محمد شعبان أيوب
تلقي أزمة سد النهضة بظلالها على العلاقة بين مصر وإثيوبيا، خصوصا مع تكرار فشل المفاوضات بين الجانبين طوال السنوات العشر الماضية، الأمر الذي صعّد من لغة الخطاب السياسي والدبلوماسي بين الدولتين، لا سيما وأن 85% من مياه النيل تنبع من الأراضي الإثيوبية، وقد باتت تتحكم فيها تحكما شبه كلي بعد اقتراب إتمام بناء سد النهضة.
لم يكن النزاع على مياه النيل أزمة عابرة ظهرت خلال هذه الفترة فقط، بل كانت على مدى التاريخ الشغل الشاغل لحكام مصر الذين أدركوا الأهمية الإستراتيجية للنيل في عمران البلاد وزراعتها وبقاء الإنسان فيها؛ ولهذا السبب تراوحت علاقاتهم مع منابع النيل أي الحبشة (إثيوبيا) بين الدبلوماسية تارة، والصدام العسكري ومحاولات السيطرة تارة أخرى.
في المقابل، أدرك حكّام إثيوبيا مقدار الثروة التي يمتلكونها بسيطرتهم على منابع النيل، وكيف أنه أداة إستراتيجية يمكن من خلالها التدخل في الشؤون السياسية لمصر، بل وإقامة إمبراطورية كبرى في شرقي أفريقيا، ففي القرن الرابع عشر الميلادي أرسل سلطان الحبشة جبره مصقل رسالة تهديد إلى سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون، جاء فيها “نيل مصر الذي به قوام أمرها وصلاح أحوال ساكنيها مجراه من بلادي، وأنا أسُدّه”.
في هذا التقرير نستعرض منعطفا هاما في تاريخ العلاقة بين مصر وإثيوبيا والتي كان الصراع على مياه النيل أبرز ملامحها، الذي تمخض عن معركتي جوندت وجورا اللتين وقعتا قبل نحو 150 عاما.
فتوحات مصر في خط الاستواء
ترسّخت لدى والي مصر محمد علي باشا وبعض أبنائه الأهميةَ الجيوسياسية للسودان وشرق أفريقيا، وخاصة منابع النيل في إثيوبيا وأوغندا وغيرهما، ولا سيما في ظل التنافس الاستعماري الغربي الذي ما فتئ يكتشف القارة الأفريقية من شرقها لغربها، ومن شمالها لجنوبها.
وقد استطاع محمد علي أن يوسع الحدود المصرية إلى سواكن ومصوع -أي إنه ضم أجزاءً واسعة من السودان وإريتريا-، فأضحت مصر تسيطر على غرب البحر الأحمر من حدود باب المندب جنوبًا إلى خليج السويس شمالاً.
وقرر الخديوي إسماعيل -حفيد محمد علي باشا- التوغل إلى منابع النيل سواء التي توجد في إثيوبيا أم تلك التي توجد في جنوب السودان وأوغندا وهي المعروفة تاريخيًا باسم “إقليم خط الاستواء”.
ولكن من الأمور اللافتة أن إسماعيل لم يُسند مهمة ضم هذه المناطق إلى قيادة مصرية أو تركية كما فعل جدّه محمد علي سابقًا، وإنما عهدها إلى مستكشفين وقادة بريطانيين وأميركيين وأوروبيين، في وقت كانت فيه بريطانيا تتطلع إلى احتلال هذه المناطق بما فيها مصر والسودان.
اعتمد الخديوي إسماعيل أولاً على السير صمويل بيكر، وهو رحّالة ومستكشف وضابط إنجليزي كان مشرفًا على استكشاف منابع النيل وبحيراته، قائمًا بهذه المهمة نيابة عن الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.
نجح بيكر في هذه المهمة فأطلَق على كبرى بحيرات منابع النيل اسم “فيكتوريا” ملكة بريطانيا في ذلك الحين، ومن ثم أطلق على البحيرة التي تليها في المساحة بين الحدود الأوغندية والكنغولية اليوم اسم “ألبرت” على اسم زوج الملكة الأمير ألبرت.
كانت رحلات صمويل بيكر قد سبقت مجيئه إلى مصر عام 1869، ففي ذلك التاريخ حضر في معية الأمير إدوارد ولي عهد إنجلترا حفلَ افتتاح قناة السويس، فأوصى الأميرُ الإنجليزي الخديوي إسماعيل أن يعهد بمهمة توسيع حدود وأملاك مصر إلى هذا المستكشف.
