رستم محمود
للإسلام السياسي دور جوهري فيما أصاب الكثير من بلدان المنطقة من اهتراء عام، حتى صارت أحوالها قابلة للاختصار بعبارتين مقتضبتين: “دول فاشلة”، و”مجتمعات متناحرة”.
يصح ذلك، وإن بنسب متفاوتة، على بلدانٍ مثل ليبيا واليمن، وصولا لأخرى مثل لبنان وسوريا والعراق، حيث تحيا جميعها في خراب عميم، من سوء قدرة المؤسسات العامة على توفير الأمن والخدمات العامة، مرورا بعنف وكراهية وانقسام شاقولي يشطر مجتمعاتها الداخلية، على أسس أهلية ومناطقية وهوياتية، وليس انتهاء بفقدانها لأية صلة بالعالم الحديث وتحولاته، وخروجها من التاريخ حرفيا، وتعطل كل أنماط الحياة العامة فيها، من اقتصاد وتعليم وقضاء وسيادة قانون.
على أطلال هذا الحُطاب، ومع أنهم المُسبب الأساسي به، ليس للإسلام السياسي من شيء يقوله حول ما يجري، لا محاولة ذهنية وفكرية لتفكيك الجذور والخطابات والعقليات والأيديولوجيات التي أدت إلى ما صارت عليه هذه البلدان، بلدانهم، ولا تأملا في طبيعة الظروف والمناخات التي أنتجت هذا الوضع القاتم، وطبعا ليس من أي اعتراف بمسؤولية الذات، ولو نسبيا، عن هذه المحصلة، ودون شك ليس من أية مبادرة ما، سياسية أو أيديولوجية أو فكرية، ولو على سبيل التجريب وتخفيف الأهوال، حتى وإن كانت نظرية فحسب، يُمكن أن يتقدم بها الإسلام السياسي والقائمون بشأنه، في كل هذه الدول، لإنقاذ شيء ما، أيا كان.
في ظل الدمار العميم، ليس في جُعبة الإسلاميين إلا “قلاع من هواء”، كما كان الزعيم البريطاني وينستون تشرشل ينعت خطابات الهندوسية السياسية في أربعينات القرن المنصرم، ساخرا من تعاملهم مع السياسة والشأن العام ومؤسسات السلطة والإدارة بمجموعة من التعاويذ والأناشيد.
للإسلاميين راهنا شيء كثير من ذلك، من التعاويذ والأناشيد الذاتية، المقطوعة عما يجري في العالم الموضوعي، التي تراكم مظلومية مفتعلة مع “مؤامرة متخيلة”، ترسم عالما متوهما خاليا من كل موضوعية، لأنها تريد لهذا العالم أن يكون حسب رؤاها ومخيلتها وأفكارها، لا أن تكون كل هذه الأشياء مطابقة ومتفاعلة مع هذا العالم العياني المحيط بها.
بلعبته هذه، يواصل الإسلام السياسي كجزء واستمرارية لتراث سياسي وأيديولوجي وفكري- إن جاز التعبير- مديد، أنتجه الإسلاميون طوال أكثر من قرنٍ كامل، كان على الدوام حسب ذلك المنطق، الذي يتخيل العالم وكأنه جزء من الجماعة السياسية، وليس العكس. فالإسلام السياسي تأسس بالتكوين على ترسانة من الكتابات والطروحات التي شككت في دولنا الحديثة، بصلاح بنيانها وشرعية وجودها، وتساءل وناقش وجادل طويلا حول جواز التعامل مع مؤسساتها ومشروعية وثائقها، من دساتير وقوانين وأنظمة عامة، ولم يحذر من تهيئة كل الظروف السياسية والمناخات الفكرية لتكفير مجتمعاتها.
صحيح أن التيارات والقوى الإسلامية تفاوتت آراؤها وخطاباتها بشأن علاقتها مع الدول الحديثة التي تكونت على أنقاض “الفردوس المُتخيل” بالنسبة لها، الإمبراطورية العثمانية، لكنها كانت مُجمعة وموحدة على الجوهر الفكري المشكك والرافض لشرعية هذه الدول الحديثة، تبذل كل ما يجول في ذهنها لتعطب حركتها ضمن مسار التاريخ، وتخلق شرخا مستديما بينها وبين مجتمعاتها الداخلية، والإسلاميون الذين لم يفعلوا ذلك، هُم فقط الذين لم يستطيعوا. فالفيض الكتابي الذي أنتجه الإسلام السياسي حول قضايا من مثل “الحاكم الصالح”، و”أسس الدولة الإسلامية”، و”الجهاد”، و”الحاكمية”، و”الفرقة الناجية”… إلخ، كان مبتغاها النهائي رفع الشرعية عن الدولة الحديثة، وكل مفرزاتها ومنجزاتها.
