدة 6 سنوات قضتها ما بين قسمي “الزهرات ثم الأخوات”، وانشقت عن الإخوان عام 2017، مع غالبية زميلاتها في الشعبة)تكمن أهمية الموجة الجديدة للانشقاق في تحولها لظاهرة ملحوظة في جميع المناطق والشعب الإخوانية التنظيمية[5]، وهو ما أدى لتقويض البناء الهيكلي للحركة بشكل كبير، وخروج فاعلين كثر منها، وحدوث حالة فجوة تنظيمية داخل الإخوان.
وساهم في تنامي الظاهرة، فقدان الشباب للأمل والشغف تجاه الجماعة،وغياب القيادة الكاريزمية، كما فشلت القيادات العلياوالوسيطة، على حد سواء، في احتواء غضب القواعد وخاصةً الشباب منهم، ولجوء الفاعلين في داخل البناء الهيكلي للجماعة إلى استراتيجية تعامل تسكينية محدودة الأثر في التعاطي مع حالات الانشقاق، عبر عقد ما يسمى بجلسات أو دورات الرؤية التي تهدف لشرح وجهة نظر قيادة الإخوان وحث الشباب على البقاء داخل التنظيم والصبر على المحنة الحالية[6].
أسباب الانشقاق
طريقة إدارة الجماعة
تُعد طريقة إدارة الجماعة واحدة من الأسباب الرئيسية في كل موجات الانشقاق الإخواني على مختلف أجياله، وخصوصًا في الفترة من 2013: 2021، فخلال تلك الفترة كسر الأعضاء، والمنشقون جدار الصمت القائم حول طريقة إدارة القيادة العليا للتنظيم وخرقوا العرف التنظيمي القائم على مبدأ الثقة والطاعة والكتمان[7]والذي كان بمثابة إجراء وقائي تتبعه القيادة، في مواجهة المخالفين، وأعلن قياديون بارزون (حاليون- منشقون) عن رفضهم لطريقة إدارة محمود عزت ثم إبراهيم منير في أكثر من مناسبة، وكان من بينهم محمد كمال (رئيس اللجنة الإدارية العليا الأولى، وعضو مكتب الإرشاد)[8]، وغيره.
ويصف عبد الله خالد (وهو عضو سابق بجماعة الإخوان، انضم للجماعة في عام 2012 وانتظم في صفوفها لـ3 سنوات ضمن إحدى الشعب الإخوانية التابعة لمدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية (شمال القاهرة)، و شارك في الحراك الإخواني بجامعة الأزهر عقب فض اعتصام رابعة، وانشق عنها في أواخر عام 2015.)[9] طريقة إدارة القيادات الإخوانية للتنظيم بـ”الديكتاتورية والاستبدادية”، قائلًا: بعد فض رابعة بفترة وجيزة جلسنا مع المسؤول الثاني بالمكتب الإداري لمحافظة الغربية بناءً على ترتيب مسبق من مسؤولي شعبتنا، وعرضنا عليه اقتراحات عديدة لـ”العمل الثوري” وأثنى على اقتراحتنا للغاية، وطلب مننا الاستمرار في التظاهر داخل جامعة الأزهر معتبرًا أنه يزلزل النظام- على حد قوله- وبالفعل استمر الحراك لعدة أشهر لكنه توقف في 2014، بعد تصدي قوات الأمن لنا.
يضيف “خالد” أنهم استمروا في الحراك خارج الجامعة في فترة الإجازة الصيفية عبر تنظيم السلاسل البشرية وكتابة العبارات المنددة بالحكومة المصرية على جدران المنشآت العامة داخل منطقتهم التابعة لمدينة المحلة الكبرى، لكنهم أحسوا بعدم جدوى هذا العمل، بينما أخبرهم مسؤولون في الشعبة أن هذه الفاعليات مجرد مرحلة سيتلوها مرحلة الحسم والتي سيتخللها تكتيكات أخرى أكثر عنفًا أو ثورية على حد تعبير المسؤول، ومع مرور الوقت وعدم حدوث أي تطور إيجابي بدأ التململ يصيبهم، ثم تحدثوا مع نقيب الأسرة حول طريقة إدارة الجماعة فنهرهم بشدة وقال: (أنتم أوقفتم العمل في الجامعات وتتكلمون عن القيادة وتريدون مسائلتها!)، مشيرًا إلى أنهم أدركوا في تلك اللحظة أن (الإخوة اللي فوق) لايهمهم حياة الشباب أو ظروفهم خصوصًا بعد إصابة واعتقال العديد منهم، ومن ثم قرر الانشقاق نهائيا ثم راجع أفكاره وأولوياته، وتبعه لاحقًا أعضاء آخرون بعضهم ظل مع الإخوان لمدة تزيد عن 10 سنوات.
