سومديب سين
“يجب إبعاد السياسة عن الأكاديميا!” هذا هو الرد الذي غالبًا ما نسمعه من الأوساط الأكاديمية الغربية عندما يُدعى إلى مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية؛ بسبب تورطها في احتلال الأراضي الفلسطينية المستمر لعقود، وقمع الشعب الفلسطينيّ، والحرب الإبادية على غزة.
يدّعي هؤلاء أن الجامعات هي ساحات لـ “الحوار المدني”، “حرية التعبير”، و”البحث المفتوح”، وأن المشاركة في مقاطعة أكاديمية – خصوصًا في مسألة مثيرة للانقسام مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني – أمر غير مقبول بالنسبة لأي مؤسسة تعليمية عليا يجب أن تكون “محايدة” سياسيًا لتحقيق وظيفتها.
علاوة على ذلك، ينكر العديد من هؤلاء بشكل مباشر تورط الأكاديميا الإسرائيلية في جرائم الدولة، قائلين إنه من غير العدل وغير المنتج معاقبة المؤسسات التعليمية “المستقلة” على جرائم الحرب وانتهاكات القانون الدولي التي ترتكبها حكومتها.
بالطبع، هناك الكثير مما يمكن تفكيكه وانتقاده في هذه الحجج.
في مثل هذا الوقت المأساوي، وسط حرب وصفتها محكمة العدل الدولية بأنها “إبادة جماعية محتملة”، قد يكون من العبث، بل ومن غير المناسب، التحقيق في السذاجة (أو الجهل؟) الذي يغذي الاعتقاد بأن الجامعات يجب أن تبقى “محايدة”.
ولكن بعد أن تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين الرسميين 40,000، ولا يزال الآلاف في عداد المفقودين، وبعد تدمير كل الجامعات في غزة، ومع عدم وجود نهاية قريبة للحرب الإسرائيلية، يصبح من الضروري مساءلة تورط الأكاديميا الإسرائيلية في هذه الفظائع المستمرة.
لقد كانت الرقابة سلاحًا تستخدمه الجامعات الإسرائيلية بشكل منهجي ضد من يتجرؤُون على الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وانتقاد تجاوزات إسرائيل لعقود، وخصوصًا منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
إحدى أبرز ضحايا هذا السلاح مؤخرًا كانت الأستاذة نادرة شلهوب كيفوركيان في الجامعة العبرية بالقدس (HUJI).
في منتصف أبريل/نيسان من هذا العام، اعتقلتها الشرطة الإسرائيلية؛ بسبب انتقادها الصهيونية وحملة الإبادة الجماعية التي تقودها إسرائيل ضد غزة.
لعدة أشهر قبل اعتقالها، كانت شلهوب كيفوركيان هدفًا لحملة تشويه تصور كلماتها وكتاباتها على أنها “تحريض على العنف” ضد دولة إسرائيل.
ورغم أنه يبدو أن السلطات الإسرائيلية ووسائل الإعلام هما من قادتا هذا الحملة بشكل علني، فإن البذرة الحقيقية وراءها تعود إلى المكان الذي تعمل فيه.
لم تكن الجامعات الإسرائيلية، مواقع ‘محايدة’ للبحث المفتوح، بل هي متورطة بشكل مباشر في الاحتلال الإسرائيلي وقمع الفلسطينيين، ودعم السياسات العسكرية للدولة
في أواخر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أرسل لها قادة الجامعة العبرية، رسالة تعبر عن “الصدمة والاشمئزاز وخيبة الأمل العميقة” بسبب توقيعها على عريضة تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة وحل سياسي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني الأوسع الذي سينهي الاحتلال والفصل العنصري.
وجاء في الرسالة أن الرئيس والعميد يشعران بالخزي لوجود أشخاص مثل شلهوب كيفوركيان ضمن أعضاء هيئة التدريس، ويجب عليها أن تفكر في ترك منصبها في المؤسسة. تم توزيع هذه الرسالة علنًا، مما زاد من الحملة العامة ضدها.
في مارس/آذار، بعد أن دعت شلهوب كيفوركيان إلى إلغاء الصهيونية خلال مقابلة تلفزيونية، أرسل لها قادة الجامعة رسالة تصفها بأنها إحراج وطني ودولي، وأكدوا أن الجامعة العبرية تفتخر بكونها “مؤسسة إسرائيلية عامة وصهيونية”.