كان الإسلاميون في ذلك المسار حالة استثنائية على مستوى العالم. فحتى التيارات الثورية الأكثر راديكالية، بما في ذلك حركات التحرر من الاحتلال والاستعمار، كانت مناهضة لسلطة أو حاكم وأيديولوجيا ما ضمن الدولة، وليس للدولة وبنيانها وروابطها الحتمية مع المجتمعات. إذ لم يسبق لتيار فكري أو سياسي عبر العالم، أن أنتج عشرات آلاف الكُتب وملايين الساعات من النقاشات والجدالات التي لا معنى ولا طائل منها، في سبيل إلغاء بداهة موضوعية، هي الدولة الحديثة، وإعادة المجتمعات ومساراتها التاريخية إلى الوراء.
اللافت للنظر، أن مجموع “الأدب السياسي الإسلامي”، الذي نُشر عبر آلاف الكُتب وملايين المقالات والخطابات، المكتوبة والمذاعة والمصورة، يُمكن تكثيفه بعبارات ومفاهيم مُقتضبة، هي رفض الدولة الحديثة بكل أدواتها ومواثيقها ومؤسساتها، فقط لأنها حديثة وغير مطابقة لمخيلتهم اليوتوبية، وزرع الشك والشقاق والكراهية بين طبقات وطوائف وقوى المجتمعات المحلية، وإدخال المسلمين في صراع مُستدام مع العالم الخارجي، وفرض سلطة ثيوقراطية عنيفة ورجعية على المجتمعات والدول ومُقدرات الحياة العامة.
لقد أنتج الإسلام السياسي تلك “القلاع من الهواء”، في وقت كانت تشهد فيه مجتمعات هذه الدول أسرع عمليات التنمية الاقتصادية والتحديث الاجتماعي والتطور السياسي والقانوني، وحققت وراكمت بسبب سرعتها تلك، ما يساوي مجموع ما حصلته مجتمعات دولنا طوال خمسة قرون كاملة من الحُكم العثماني، بسبب التوسع الهائل في التعليم وترسخ مؤسسات الدولة وتمركز المفاهيم المدنية للحياة العامة، تحديدا في علاقة المواطنين مع القوانين وأجهزة الدولة. في الوقت ذاته، كان الإسلاميون يُغرقون جزءا واسعا من الفضاء الاجتماعي بجدالات بيزنطية لا معنى ولا قيمة ولا طائل منها، تجاوزها الحاضر وكانت محاولات بائسة لإعادة التاريخ إلى الوراء.
وفي مرحلة لاحقة، ربما منذ أوائل التسعينات من القرن المنصرم، حاول الإسلاميون “لبس طرابيش” متنوعة، لإحساسهم بالفارق الزمني والمعرفي الهائل الفاصل بينها وبين المجتمعات، تحديدا على مستوى النُخبة، وللإيحاء بقدرتهم على التحول والتطور. فمرة عرضوا أنفسهم كـ”تيارات محافظة” ومناظرة لشبيهتها الغربية. متناسين عن قصد أن “المحافظة السياسية الغربية”، وإن كانت تسعى لرعاية وتأمين بعض المؤسسات والقيم التقليدية في دولهم وأنظمتهم السياسية، لكن دوما تحت سقف تقديس الدولة والنظام السياسي المدني، بكل فروضه وتشعباته. فيما كان الإسلاميون مجرد “متطرفين” حسب المعايير المحافظة تلك، لأنهم كانوا يبتغون في المحصلة تغييرا جذريا في جوهر الدولة والسلطة والحياة العامة، وهو ما كان محل رفض من التنظيمات المحافظة على الدوام.
وفي مرات أخرى، عرض الإسلاميون أنفسهم كقوى وتيارات “ديمقراطية”، لكن وعيها بالديمقراطية كان مُختصرا على “البُعد الإجرائي” للديمقراطية، أي الانتخابات التي ستتمكن عبرها من الوصول إلى السلطة فحسب، عارية من طيف القيم والمعايير الديمقراطية، كالمساواة الجندرية والحريات المدنية ورِفعة “منظومة حقوق الإنسان” على غيرها من الرؤى الأيديولوجية، وحق البشر في أجسادهم والفصل بين السلطات… إلخ، وهذه المنجزات الإنسانية العظيمة، بذل الإسلاميون فيضا آخر من “قلاع الهواء”، قالوا إنها أفكار ومفاهيم ووجهات نظر، فقط لرفضها وإبعادها وتحطيمها.
نقلآ عن مجلة المجلة