أنجيل الشاعر
كاتبة سورية
يعيش العالم، اليوم، حالة من التوتر والتطرّف على كافة مستويات الحياة؛ سواء السياسية منها أو الدينية، أو حتى الحياة المعيشة؛ على مستوى الاستهلاك والصناعة وغيرها، وأكثر ما ينعكس سلباً على تطور المجتمعات وتحضّرها: هو التطرّف الديني والتطرّف السياسي.
يبدأ التطرف عند الأفراد أو الجماعات من الرؤية الأحادية للعالم، وعدم تقبّل الاختلاف، سواء الاختلاف بالرأي، أو العرق، أو الدين، أو الجنس، وهذه الرؤية تسمى (المونوفيجن العقلية).
لم تتوقف الرؤية الأحادية عند أيديولوجيا/ أيديولوجيات وحسب؛ إنما امتدت لتشمل عدم التوافقية الإنسانية، ونقص في المدارك العقلية، مما ينتج عنه التشدّد والتطرف والإقصاء؛ وهي أشدّ حالات المونوفيجن العقلية خطراً على الفرد والمجتمع، وتقع حالات الإقصاء، في أغلب الأحيان، على النساء دون الرجال، ومن النساء أنفسهنّ أكثر من الرجال.
تتصل الرؤية الإقصائية بالنزوع العدواني المترسّب من المراحل الهمجية في تاريخ البشر؛ فبقدر ما تكون الثقافة تمييزية وإقصائية وتسلطية على الآخر المختلف، بقدر ما يصطبغ خطاب الرجل للمرأة بألوان العداوة، ولا يتحرج بعض العلماء والفلاسفة من القول: “المرأة عدوّة الرجل اللدودة”، وكذلك الخطاب النسائي، وعلى وجه الخصوص الصيحات المتوترة وشعارات تحرير المرأة من عنف الرجل؛ الذي ما يزال هو نفسه يرزح تحت عنف المجتمع، الذي يغذّي ذهنيته بالذكورة، فيقبلها بدوره قبولاً غير مشروط، بالتالي؛ تنعكس تلك الرؤية على المجتمع بأسره، وذلك منذ النشأة الأولى للفرد؛ ففي المؤسسات التعليمية، على سبيل المثال، مسجّل على الكتاب المدرسي “كتاب التلميذ”؛ هذا التمييز القائم من أوّل بنية من البنى التحتية للمجتمع، ينسحب على داخل الكتاب، الذي يضمّ خطابات ذكورية ودروساً تمييزية بين الأنثى والذكر، من ثم ينسحب على المجتمع بكليته، نتساءل: ما هي الأسباب الكامنة خلف الرؤية الإقصائية في المجتمعات كافة، ونخص منها المجتمعات العربية والإسلامية؟
قامت الدكتورة ماجدة حسين محمود، والدكتور أحمد حسين الشافعي، بدراسة ميدانية شملت ثمانين شاباً وشابة في جامعة حلوان بمصر، قسم علم النفس، “نصفهم من ذوي الفكر المتطرف”، ومن مستوى اجتماعي/ اقتصادي منخفض، لمعرفة أسباب الرؤية الإقصائية في ضوء الفروق بين الجنسين، وأوضحت النتائج؛ أنّ “الفكر المتطرف يؤثر بشدة في الرؤية الإقصائية، بينما لم يؤثر النوع إلا في الشقّ الخاصّ باستبعاد متعدّد الرؤى لأحادي الرؤية، ولم يظهر تفاعل جوهري بين الفكر المتطرف والنوع، بينما يبرز التطرف الاجتماعي والتطرف الديني بشكل كبير في الدراسة، ولعلّ التطرف الديني هو أعمق صوره وأشدّها استعصاءً على التغيير”.