مرة أخرى، تم نشر الرسالة علنًا، وأرسلت مباشرة إلى بعض أعضاء الكنيست. أكدت شلهوب أن إرسالها “أشعل حملة تحريض تضمنت تهديدات خطيرة وغير مسبوقة” استهدفتها هي وعائلتها.
بشكل عام، أصبح إسكات الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، والتنمّر الإلكتروني، والإجراءات التأديبية ضد هؤلاء، سمةً شائعة في المؤسسات التعليمية العليا في إسرائيل. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، تم نشر عناوين وصور منازل الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية على وسائل التواصل الاجتماعي.
كما ألزمت وزارة التعليم العالي الإسرائيلية الجامعات والكليات بالتحقيق في جميع الشكاوى ضد الطلاب، وأعضاء هيئة التدريس الذين يبدون تصريحات عامة يُنظر إليها على أنها متعاطفة مع حماس أو الجهاد الإسلامي. بالطبع، غالبًا ما تُعتبر جميع التعبيرات عن التضامن مع فلسطين في هذا السياق تحريضًا على العنف ضد الإسرائيليين.
بالإضافة إلى إسكات المنتقدين، كانت الجامعات الإسرائيلية نشطة في محاولاتها تعزيزَ الدعم العالمي لإسرائيل خلال حملتها العسكرية في غزة. في الأيام الأولى بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، نشر رئيس جامعة تل أبيب (TAU) بيانًا أعلن فيه أن الجامعة “سخرت كل قوتها وقدراتها لدعم الجهود الوطنية”.
كما انتقد أولئك الذين دعوا إلى مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، مشيرًا إلى “بعض قادة المؤسسات الأكاديمية” في الخارج الذين فشلوا في إيقاف حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS).
وفي هذا السياق، ذكر رئيس الجامعة أن جامعة تل أبيب قد أضافت “التواصل الإعلامي” إلى جهودها، حيث تم تجنيد الطلاب للعمل على شبكات التواصل الاجتماعي “لدحض الأكاذيب المروّعة التي قد تؤثر على الجماهير الساذجة غير المدركة لما فعله أعداؤنا بنا”.
بعد أقلّ من أسبوع من هذا البيان، أطلق طلاب دوليون في جامعة تل أبيب مبادرة لدعم إسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأكد الطلاب الذين يديرون المبادرة التزامهم “بنشر معلومات حقيقية وموثوقة”، مشيرين إلى أن إسرائيل تخوض “حربًا إنسانية ضد الإرهاب؛ حربًا بين الخير والشر”.
بدورها، دعمت جامعة حيفا القوات الإسرائيلية والهجوم على غزة بشكل حازم. نظمت الجامعة حملات لجمع التبرعات، تضمنت تقديم الدعم المالي لطلابها “الجنود” الموجودين في الخطوط الأمامية.
كما تبرعت بسترات واقية من الرصاص للقوات الخاصة.
واقتداءً بما فعلته جامعة تل أبيب، أطلقت جامعة حيفا مبادرة لحشد الدعم لإسرائيل؛ بهدف إقناع الجماهير الدولية بأن أي انتقاد للجهود الحربية الإسرائيلية في غزة هو غير عادل، وأن أولئك الذين يدافعون عن حقوق الفلسطينيين إما أنهم مضلَّلون أو مؤيدون للإرهاب. كجزء من هذه الحملة، أصدرت الجامعة “سلسلة من الفيديوهات متعددة اللغات” يظهر فيها طلاب وأعضاء هيئة التدريس لتوضيح “الحقيقة” حول ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
في معظم هذه الفيديوهات، يتم ببساطة تكرار وجهات نظر الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك الادعاءات بأن النشاط المؤيد لفلسطين هو في الحقيقة دعم لحماس، وأن شعار “من النهر إلى البحر، فلسطين حرة” هو دعوة لهولوكوست ثانية ضد الشعب اليهوديّ.
منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أصبحت الأصوات المؤيدة لفلسطين في الجامعات الإسرائيلية مستهدفة.
