كريتر نت / كتب – محمد أبوالفضل
يواصل الجيش الوطني الليبي عملية تحرير طرابلس من قبضة تحالف المتشددين والميليشيات المسلحة، فيما لا يتوقع أشد المتفائلين بقوة المؤسسة العسكرية الليبية أن تنتهي العملية سريعا لأن الحرب التي يخوضها الجيش ليست نظامية، وخارطتها معقدة وتعتمد على الكر والفر، وفرضتها الضرورة، وأي تأخير يعني مواجهة الشعب الليبي لمصير أكثر قتامة، بعد تمركز أعداد كبيرة من المتطرفين في طرابلس.
يدور الحديث الآن حول حقيقة سير المعارك والتوازنات العسكرية الحاكمة لها، وانصب جزء من الكلام خلال الفترة الماضية على طبيعة الأدوار الخارجية من قبل تركيا وقطر وإيطاليا من دون الاقتراب من مكونات الكتائب المسلحة وتحالفها مع التنظيمات المتطرفة، وهما في واقع الأمر شيئان مختلفان، يتّفقان فقط في أنهما جميعا من المجرمين والإرهابيين.
تقاتل المجموعة الأولى من الميليشيات لأجل أغراض مادية والحصول على مزايا عينية، بينما تقاتل الثانية لدوافع عقائدية ومشروع إسلامي وهمي، وأدى التحامهما إلى خلق شبكة من المصالح المتداخلة، ربطت مصيرهما معا. وهي واحدة من العقبات التي عطلت تقدم الجيش الليبي نحو طرابلس الأشهر الماضية، والذي يريد الحفاظ على أرواح مواطنين اضطروا إلى التأقلم مع حكم الإرهابيين، وانتظروا طويلا من يخلصهم من قبضة المسلحين.
تعقدت الأوضاع بعد تزايد معالم الانحياز من قبل الأجسام السياسية في العاصمة نحو الميليشيات، بطرفيها الانتهازي والعقائدي إلى درجة أنه جرى تسويقهما على أنهما وجهان لعملة واحدة، وجسد رسمي يمكن التعويل عليه في حفظ أمن البلاد، في إشارة فسرت أسباب تقاعس حكومة الوفاق عن المضي قدما في توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، لأنها ببساطة تنهي سطوة العصابات المسلحة بأطيافها المختلفة، وتحرم السياسيين من نفوذهم المفتعل.
استفاد مؤيدو هذا الرهان من الأخطاء المتكررة للبعثة الأممية في ليبيا، وتدخلات جهات خارجية في دعم المتشددين، وتناقضات الحسابات السياسية لدى بعض القوى الدولية. وخلقوا حالة مستعصية على الحل في الاتجاه الوطني، فرضت في النهاية مواجهة الحالة المتشابكة في طرابلس، لأن تجاهلها لوقت أطول سيؤدي إلى تجذّرها وصعوبة التخلص منها.
شبكة مصالح
يبدو التحالف بين المتطرّفين وقيادات الميليشيات مصلحيا صرفا، ما يساعد على سهولة تفكيكه كخطوة أولى نحو القضاء على تمركز التنظيمات الإسلامية وقطع أرجل الدول التي تدعمها، وتريد أن تظلّ طرابلس بؤرة تستقبل الإرهابيين من أنحاء العالم.
أصبحت الكتائب المسلّحة في طرابلس بالكثرة التي يصعب حصرها أو تحديد هوياتها وملامحها بدقة، وهي متلوّنة وتحالفات قياداتها متغيّرة، وأبرزها ثوّار طرابلس وقوة الردع الخاصة وقوة الردع المشتركة والنواصي والكثير من كتائب فرسان جنزور.
كانت هذه الكتائب ضد مقاتلي الجماعات الإسلامية وكتائب مصراتة ودخلت في عداء حتى أرغمتهم على الخروج من طرابلس سابقا. وأصبحت تلك الميليشيات على خلاف مع القيادي الإسلامي صادق الغرياني، الذي كفّر قوة الردع وطالب بلجمها ووصف عناصرها بـ “الشرذمة”، بعد أن ألقوا القبض على الكثير من عناصر مجلس شورى بنغازي والقاعدة والتنظيمات الإرهابية التي اعتبرها الغرياني من الثوار.
يتابع هؤلاء المشهد اليوم في طرابلس وظهروا أمام كثيرين على أنهم متفاهمون على مواجهة القوات المسلحة الليبية، لكن هو تفاهم حذر يقوم على المصالح المؤقتة، فلا تزال كل قوّة متوجسة من الأخرى، ولا تثق في نواياها، ويمكن أن تغدر في أي لحظة.
وكشفت بعض المصادر الليبية لـ”العرب” أن غالبية الكتائب المسلحة غير المؤدلجة على استعداد لترك المتطرفين فورا، إذا تأكد قادة هذه الكتائب أن الجيش الوطني سينتصر لا محالة في المعركة، وتلقوا ضمانات بعدم المحاسبة على ما ارتكبوه من جرائم.