نستطيع القول، بحسب الدراسة السابقة؛ إنّ الفقر أو المستوى الاقتصادي المتدني والتراتبية الاجتماعية؛ سببان مهمّان لوجود التطرف، من ثم عدم قبول الآخر، من هو أدنى بالمكانة الاجتماعية، وما هو أعلى كذلك، فينتج عن ذلك الرؤية الإقصائية، وما لها من تبعات عنفية، قد تؤدي إلى تصفية الأفراد المقصيّين من الحياة، وتنطبق تلك الرؤية على التطرف السياسي أيضاً، طمعاً بالسلطة والهيمنة، وإلّا ماذا نسمي ظهور اليمين المتطرف وتفشيه في أوروبا والعالم المتمدن؟ وماذا نسمّي داعش وما تفعله من قتل وتدمير وخراب نفسي وجسدي، إن لم يكن استمراراً للظلم القائم على الشعوب منذ قرون؟
التطرف الاجتماعي؛ الذي يضمّ التطرف السياسي والتطرف الفكري والتطرف الفنّي، إلى آخر ما هنالك من أشكال الحياة الاجتماعية، لا ينفصل عن التطرف الديني، ولا ينفصل إقصاء الرأي عن إقصاء الجنس أو العرق أو الدين؛ فالرؤية الإقصائية واحدة، وهذا نابع من وعي مجتمعي موروث ومتأصل في المجتمعات المتخلفة منذ آلاف السنين، ثقافة ميتافيزيقية تعود بالإنسان إلى تشكّله الأول من حيث العنف والوحشية، العمق المعرفي في نظام اجتماعي متوارث العادات والتقاليد، والمحرَّمات الدينية، ينتزع من كلّ مَن لا يواكبه الحقّ في العيش بحرية، وإرادة تدفع الأفراد (إناثاً وذكوراً) إلى بنائه، وإعادة تشكيله من جديد، (أستخدم تعبير أنثى وذكر، بمعناهما البيولوجي، لأنّ كلّ امرأة هي أنثى، وليست كلّ أنثى هي امرأة، ولا كلّ ذكر هو رجل بالمعنى الاجتماعي)؛ فلا يتعين الرجل إلا بنفي المرأة، ولا يتعين المسلم إلا بنفي غير المسلم، فكلّ تعيين هو نفي بالضرورة، فإنّ الثقافة المبنية على عدم الاعتراف بالآخر على أنّه المختلف، هي أيضاً مبنية على عدم الاعتراف بالذات على أنها، بالنسبة إلى الآخر، هي آخر مختلف أيضاً. من ثم؛ تضفي هذه الثقافة تشويهاً على الشخصية الإنسانية، من خلال إضفاء بعض الصفات عليها؛ إما صفة دينية، أو صفة عرقية، أو صفة حزبية، فتصبح هذه الصفة هوية مع مرور الزمن.
نتساءل أيضاّ: هل الرجل وحده الذي يفكر تفكيراً ذكورياً في مجتمع تحكمه الأنظمة الذكورية، وسلطة سياسية كرّست دونية المرأة واستعبادها لذاتها ولنظيراتها من النساء، أم هذا الفكر تسرّب إلى ذهنية المرأة وأصبحت تنظر إلى نفسها كما ينظر إليها الرجال، جسداً اجتماعياً وعورة دينية؟
غياب الحريات، وغياب الديمقراطية من الحياة العامة؛ وحضور التشدّد الديني في المجتمعات العربية والإسلامية (باستثناء تونس)، انعكس سلباً على المرأة، ما أضعف مشاركتها السياسية والاجتماعية، وحدّ من مشاركتها الثقافية، رغم وجود مثقفات بارزات في العالم العربي، لكنهنّ مغموسات في حيّز عدم المساواة والنظرة الاجتماعية الدونية للمرأة، فصارت تصطنع الحدود بينها وبين المجتمع، وبينها وبين الرجل، كمسلّمة مسبقة بأنها الأدنى.
هل تحتاج الرؤية الإقصائية إلى الكثير من الجهد لتصبح رؤية معرفية مرنة، تقبل الآخر بكافة محمولاته وتعدّه إنساناً فقط؟ أعتقد أنّ الفضاء الإنساني فسيح، يتّسع لكلّ كائن من كان، بكامل صفاته الإنسانية والطبيعية والمعرفية، فقط نحتاج إلى كثير من التفكير المتوازن والاتساع.
نقلآ عن حفريات