وعلى غرار التعامل السابق، جاء رد إبراهيم منير على رسائل 1350 من المسجوني المنتمين للإخوان التي عُنونت بـ”رسالة معتقل”[10]، إذ دعوا قيادتهم لاتخاذ خطوة للوراء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشباب ، لكن “منير” أجاب على تلك الرسائل بأنهم لم يجبروا أحدًا على الانضمام للحركة ومن أراد الخروج منها فليخرج[11].
وفي ذات السياق، اعتبر 53% من المنشقين- المشاركين في الاستفتاء حول أسباب الانشقاق- أن طريقة إدارة الإخوان هي السبب الرئيس لاتخاذهم قرار تركها، وعلل “عماد علي” انشقاقه بعدم استماع القيادات المباشرة للآراء والمقترحات والتزامهم بالقرارات الفوقية التي تُصدر من الجهة الإدارية الأعلى، وأيده “أحمد سعيد” في ما ذهب إليه واصفًا القيادة بـ”الغباء وعدم الاستماع للنصيحة”.
الفساد التنظيمي
كما ساهم انكشاف وقائع الفساد المالي والإداري لقيادات بارزة داخل جماعة الإخوان كجمعة أمين عبد العزيز (نائب المرشد سابقًا- توفي عام 2015)،ومحمود حسين (أمين الجماعة السابق، وعضو لجنة إدارتها حاليًا) في انشقاق عدد من أعضائها.
وتسببت تلك الوقائع في حالة سخط داخلي كبيرة، خاصةً وأن انكشافها تزامن مع سياسة تجفيف منابع الدعم المادي التي اتبعها محمود عزت، وإبراهيم منير (جبهة القيادات التاريخية) ضد الأسر الإخوانية المحسوبة على محمد كمال (جبهة المكتب العام).
وتروي منى شرف الدين[12]، أن ملف الإعاشة (الإعانات الشهرية التي تُصرف لأعضاء الجماعة)، كان واحدًا من الملفات المتأزمة داخل إحدى مناطق محافظة البحيرة بسبب ما تصفه بـ”المحسوبية” مبينةً أن مجموعات تنظيمية من بينهم مجموعة تعرفها شخصيا، انشقت بسبب هذه الأزمة.
الخلاف المنهجي
لعب الخلاف المنهجي دورًا هامًا في وقائع انشقاق أعضاء جماعة الإخوان، غير أن وجهات المنشقين بسببه كانت مختلفة، فعلى سبيل المثال رأت قطاعات شبابية ضرورة استعمال عنفًا أكبر في مواجهة أجهزة الأمن المصرية، وفي إطار ذلك انضم بعضهم لتنظيمات جهادية كتنظيم ولاية سيناء (فرع تنظيم الدولة الإسلامية المحلي) ومن أبرزهم عمر الديب نجل القيادي الإخواني إبراهيم الديب[13]، أو تنظيم القاعدة كحالة “علي سعد” (عضو سابق بالإخوان، انضم لتنظيم القاعدة لاحقًا)[14]، بينما آثر آخرون الانشقاق عن الجماعة دون الإقدام على الانضمام لتنظيمات أخرى كـ”محمد الشريف(العضوالسابق بجماعة الإخوان في قطاع غرب الدلتا) الذي علل انشقاقه بالخلاف حول المنهج الحالي لجماعة الإخوان وتفضيلها لطريقة التغيير السلمية- على حد تعبيره-[15]، في حين طرح منشقون آخرون مشروع وصفوه بـ” النقدي- التجديدي” ومن بينهم عمرو عبد الحافظ وعماد علي (عضوا الجماعة السابقين بمحافظة الفيوم)، لكن المشروع لم يحظبالزخم المطلوب، ولم يعد محلا للنقاش منذ فترة.