يتم إسكات المعارضين، ونشر عناوين منازل الطلاب الفلسطينيين، والتحقيق مع أي شخص يُنظر إليه كمتعاطف مع الفلسطينيين
كانت جامعة حيفا أيضًا في طليعة الحملة الإسرائيلية لمواجهة حركة المقاطعة (BDS)، والجهود الدولية لمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. في يونيو/حزيران من هذا العام، انضمت عميدة الجامعة الحالية، البروفيسورة مونا مارون، إلى مجموعة من الأكاديميين من معهد وايزمان للعلوم والجامعة العبرية ونشرت مقالًا في مجلة “Nature” يجادل بأن مقاطعة الأكاديميا الإسرائيلية ستكون غير مثمرة؛ لأنها تتجاهل الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين “يُعرفون بأنهم عرب أو فلسطينيون”، وتتجاهل سجل الأكاديميا الإسرائيلية “في دعم حقوق الإنسان وتحدي سياسات الحكومة”، و”تقوض الجهود لتعزيز الشمولية” داخل المجتمع العلمي الإسرائيلي.
بالطبع، لا شيء من هذا صحيح. كما كشفت الأنثروبولوجية مايا ويند في كتابها السلطوي: “أبراج العاج والصلب”، فقد ساهمت الجامعات الإسرائيلية منذ زمن طويل في قمع الفلسطينيين. فـ”التخصصات الأكاديمية، وبرامج الدرجات العلمية، والبنية التحتية للحرم الجامعي، والمختبرات البحثية جميعها تخدم الاحتلال والفصل العنصري الإسرائيلي، بينما تنتهك الجامعات حقوق الفلسطينيين في التعليم، وتقمع البحث النقدي، وتقمع بوحشية المعارضة الطلابية”.
اليوم، هناك وعي متزايد بهذا الدور الذي تلعبه الأكاديميا الإسرائيلية.
ومع بث فظائع إسرائيل في غزة على الهواء مباشرة عبر منصات التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم، وتبني الجامعات الإسرائيلية دور المدافع والميسّر لهذه الحرب، تتراجع الحجة القائلة إن الأكاديميا محايدة ومستقلة.
في أبريل/ نيسان، نشرت وزارة الابتكار والعلوم والتكنولوجيا الإسرائيلية تقريرًا يوضح وجود “انخفاض حادّ في الرغبة” في التعاون مع الأكاديميا الإسرائيلية.
ووفقًا للتقرير، فإن جهود المقاطعة أثرت بشكل رئيسي، ولكن ليس حصريًا على “البحث في مجالات الطب، وعلم الأحياء، والفيزياء، وعلوم الفضاء، وعلوم الحاسوب”.
وقد أمرت وزيرة الابتكار والعلوم والتكنولوجيا جيلا غامليئيل مسؤولي الوزارة بوضع إستراتيجيات؛ لمواجهة هذه المقاطعة.
تجدر الإشارة إلى أنَّ غامليئيل كانت وزيرة الاستخبارات حتى منتصف مارس/آذار من هذا العام.
في الوقت الحالي، ومع استمرار إسرائيل في حملتها على غزة دون عقاب، يبدو أنّ موجة المقاطعات ستستمرّ أيضًا. في الواقع، أشار حكم صادر حديثًا عن محكمة العدل الدولية إلى أن مقاطعة إسرائيل، بما في ذلك مؤسساتها الأكاديمية، ليس خيارًا فقط، بل هو التزام نظرًا لأن إسرائيل تحتلّ الأراضي الفلسطينية بشكل غير قانوني وتقوم “بممارسة الفصل العنصري والتفرقة العرقية”.
وقالت المحكمة إن واجب جميع الدول هو إنهاء هذه الممارسات غير القانونية “عن طريق قطع جميع العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع إسرائيل في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة”.
بالطبع، لا تزال المؤسسات الإسرائيلية تحتفظ ببعض الأصدقاء المخلصين في الأوساط الأكاديمية، مثل جمعية ماكس بلانك الألمانية.
وقد قاد رئيس الجمعية، باتريك كريمر، رحلة تضامنية إلى إسرائيل في ديسمبر/كانون الأول ردًا على حملة المقاطعة.
ولكن قد يصبح من المستحيل قريبًا على السلطات الإسرائيلية عكس الدفع العالمي لعزل الأكاديميا في البلاد.
نقلآ عن الجزيرة نت