وافق إسماعيل على الفور دون أن يدرك أن الإنجليز كانوا يبغون من وراء ذلك تمهيد الطريق لتحقيق أطماعهم الاستعمارية على حساب أموال ورجال مصر بقيادة إنجليزية خالصة.
وكما يقول المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي في كتابه عصر إسماعيل “إنه لو كان لدى إسماعيل بُعد نظر لما ارتضى أن يبسط نفوذ مصر في السودان على أيدي بيكر وغوردون وأضرابهما من دعاة الاستعمار الإنجليزي؛ لأن هؤلاء لا يمكنهم أن يخلصوا لمصر، بل هم يعملون على خدمة السياسة الإنجليزية التي كانت ولا تزال ترمي إلى إقصاء النفوذ المصري عن السودان”.
ومهما يكن، فقد قاد كلّ من صمويل بيكر ومن بعده الجنرال تشارلز غوردون الحملات المصرية على جنوب السودان وأوغندا، وبحلول عام 1876 استطاعت القوات المصرية أن تقيم حاميات عسكرية دائمة في هذه المناطق، وأعلن ملك أوغندا وقتئذ التبعية والطاعة لمصر.
وأرسلت وزارة الخارجية المصرية لكافة الدول توضح لها حدودها الجغرافية الجديدة التي بلغت إلى أعالي النيل وباب المندب ودارفور وبحر الغزال.
مصر تسيطر على القرن الأفريقي
ولم يكن أمام القوات المصرية إلا أن تزيد من نفوذها ووجودها العسكري في مناطق إريتريا وجيبوتي والصومال وبعض المناطق الداخلية في إثيوبيا ليتم لها تحقيق أهدافها الإستراتيجية؛ ولا سيما بعدما اكتشفت خطورة قيادة كل من بيكر وغوردن لقواتها في تلك المناطق، واستغنائها عن خدماتهما!
كانت كثير من موانئ إرتيريا والصومال وجيبوتي، مثل زيلع ومصوع وبربرة وتاجورة، تقع ضمن الأملاك العثمانية منذ قرون؛ وقد نجح الخديوي إسماعيل في أن يستصدر فرمًانا من السلطان العثماني عبد العزيز بإلحاق معظم هذه الموانئ إلى الإدارة المصرية بدلا من تبعيتها مباشرة إلى الدولة العثمانية في مقابل زيادة الأموال السنوية المقررة التي كانت تُرسلها مصر إلى الباب العالي.
وأمام زيادة الرقعة الجغرافية المصرية إلى هذا الحد، رأى الخديوي إسماعيل أن تتوسع مصر في المناطق الداخلية في إثيوبيا لأهميتها التاريخية والاقتصادية؛ لأن الهدف الإستراتيجي كان السيطرة على البحر الأحمر وأهم موانئه وحتى موانئ المحيط الهندي، بالإضافة إلى التوغل ناحية منابع النيل في إثيوبيا.
وبالفعل انطلقت حملة عسكرية بقيادة محمد رؤوف باشا في سبتمبر/أيلول 1875 من مدينة وميناء زيلع الذي يقع اليوم في أقصى شمال غرب الصومال قرب الحدود الجنوبية لجيبوتي ولم تلقَ أمامها مقاومة تُذكر إلا من بعض القبائل، واستطاعت السيطرة على هرر، ودخلت المدينة في الحكم المصري لمدة عشر سنوات تالية.
وكانت الخطوة التالية أن تُكمل القوات المصرية تقدمها حتى تسيطر على مناطق جنوب الصومال حول نهر جوبا ومناطق الحدود الصومالية الكينية، وكان غوردون باشا الإنجليزي المعين مديرا عامًا للسودان وملحقات الجنوب يرفض هذا التوسع المصري ويعمل في الوقت عينه لمصلحة مصر ويأخذ راتبه السنوي منها.
فأوعز لبلده بأن تضغط على الخديوي إسماعيل حتى لا يُكمل مشروع التوسع المصري، وبالفعل قبل الخديوي إسماعيل بعدم إكمال المشروع في جنوب الصومال خوفا من غضب بريطانيا.
ويُعلّق الرافعي قائلا “خشي الخديوي إسماعيل عواقب المشاكل بينه وبين الحكومة الإنجليزية، وكان في الوقت نفسه يجهّز الحملة على إثيوبيا.. فانسحبت الحملة من (نهر) الجوبا في يناير/كانون الثاني 1876، وعادت إلى مصر”.
وهكذا أخفقت تلك الحملة ولم تصل إلى غايتها، وهي بسط نفوذ مصر على شواطئ المحيط الهادي، ومنها إلى منابع النيل، ويرجع إخفاقها كما ترى إلى تدخل السياسة الإنجليزية.