لكن، تولدت هواجس لدى فريق المرتزقة من احتمال تعثر مهمة الجيش، ولذلك لا تريد بعض القيادات المجازفة وفتح الطريق أمامه للتقدم، خوفا من حدوث انتكاسة ربما تؤدي إلى تقوية موقف المتشددين. وفي هذه الحالة سيعود الجيش إلى مكان تمركزه في الشرق، وتزداد سيطرة مناهضيه من المتطرفين، ومعهم العناصر التي جاءت من تركيا، وهنا يلتف الحبل على رقاب هذه الكتائب.وساعدت بعض المواقف الدولية الملتبسة، وزيادة الدعاية السوداء التي تبثها تركيا وقطر بشأن عملية الجيش الليبي في فرملة بعض قادة الميليشيات الراغبة في ترك ميدان المعركة، حيث نقل إليهم شعور بصعوبة تحقيق الجيش السيطرة الكاملة وأن المواطنين سيقفون مع من غلب.
ويقول مصدر ليبي لـ”العرب” إن هناك نحو مليونين ونصف المليون شخص في طرابلس، يقف معظمهم مع الجيش الوطني، مشيرا إلى أن مقاتلي الردع وقوّات ثوّار طرابلس يجب أن يكونوا في خندق واحد مع المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش، ولديهم فرصة تاريخية ليكونوا في مركب الوطن بمجرد إعلانهم الانحياز إلى القوات المسلحة، وهي خطوة يمكن أن تؤدي إلى تفكيك الكثير من علامات القوة الظاهرة على جسد تحالف المتطرفين والميليشيات.
وأكد المصدر أن قوة الردع الخاصة مثلا مرجّح أن تنضم إلى الجيش عندما تقترب قواته من صلاح الدين، عند الإشارة الضوئية، ويقترب من طريق المطار، عند كوبري الحديد، يعني مسافة 25 كيلومترا. يعرف الجيش الليبي هذه المعادلة جيدا، ويراهن على أهمية فصم العلاقة بين الميليشيات والمتطرفين، وحاول المشير حفتر ذات مرة طمأنة المسلحين الذين احترفوا القتال للرزق وليس كعقيدة، وقال “هؤلاء أبنائي”، ويجري الآن فتح ممرات آمنة لكل من يرفض المشاركة في المعارك بجوار المتشددين.
غموض الخطط والمواجهة
أوضح المصدر الليبي أن هذه فرصة جيدة “ومن الضروري استثمارها لأن عدونا وعدوهم واحد، وهو الإسلاميون والجماعات الإرهابية المتشددة التي وإن انتصرت على قوات الجيش ستلاحق أعناق كتائب طرابلس بجميع أطيافها، ولن ترحم السياسيين الذين تعاونوا معهم، وهم في نظرهم كفرة ومرتدون”.
وأضاف أن الكتائب المسلحة تواجه مشكلة في كيفية التصرف، وحائرة لا تدري أي طريق ستسلكه في الأيام المقبلة، وقد عقدت اجتماعا في إحدى القواعد العسكرية مؤخرا، وتشاور قادتها حول ماذا يفعلون أمام قوة مقاتلي الجماعات الإسلامية الوافدة إلى طرابلس وسيطرتهم على المحاور الأمامية، والقوة الثانية التي هي قوات مصراتة التي بدأت تتغول وبالتالي يمكن أن تحكمهم. ودلل المصدر على كلامه قائلا إن “وزير الداخلية فتحي باشاغا، أصبح مكلفا بمنصب وزير الدفاع، وصلاح بادي قائد لواء الصمود يقود كل الجبهات، والمتحدث الرسمي باسم الحكومة، ومدير الإعلام الخارجي، كلهم من مصراتة، وهذا يعني هيمنتها على غالبية المحاور، بالتالي معركة طرابلس مصيرية ومن مصلحتهم انتصار الجيش الوطني، لأن من يقودونه عسكريون ليبيون، وليسوا متشددين وإرهابيين لهم ولاءات وطموحات قاتمة”.
لم يصطدم حتى الآن الجيش الليبي مع مصراتة عسكريا، لكن من غير المستبعد أن يتم قصف الميناء الحيوي الذي يستقبل الأسلحة والمعدات القادمة من تركيا، ومن الممكن ضرب المطار الذي انطلقت منه بعض الطائرات الأيام الماضية.
وأشار مصدر آخر، على اطلاع بما يجري من معارك، لـ “العرب”، إلى أن معركة مصراتة مؤجلة، وتحتاج إلى تفاهمات وضمانات سياسية، وليس من مصلحة الطرفين الدخول في مواجهة مفتوحة، لافتا إلى إمكانية تحييدها، خاصة أنها لم تنخرط مباشرة في معارك طرابلس.
وأكد المصدر أن الجيش حقق جانبا مهما من معادلة المصالحة، ومكوناته القيادية تنتمي إلى غالبية القبائل والمناطق، بما يعني أننا أمام مؤسسة عسكرية محترفة وتسودها اللحمة الوطنية، وتضم قيادات من النظام الليبي السابق، وعناصر مهمة ممن شاركوا في ثورة فبراير.