فيما ذكر 26.6% من المشاركين في الاستبيان أن الخلاف حول المنهج، هو أحد العوامل الرئيسية التي دفعتهم للخروج من التنظيم.
اليأس وفقدان الحماس التنظيمي
أصيبت قطاعات عديدة من أعضاء الجماعة بحالة صدمة جراء فشلها المتكرر، لاسيما مع تزايد حجم الخسارات المتتالية التي تلقتها منذ 2013، وكان هذا أحد العوامل التي دفعت بعضهم لتجميد عضويته أو الخروج من الجماعة إلى غير رجعة.
وتذكر منى شرف الدين أن غالبية الأخوات في داخل شعبتها بكفر الدوار (شمال شرق محافظة البحيرة- 175 كم شمال القاهرة)، شعرن باليأس من الجماعة وقيادتها بعد نحو 3 سنوات من عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، لاسيما وأن القيادة بدت وكأنها تدور في دائرة مفرغة تخسر فيها مساحات جديدة كل يوم جراء الصراع مع السلطة الحاكمة، من جهة والخلاف الداخلي بين جبهتي محمود عزت ومحمد كمال الذي ظهر بشكل واضح في عام 2016.
وتضيف: داخل شعبتنا وأيضًا في شُعب الزهرات والأخوات التي أعرفها بشكل شخصي أصبح التململ هو سيد الموقف وكثير من الأخوات أصبحن يتحججن للهرب من الواجبات التنظيمية، وتلى ذلك إعلان صريح لعدد منهن بترك الجماعة بشكل كامل، كما أن الأخوات المسؤولات عنهن لم ينجحن في إقناعهن بالإحجام عن تلك الخطوة، بل إن المسؤولات أنفسهن أصبحن لا يشجعن على الانتظام في لقاءات الأسر الدورية وغيرها من الفاعليات التنظيمية، حتى أن مسؤولتي السابقة وهي عضو هيئة تدريس بفرع جامعة الأزهر بالإسكندرية لم تلتق بنا لأشهر قبل انشقاقي.
وتتابع: أغلب من تبقى داخل الجماعة في حدود من أعرفهم، هم مجموعات قليلة العدد لا تعرف شيء حقيقي عنها، وبعضهم لا يعرف محمود عزت إو إبراهيم منير أو محمد كمال، ويقتصر تفاعلهم على حضور لقاءات الأسر الإخوانية من حين لآخر، بينما توقفت أخوات أخريات عن الانتظام في الأنشطة وإن لم يعلن صراحة انشقاقهم متبعين سياسة “الباب الموارب”- على حد تعبيرها- أو إبقاء خط للرجعة.
وعلل 20% من المشاركين في الاستبيان انشقاقهم عن الإخوان بمشكلات العمل التنظيمي وعدم تقبلهم له والمشكلات التي حصلت مع بعض رفقائهم داخل التنظيم.
الانفتاح على تجارب أخرى
تُوصف جماعة الإخوان بأنها تعاني من حالة جمود فكري منشأها العمل السري وتحكم القيادات في صياغة العقل الحركي عن طريق مناهج تربوية معتمدة من قسم التربية بداخلها، أو قراءات محددة لكتب مؤسسة للفكر الإخواني، ومثلت حالة الجمود والثبات الفكري النسبي أحد عوامل تماسك التنظيم في أوقات سابقة، لكن تحت ضغط حالة السيولة التي مرت بها الحركة منذ 2013، فإن أعضاءً بها توجهوا صوب الانفتاح على تجارب أخرى كالتجارب الاشتراكية والليبرالية.. إلخ.