وفي العام التالي 1877، أُبرمت اتفاقية بين بريطانيا ومصر تقر فيها الأولى بأحقية القاهرة في بلاد الصومال الشمالية ومدنها وموانئها، وشرعت مصر في تنمية المنطقة وعملت على ربط ميناء مصوع -الموجود اليوم في إرتيريا- بمدينة كسلا السودانية بخط سكة حديدي، وكان هذا الخط يمر بمدينة سنهيت أو كِرن وسط إرتيريا.
وحينها، اعترض ملك الحبشة لأنه اعتبر أن مدينة كِرن جزء من مملكته، في حين كان محمد علي قد استولى على هذه المدينة في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر.
وهكذا كانت مصر بحلول عام 1875 قد تمكنت من محاصرة إثيوبيا من جهاتها الأربع، ففي الشرق والجنوب تسيطر على إريتريا وجيبوتي والصومال حتى مناطقه الجنوبية، ومن الشمال على وسط إريتريا عند كِرن وبوجوس وكسلا السودانية، ومن الغرب تسيطر على جنوب السودان وأوغندا.
ولا شك في أن كل ذلك شجّع الخديوي إسماعيل على إتمام خطّته بالسيطرة على إثيوبيا ليتم له السيطرة على منابع النيل.
ويبدو أن هناك أسبابًا أخرى دفعت القوات المصرية لمهاجمة إثيوبيا، وذلك بسبب الهجمات المتوالية التي كانت تقوم بها قوات الملك يوحناس الرابع ضد المصالح المصرية في مصوع وبربرة وغيرهما من موانئ البحر الأحمر والمحيط الهندي.
لماذا انهزمت مصر في معركتي جوندت وجورا؟
ولكن ما لم يكن يحسب له الخديوي حساب هي الصعوبات الجمّة التي كانت تعترضه لتحقيق مشروعه هذا؛ وعلى رأسها الجغرافيا الإثيوبية الوعرة حيث الجبال والصحاري الكبيرة، وجهل القوات المصرية بهذه المناطق، فضلا عن الولاء المطلق للملك الحبشي يوحناس الرابع من مسيحيي إثيوبيا الأرثوذكس وخاصة الأمهرة.
قرر الخديوي إسماعيل أن يقود الحملة الأميرالاي (العميد) الدانماركي الأصل أدولف سورن آرندروب، وهو أمر كما رأينا شاع في عصر إسماعيل أن يعتمد على الضباط المرتزقة الأجانب من بريطانيا والولايات المتحدة والدانمارك وغيرها.
انطلقت الحملة من مصوع واقتحمت حدود إثيوبيا التي كانت تسيطر على المناطق الوسطى والجنوبية من إريتريا اليوم حتى بلغت منطقة جوندت، وهي منطقة جبلية وعرة تقع اليوم قرب الحدود الإثيوبية الإريترية، وهنالك عسكرت القوات بهدف استكشاف المنطقة والراحة ومن ثم الانطلاق.
وكان آرندروب قد أرسل سفيرين من قبله إلى الملك الإثيوبي يطالبه فيها بإقرار التوسع المصري في المنطقة، وأن يكون نهر القاش الذي يمتد بين شرقي السودان وإريتريا هو الحد الفاصل بين الدولتين.
لم يهتم الملك يوحناس بهذه الرسالة، وكان قد أعدّ العُدة وكمن بقواته -التي بلغت 30 ألف مقاتل- قُرب الوادي الضيق الذي عسكرت فيه القوات المصرية في جوندِت، والتي يقدرها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي بحوالي 3200 مقاتل، وكان آرندروب يتقدم بسرعة كبيرة لأن الملك وقواته كانت تتظاهر بالهزيمة والانسحاب.
وفي جوندِت قسّم الإثيوبيون قواتهم إلى قسمين في جُنح الظلام، واستغلوا وجود القوات المصرية في وادٍ ضيق، واتخذوا تكتيك الكمّاشة فحاصروها من الأمام والخلف، وانطلقوا في دك هذه القوات في جنح الليل.
واستطاع الإثيوبيون في غضون ساعات قليلة أن يُبيدوا الجيش المصري، وأن يقتلوا قادته وعلى رأسهم آرندروب وزوجته وكثير من قادته الأجانب والمصريين، وبالكاد استطاع الباقون وهم بالعشرات النجاة بأنفسهم والهرب صوب مصوع، وذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 1875.