وكان سيف الإسلام القذافي دفع بالقوات التابعة له إلى اللواء التاسع (نواته الأساسية من اللواء السابع مشاة) منذ بداية المعركة، وكانوا في بني وليد، وغالبيتهم ممن كانوا مع خميس القذافي في كتيبة 32، أي أن الجيش لديه حواضن وأدوات تساعد في عملية تفكيك التحالف بين المتشددين والمرتزقة، وهي عملية لها أذرع عسكرية وأخرى دبلوماسية وثالثة قبلية.
وثمّن المصدر الليبي الدور الذي يلعبه عقيلة صالح رئيس البرلمان، وقال إنه “مع الجيش الوطني، وقطع الفتنة التي تحدثت عن وجود خلافات بينه وبين حفتر، والتقى الطرفان في معركة الوطن، بينما التقى في المقابل صادق الغرياني، وخالد المشري رئيس مجلس الدولة، وعلي الصلابي، زعيم الجماعة الليبية المقاتلة، مع قيادات الميليشيات لهدم الوطن”.
لم تعد عملية فك العلاقة بين الجانبين صعبة، غير أنها بحاجة إلى جهود مضنية، ونجاحها سيدق مسمارا قويا في نعش المتطرفين ومن يريدون تحول ليبيا إلى أنقاض، ويفقدون أحد الأجنحة التي ساعدتهم في السيطرة على الأمر والنهي في طرابلس.
وتعمل قيادات التنظيمات الإسلامية في الخارج على التشكيك في حدوث تقارب بين الليبيين على أسس وطنية، وتضخم دور وتأثير الكتائب المسلحة وضاعفت الإغراءات والحوافز التي تنتظرها، حال التفوق على الجيش الليبي، للجم التفكير في الانصراف عن المتطرفين الذين يقودون المعارك الأمامية حاليا.
بعد تكبد الجماعات المسلحة خسائر كبيرة بدأت عناصر عديدة في مغادرة الميدان، ورحل البعض إلى ملاذات آمنة داخل ليبيا وخارجها، واستقبلتهم دول تخوض حربا ضد الإرهاب، وهي دلالة على أن المتشددين في مأزق، جعلهم مؤخرا يصوبون مدافعهم نحو مناطق سكنية لاتهام الجيش بأنه يقصف مدنيين لخلط الأوراق وتخفيف الضغوط من خلال الاستنصار بالقوى المؤيدة لهم، وإحراج الدوائر الصامتة على الدول الراغبة في كسر شوكة الإرهابيين.
معركة مصيرية
تؤكد بعض أسماء المتطرفين التي تتصدر واجهة المعارك أنهم في محنة كبيرة، وفقدوا جزءا من أسلحتهم، بعد استهداف عدد من المخازن مبكرا، كما أن مصرع عدد من القيادات يعزز عملية انهاكهم تدريجيا في طرابلس، كي يضطروا إلى الاستسلام.
ومن أبرز الأسماء المشاركة في المعارك، سعد عبدالسلام الطيرة، المكنى بـ”أبوالزبير- الدرناوي”، وهو من سكان حي الساحل في درنة، وأصيب في 22 سبتمبر 2015 في الفك السفلي، ونقل إلى مصراتة ومنها إلى تركيا بجواز سفر مزور، وبعد عودته كلف آمرا على سرية من 30 متطرفا.
ومن العناصر اللامعة الآن، محمد مصطفى كفالة، المكنى بـ”زيد” وهو متخصص في سلاح الهاون وإعداد العبوات الناسفة، وكان من بين سرايا راف الله السحاتي في فبراير 2011، وفر من بني غازي بعد إصابته، واستقر في منطقة تاجوراء شرقي طرابلس، وهو ضمن مجموعة القيادي مصباح الشيخي، المكنى بـ”الصومالي”، والشريف بوليفة، المكنى بـ”ياسر”.
ويرى المتطرفون أن معركة طرابلس حاسمة لمصيرهم في ليبيا، ويقاتلون ضد قوات الجيش، ما أوقع في صفوفهم خسائر بشرية كبيرة الأيام الماضية، فقد قتل القيادي أبوبكر ميلاد، الشهير بـ”البحري- المسلاتي”، والمقرب من بشير البقرة، في محور وادي الربيع طرابلس، وقتل هيثم يونس الأزرق، الشهير بـ”كورة”، وهو آمر سرية أم العقارب لدى كتيبة ثوار ليبيا، فضلا عن أحمد سالم المعداني، المكنى بـ”الثعلب”، وهو من مجلس شورى ثوار بنغازي.
وهناك قائمة طويلة من القيادات المتطرفة، البعض لقي حتفه في المعارك، والبعض الآخر لا يزال يقاتل في محاور عدة ويتم تتبعه بدقة، ما ينذر بأن عملية طرابلس ستكون مقبرة للكثير من الأسماء التي أرقت دولا عديدة السنوات الماضية، والتي يتوقف حسمها على الوقت الذي يستغرقه فصل المرتزقة عن المتطرفين.