ويلمح محمد عبد الحليم[16] (وهو عضو سابق بإحدى الأسر بقطاع وسط الدلتا) إلى أنه توجه للإطلاع على تجارب الثورات الفرنسية والبلشفية والخمينية الإيرانية وغيرهما، أملًا أن يستخلص منها دروسًا تصلح لتطبيقها داخل مصر عقب الإطاحة بحكم “مرسي”، لكنه مع الوقت بدأ ينظر للأمور بشكل مختلف وتغيرت وجهة نظره نسبيا عن جماعته السابقة، مضيفًا أن القبض على مسؤوليه السابقين لاتهامهم في قضايا تظاهر وتحريض.. إلخ، ساهم في إعطاءه فسحة من الوقت لإعادة التفكير وتقييم التجربة الإخوانية، ومن ثم بدأ نشاطه فيها يتراجع تدريجيا إلى أن توقف بحلول منتصف 2015.
الاغتراب النفسي
ينخرط بعض الأعضاء في العمل التنظيمي، لرغبتهم في الشعور بذواتهم عن طريق الجماعة الأكبر والتي ترتبط في أذهانهم بأهداف سامية، لكن طبيعة التعامل وطريقة التعاطي معهم قد تسقطهم في آتون صراع نفسي، وفي بعض الأحيان يشعر العضو بالاغتراب النفسي نتيجة الضغوط التي يتعرض لها.
ويقول خميس الجارحي[17] (الذي لم تتخط درجته “المحب”أثناء وجوده في الإخوان[18])، إنه شعر بالاغتراب وسط الأعضاء المنتظمين والأعضاء العاملين، خصوصًا وأن الجماعة تُريد أن ينقطع المرء عن كل ما حوله ويتفرغ للعمل من أجلها، وهو الأمر الذي كان صعبًا عليه بسبب تعدد اهتماماته.
ونتيجة لما يصفه “الجارحي” بـ” النهج الإقصائي”، قرر الانشقاق والخروج منها بعد ثورة يناير 2011، كما سبب 13% من المنشقين تركهم للجماعة بالشعور بحالة عدم الانسجام والإحساس بالغربة في وسط الدائرة التنظيمية.
المواجهة الأمنية
يعد عامل المواجهة الأمنية أحد الأسباب الرئيسية التي ذكرها المنشقون كدافع للخروج من الجماعة، وتكررت هذه الإجابة بجانب إجابات أخرى في بعض الأحيان، وجاءت النسبة 33.3% (مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المجيبين ذكروا أكثر من إجابة كرفض فلسلفة الإدارة، بجانب الخوف من الملاحقة الأمنية).
وفي وقت سابق، طرح عدد من شباب الإخوان المسجونين مبادرات عدة تنص على اعتزال الجماعة والعمل السياسي مقابل العفو عنهم[19]، لكن لم تلق تلك المبادرات تجاوبًا رسميًا.
ويعتبر القيادي الإخواني المنشق طارق البشبيشي(قيادي إخواني سابق بمدينة دمنهور التابعة لمحافظة البحيرة شمال القاهرة)[20] أن التعامل الأمني يعد العامل الأبرز في انشقاق الأعضاء التنظيمين، مشبهًا الجماعة بـ”الإسفنجة” التي تنكمش حال الضغط، وتنتفش وتتمدد إذا زال وخصوصًا في فترات الهدن التي تمنح التنظيم فرصة لإعادة بناء قواعده، واستقطاب عناصر جديدة.
مستقبل الانشقاقات
بناءً على ما سبق، نستنتج أن موجة الانشقاق الحالية هي الأكبر في تاريخ الإخوان التي تبدو كجماعة مأزومة ومنقسمة على ذاتها، وعاجزة عن تحقيق أي مكسب استراتيجي في صراعها للبقاء.
كما يمكن اعتبار أن القيادة التنظيمية العليا أصبحت مفلسة وعاجزة في التعامل ملف المنشقين والأعضاء الذين جمدوا عضويتهم بدوافع ذاتية، حتى في ظل الحديث عن سعي إبراهيم منير عن المصالحة مع الجبهة المناوئة له داخل الإخوان والتي تُعرف حاليا بـ”تيار التغيير”، وفتح الباب أمام المنشقين للعودة إلى المحاضن الحركية[21].
وبالتالي، فإن عملية الانشقاق ستتواصل خلال الفترة المقبلة ربما بنفس الوتيرة السابقة، ولن تفلح الإجراءات التي اتخذتها القيادة التنظيمية العليا في الحد منها، وقد يلجأ بعض من تبقى داخل بنيان الحركة إلى إعلان تجميد عضويته أو الخروج منها نهائيًا، في ظل استمرار الظروف الحالية.