نزلت هذه الهزيمة الساحقة خبرًا صاعقًا على الخديوي إسماعيل ولمكانته بين القادة الكبار؛ فقد أدت فتوحاته في القرن الأفريقي ومنابع النيل في أوغندا إلى زيادة نفوذ وقوة الجيش المصري، ولكن هذه الهزيمة الكارثية جعلت الكفة تميل لصالح الأحباش، وتهدد مكانة مصر في الشرق الأفريقي.
ولهذا السبب قرر الخديوي إسماعيل أن يُعدّ حملة أخرى أكبر عددا وعُدّة من سابقتها لتأديب الإثيوبيين وإتمام عملية السيطرة على بلدهم، وكانت هذه السرعة، فضلا عن قيادة الجيش الجديد المتنافرة والجهل بالجغرافيا الإثيوبية، من أسباب الهزيمة التالية.
وكان قد قاد هذه الحملة محمد راتب باشا، وهو رجل وُصف بأنه قليل الكفاءة العسكرية، وكان يُعاونه جنرال أميركي يُسمى وليام لورنج باشا، ولم تكن العلاقة بينه وبين راتب باشا جيدة أو متوافقة، كما شارك في القيادة جزئيا حسن باشا ابن الخديوي إسماعيل والذي درس العلوم العسكرية بصورة بسيطة في ألمانيا.
ومع هذه القيادة المتنافرة في معظمها، انطلق جزء كبير من هذه الحملة من مصر، وبلغ عدد القوات هذه المرة 20 ألف جندي، نزلوا أولا إلى ميناء مصوع في إريتريا، ومن هنالك انطلقت القوات إلى منطقة قورع أو جورا، وهي منطقة تقع جنوب إريتريا اليوم ليس بعيدًا عن حدود إثيوبيا.
وقد ارتكب راتب باشا وقيادته الخطأ نفسه الذي ارتكبه آرندروب سابقًا؛ حيث توغلوا في هذه الصحاري والجبال دون استكشاف واستطلاع جيد.
وفي المقابل كان الملك الإثيوبي يوحناس يتابع تقدم القوات المصرية، كما أعدّ جيشًا قوامه نحو 100 ألف مقاتل، ثم قرر مُباغتة القوات المصرية في جورا وذلك في مارس/آذار 1876.
ولم تمر ساعات قليلة، وفي ظل التفوق العددي لصالح الإثيوبيين، حتى تجلى الموقف عن انتصار كبير للإثيوبيين في النهاية، على الرغم من خسائرهم الكبيرة أيضًا، كما استطاعوا قتل المئات من الجنود المصريين وأسروا حوالي 250 جنديا وقياديًا.
نتائج الحملة وسقوط مصر!
كان من جملة القادة المأسورين رئيس قسم القلم التركي في وزارة الجهادية (الحربية) محمد رفعت بك، فأخذ وهو في أسره يسعى في الصلح مع الملك الإثيوبي، واستطاع بالفعل أن يكون وسيطا ناجحًا.
عقد اتفاقًا بين الطرفين مفاده انسحاب مصر من أرض الحبشة التي كانت تمتد إلى عمق إريتريا، مقابل إطلاق سراح الأسرى، وفتح الطريق التجاري بين مصوع وإثيوبيا، لأنها شريانهم إلى البحر الأحمر.
بلغت خسائر مصر في هذه الحملات العسكرية على إثيوبيا حوالي 8500 قتيل ومبلغا ضخما قُدر بـ3 ملايين جنيه في عامي 1875 و1876، وهي تساوي اليوم مليارات الدولارات؛ هذا في وقت كان فيه الخديوي إسماعيل قد أغرق البلاد في الديون التي كان يأخذها من المرابين الدوليين في بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الأوروبية.
وهكذا انتهت الحرب المصرية الإثيوبية بنتائج وخيمة وكارثية على مصر؛ ففضلا عن خسارة الأموال وآلاف الرجال، ووقوع البلاد في براثن الديون؛ فإن بريطانيا ومن ورائها فرنسا وإيطاليا قد أدركت مكامن ضعف الجيش المصري في ذلك الحين؛ واستغلت الاضطرابات الداخلية التي وقعت في مصر بعد ذلك بست سنوات حتى احتلت بريطانيا مصر عام 1882.
وفي 1885 اضطرت مصر تحت ضغط الإنجليز إلى الانسحاب من السودان وشرقي أفريقيا وأوغندا، وكانت الخسائر المترتبة على مغامرات الخديوي إسماعيل ماليًا وإستراتيجيا فادحة ولأجيال تالية!
المصدر : الجزيرة