وستبقى موجات الانشقاق متواصلة ما بقيت العوامل التي أدت لها موجودة، وهو ما يتوقع استمراره على المدى القريب/ المتوسط، خصوصًا في ظل الجمود الفكر والتنظيمي الذي يسيطر على قيادة الإخوان، واستمراره في الدفع نحو صراع صفري مع الحكومة المصرية.
خاتمة
تعد موجة الانشقاقات الحالية التي ضربت جماعة الإخوان المسلمين منذ يوليو 2013 وحتى الآن، إحدى حلقات سلسلة الانشقاقات المتتالية التي تمر بها كل حين، ويبقى تنامي الموجة الثالثة من الانشقاقات وتحولها لظاهرة، أمرًا ملفتًا لنظر المهتمين بدراسة تاريخ وتحولات الحركة.
ووصلت الجماعة في خلال السنوات السبع الماضية إلى أكبر انقسام هيكلي في تاريخها، ومازالت قيادتها عاجزة عن لم شملها من جديد، أو طرح أي مشروع أو مبادرة جدية للخروج من حالة الجمود التنظيمي الذي تعيشه.
وأثرت الانشقاقات الأخيرة بشدة على البنيان الهيكلي للحركة، والذي دخل في حالة تشبه الموت السريري/ الإكلينيكي، ومع هذا تتشبث قيادتها بالمقاربات التنظيمية القديمة التي اتبعتها لمواجهة ظاهرة المنشقين، وهو ما يفاقم الأزمة ويزيدها تعقيدًا.
وعلى صعيد آخر، لا يمكن الجزم بأن كل المنشقين عن جماعة الإخوان، قد فارقوا منهجها أو تخلوا عن الأفكار التي يعتنقونها، بل ما زال العديد منهم على قناعاته السابقة، وإيمانه بضرورة العمل الجماعي تحت شعارات الدعوة والتنظيم القديمة، وبالتالي فإن تخليهم بالكلية عن تلك الأفكار يظل بعيد المنال، نظرًا لعوامل عديدة منها سياقاتهم السيكولوجية وواقعهم السيسيولوجي.
وفي هذا الإطار، تظل أزمة الآلية التي يمكن الحكم بها على تخلي الفرد عن انتمائه السابق لجماعة الإخوان موجودة، وهو ما يُنعكس سلبًا على عمليات الخروج الجادة من التنظيم، والمراجعات الفكرية التي تُساهم في تفكيك الأفكار المؤسسة التي قامت عليها الحركة.
وبالنظر إلى المستقبل، فمن المتوقع أن تستمر حالات الانشقاق التي تتم ضمن الموجة الحالية، وهو ما سيؤدي إلى خلق فجوة بنيوية وانقطاع لتسلسل اتصال الأجيال التنظيمية، وقد يؤدي هذا إلى اضمحلال التنظيم الإخواني بشكل كامل، وعدم قدرته على إعادة ضخ دماء جديدة في أوردته الواهنة.
ومن غير المرجح أيضًا، أن تنجح قيادة الإخوان في وقف نزيف الانشقاقات الذي أصاب الجسد الإخواني، بل تظهر في كل مناسبة وكأنها مصرة على اتباع نفس الطرق والميكانزيمات القديمة في التعاطي مع مخالفيها، عبر الدعوة للصبر والثبات على المحنة وكانت آخر تلك الدعوات ما تضمنته آخر رسالتين: (ثباتك ثورة- يناير قصة تدافع بين الحق والباطل) ضمن سلسلة الرسائل التوجيهيةالأسبوعية في شهر يناير الجاري[22]، وكلاهما تضمنتا تأكيدًا على فكرة الصبر على المحنة والبلاء والثبات على طاعة القيادة، وهي نفس السردية التاريخية التي تتبعها القيادة في مثل هذه الظروف، وعليه فمن الطبيعي بقاء الوضع على ما هو عليه خلال الفترة المقبلة، إذا بقيت المتغيرات الراهنة على حالها.
المصدر : المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات