محمد فريد عزي
يؤدي التعليم مهام أساسية لاستمرار النظام الاجتماعي وتكيفه مع التغيرات الكبرى التي تحدث في المجتمع وخارجه، فهو يمنح المعارف والمؤهلات اللازمة لذلك، متمثلة في المهارات والشهادات لشغل الوظائف الضرورية لسير المجتمع بمؤسساته المختلفة.
وفضلاً عن المهمة التعليمية، يعتبر التعليم الطريق الملكي (المثالي) للتنشئة الاجتماعية، حيث يعمل على إعداد الأفراد للقيام بأدوارهم الاجتماعية المختلفة، وذلك من خلال استظهار مجموعة المعايير والقيم الاجتماعية السائدة.
وفي العادة، فإن الدولة هي من يشرف على النظام التعليمي.
وحتى إن سُمح للقطاع الخاص بامتلاك وتسيير مؤسسات تعليمية، تبقى للدولة مهمة مراقبة البرامج التعليمية، خاصة المرتبطة منها بهوية المجتمع؛ كالتربية الدينية والوطنية والتاريخ والعلوم الاجتماعية. فمن خلال الإشراف المباشر أو المراقبة للعملية التعليمية، تسعى الدولة إلى الحفاظ على التلاحم والانسجام الاجتماعي.
وقد أدركت جماعة المسلمين مبكراً أهمية التعليم ودوره.
وفي هذه الورقة سنحاول استجلاء وفك خيوط الاستراتيجيات المعقدة التي مكنت الجماعة من بناء نظام تعليمي خاص بها وموازٍ للنظام التعليمي الرسمي، وكيف سخرت الجماعة مؤسساتها التعليمية كذراع لخدمة مشروعها، وإعادة إنتاج قواعدها من خلال التأهيل الأيديولوجي والعقدي والتنظيمي للدارسين في مدارسها، كما سنبين كيف مكّن نظام الإخوان التعليمي الجماعة من كسب أعداد كبيرة من الأعضاء والمؤيدين، وساعدها كذلك في البقاء لأكثر من تسعين سنة برغم الحظر والتضييق.
وتتبنى هذه الورقة مفهوم الهندسة الاجتماعية المستخدم في العلوم الاجتماعية، لتوصيف استراتيجية جماعة الإخوان المسلمين في إعداد الأجيال الصغيرة وهندسة عقولهم وقلوبهم ليصبحوا أعضاء فاعلين في الجماعة.
1- التعليم باعتباره إعادة إنتاج مجتمعي:
هناك من يرى أن التعليم هو وسيلة لإعادة إنتاج البنى الاجتماعية وعلاقات القوى بين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع[1]، فهو يكرس الهيمنة الاجتماعية للفئات المتنفذة؛ ذلك أن العملية التعليمية ليست بمعزل عن الديناميكيات المجتمعية بل مرآة لها، فالمدرسة بعد الأسرة تسهم في إعداد انسان المستقبل وتكوينه، ويمس هذا التكوين القيم السلوكية والأخلاقية والروحية، فضلاً عن المهارات التقنية المطلوبة. وبتعبير آخر، تقوم المدرسة بوظائف أيديولوجية ومعرفية[2].
وبحسب أنطونيو غرامشي، المفكر والفيلسوف الإيطالي المعروف، فإن الاستحواذ على السلطة يستلزم ممارسة وظائف الهيمنة الأيديولوجية، أي التحكم في العديد من الآليات والأدوات، وعلى رأسها النسق التعليمي بمختلف مراحله، ونظم المعلومات والمعارف، وبيئة الحياة اليومية والتجمعات الجماهيرية، ومنظمات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والجمعيات الاجتماعية والثقافية، وصولاً إلى اختراق بناءاتها المعقدة.[3]
في المنحى نفسه يبني عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو نظريته عن إعادة الإنتاج الاجتماعي، وهي مجموع الآليات التي بواسطتها يعيد المجتمع إعادة إنتاج نفسه من جيل إلى جيل وداخل الأجيال، وتتم بواسطة إعادة إنتاج البنى الاجتماعية والذهنية.
وتلعب المدرسة والنظام التعليمي بشكل عام دوراً أساسياً في عملية إعادة إنتاج المجتمع؛ ذلك أنها تعيد إنتاج وتوزيع ما يسميه بورديو برأس المال الثقافي، الذي يحدد مكانة الأفراد في المجتمع ويكرس التراتبية الاجتماعية وهيمنة الطبقات المتنفذة.
وبتعبير آخر، فإن المدرسة تسهم في نشر وترسيخ رؤى وأيديولوجية الطبقات المسيطرة في المجتمع[4].
2- التعليم باعتباره هندسة اجتماعية:
من المقاربات الأخرى التي تركز على الأبعاد الأيديولوجية والقيمية لعملية التعليم نجد اقتراب الهندسة الاجتماعية.
ويعتبر غريغوري ستاريت أن المؤسسات التعليمية تؤدي وظيفة في عملية الهندسة الاجتماعية، حيث يقول “أمام وجود جمهور أسير، تمثل المدرسة مختبراً مثالياً للهندسة الاجتماعية، وخاصة إذا تم نقل المعرفة التي تُمنح للأطفال إلى أسرهم”[5].
ويحمل مفهوم الهندسة الاجتماعية معاني ودلالات متباينة، بحسب السياق والنظام السياسي والاجتماعي الذي يوظف فيه، فهو قبل كل شيء تقنية تشمل أنشطة واعية تستخدم من طرف الأنظمة السياسية أو جماعات نافذة بغرض التأثير في قلوب وعقول الأفراد المنتمين اليها[6].
في هذا الإطار قد يحمل المفهوم دلالات سلبية إذا ارتبط بأنظمة وتنظيمات وأيديولوجيات شمولية؛ إذ تعد حينئذ أداة توجيه وتحكم في أفكار الأفراد وقناعاتهم ومواقفهم. وفي هذه الحال تكون الهندسة الاجتماعية كما يصفها كارل بوبر “أداة بلاغية”، واستراتيجيات يتم بواسطتها التحكم في الجماهير وإخضاعهم حتى “يرضوا ويحبوا عبوديتهم”، وهي بهذا تعدُّ “يوتوبيا قاتلة”؛ مثل تلك التي مارستها النازية في ألمانيا، والشيوعية خلال حكم ستالين في الاتحاد السوفيتي السابق[7].
كما قد يحمل المفهوم دلالات إيجابية إذا اقترن بتحقيق أهداف سامية ترمي إلى تهيئة الأفراد والجماعات للدخول إلى حالة متقدمة من التطور الحضاري من خلال إدارة عملية التحول الاجتماعي بالتدريج عن طريق التعليم والثقافة والفن[8].
ويكون الشكل الوحيد المقبول للهندسة الاجتماعية والذي يمكن تبريره بعقلانية، بحسب كارل بوبر، هو الشكل الجزيئي والتدريجي والتعديل المستمر في ضوء التجربة.
والنقطة الحاسمة في هذا النهج هي أنه يستند إلى التجربة والخطأ، وليس إلى رؤية تاريخية مسبقة، أو كما يقول بوبر “نحن نحرز تقدماً إذن، وحسب، إذا كنا مستعدين للتعلم من أخطائنا: التعرف على أخطائنا والاستفادة منها بشكل حاسم بدلاً من الثبات بدغمائية”.
وتشمل عملية الهندسة الاجتماعية عناصر بنيوية تنظيمية وأخرى فكرية وقيمية تهدف إلى تفكيك وإعادة بناء أو هندسة نظام جديد للقناعات والقيم والمعايير يتماهى فيه الأفراد ويتفاعلون فيه، ويتعرف بعضهم على بعض، بما يؤدي إلى تكوين هوية جماعية[9].
ويقترن مفهوم الهندسة الاجتماعية عادة بجهود الدول واستراتيجيتها في بناء المواطن والمواطنة، ويهدف إلى تشكيل هوية جماعية للأفراد ضمن المجموعة الوطنية.
حيث تعتمد الدول والأنظمة السياسية الحديثة على هذا المفهوم كوسيلة لتشكيل ولاء الأفراد للدولة والوطن، عن طريق نشر قيم الانتماء ومعاييره وترسيخها ووحدة المصير، مستخدمة في ذلك وسائل شتى: تنظيمية، واقتصادية واجتماعية، وفكرية / ثقافية[10].
3- رؤية حسن البنا للتعليم ودوره في تحقيق أهداف “الإخوان”:
يرى حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في التربية والتعليم الوسيلة الأساسية والمثلى في تحقيق الهدف الأسمى للجماعة المتمثل في تطبيق الإسلام كنظام شامل، ويعتبر أن طريقة تحويل المجتمع المصري تتحقق من خلال التعليم.
وفي أول كتيب للإخوان المسلمين نشر البنا في عام 1929 “رسالة عن التعليم الديني”، أوضح فيها سياسته التعليمية الدينية، وذكر أن الغرض من التعليم ليس فقط نقل المعرفة إلى الطالب، ولكن أيضاً تحويله إلى شخص يسترشد في حياته وأخلاقه بتعاليم القرآن.
فإنشاء مجتمع جديد يسود فيه الإسلام كنظام شامل لكل نواحي الحياة يتطلب استراتيجية تعليمية رسمية وغير رسمية[11]؛ وذلك من أجل تنشئة جيل ملتزم لإحياء الإسلام وتطبيقه في نشاطات الحياة كلها.
ويعتبر البنّا، في هذا الصدد، التربية هي “الحبل الذي يربط الإخوان سوياً”[12].
وكما تأثر البنا بجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وآراء علماء إسلاميين آخرين حول التعليم، فإنه تأثر أيضاً بالأساليب الغربية، وكان البنا من خريجي مدرسة دار العلوم للمعلمين في القاهرة، التي كان منهجها يستهدف تزويد الطلاب بتعليم علماني وديني باستخدام الأساليب التربوية الغربية[13]، ومن هنا اكتسب البنّا النظريات الحديثة، مثل نظرية “التعليم الكلي” comprehensive education وطبقها في مدارس الجماعة.
ولطالما انتقد البنا النظام المدرسي في مصر لضعفه في إنتاج الخريجين الذين يفتقرون إلى المهارات الأكاديمية الأساسية ولا يشعرون بتراثهم الديني أو التاريخي.
وقال إنه يريد تحويل نظام التعليم إلى نظام ينتج خريجين أكاديميين أكفاء يتمتعون بحس متطور تجاه الشريعة والعادات الإسلامية[14].
وقد أولى البنا أولوية قصوى للتربية والتعليم منذ البداية، حيث شرع في بناء نظام تعليمي خاص بالجماعة.
وفور تأسيس الجماعة في عام 1928 بالإسماعيلية قام البنّا ببناء مسجد ومدرستين؛ واحدة للبنين وأخرى للبنات، وكان النظام التعليمي المعتمد فيها يمثل نموذجاً جديداً ومنافساً لنظام التعليم الحكومي ومحتواه الذي كان سائداً آنذاك.
فقد حدد البنّا منذ البداية موقفه من التعليم الحكومي النظامي الذي وصفه بالتعليم العلماني، ومن التعليم الديني للأزهر الذي نعته بالجامد[15].
ومنذ عام 1935 طالبت الجماعة بتعديل أسس التعليم تعديلاً جذرياً، بحيث يقوم على أسس إسلامية حقة، كما اعترضت بمرارة على المدارس المسيحية[16].
وقد سعى البنّا إلى تعميم نموذج أول مدرسة افتتحها في الإسماعيلية سنة 1931 على كل التراب المصري، وكانت المدارس الأولى للإخوان غير رسمية، وبحلول عام 1935 كانت الجماعة تدير نحو 300 من هذه المدارس غير الرسمية العاملة المنتشرة في جميع أنحاء مصر[17].
وفي بداية الأربعينات بدأ الإخوان يطبقون برامج تربوية معيارية، حيث أدخلوا في تدريسهم مواد غير دينية؛ مثل الرياضيات، والعلوم، والتاريخ، والجغرافيا.
ومع ذلك، كان التركيز أكثر على التعليم الديني وتكوين طلبة قادرين على نشر أيديولوجية الجماعة[18].
ونظراً لاشتغاله في التعليم، ونشاطه الحثيث في التعليم الموازي الإخواني، طُلب من البنا المساهمة في السياسة التعليمية الرسمية؛ ففي عام 1938 شارك مع شيخ الأزهر في إعداد تقرير عن توحيد نظامي التعليم الأزهري والحديث، وشدَّد على أنه لا يريد تعليماً إسلامياً صرفاً ولا علمياً صرفاً، بل مزيجاً من الاثنين[19].
وقد زاد التعاون بين البنّا ومسؤولي التعليم في مصر في الأربعينات، حيث دُعي إلى المشاركة في مشاريع وزارة المعارف لتعميم التعليم ومحو الأمية.
وسمح له نشاطه وعلاقاته في الوزارة باستفادة جماعته من دعمها المادي، ولاسميا الحصول على معونات مالية، ولوازم مدرسية تُقدَّم لكل تلميذ يدرس في مدارس الجماعة[20].
وقد عززت هذه المعونات من قدرة الجماعة المالية المخصصة للتعليم، كما منحت مجهودها التربوي نوعاً من الاعتراف الرسمي.
وبموازاة ذلك، كوَّن البنّا عام 1946 لجنة تأسيس المدارس الابتدائية والثانوية للبنين والبنات، ثم تكونت لجنة الشؤون الثقافية، ونظمت حملة كبيرة للتبرعات بين أعضاء الجماعة وأنصارها.
ثم طورت الجماعة مجهودها التعليمي وقامت بتأسيس شركات مساهمة لإنشاء المدارس، وفي هذا الصدد يقول رفعت السعيد “اتسعت شبكة المدارس الإخوانية إلى درجة أن الشيخ البنّا قد أكد أن كل شعبة من شعب جماعته الألفين أسست مدرسة وأكثر”.
وينبه أنه “لابد لنا من أن ندرك أثر ذلك في انتشار الجماعة ونفوذها في صفوف التلاميذ وأولياء الأمور والمدرسين والمدرسات”[21].
وكان الهدف الأساسي للبرامج التعليمية لدى جماعة الإخوان المسلمين هو تدريب المنتمين إليها وتزويدهم بالمهارات من أجل نشر أيديولوجية الجماعة وفكرها.
وكان التركيز في التدريب على إنتاج نخبة من الدعاة. ويورد روزن أن المرشد العام، حسن الهضيبي، دعا في عام 1951 إلى تأسيس مدرسة إخوانية مخصصة للتدريب على الدعوة في كل إقليم إداري للجماعة، وفي عام 1953 أسست الجماعة أكاديمية لشؤون الدعوة في القاهرة[22]، بهدف تخريج وعاظ ودعاة أكفاء يمكنهم التنافس مباشرة مع علماء الدين التقليديين والعاملين في الحكومة على جذب قلوب المصريين العاديين وعقولهم واستمالتهم، وخاصة الشباب منهم [23].
وقد اتجه الإخوان إلى إنشاء مدارس خاصة تقوم بتدريس مختلف المواد إلى جانب المواد الدينية، وقد برز هذا الاتجاه منذ سبعينات القرن الماضي وتوسع بشكل كبير في التسعينات، خاصة مع تراجع قدرة الدولة على استيعاب العدد الكبير من الطلاب في المدارس الحكومية، وهو ما سيتضح في أجزاء لاحقة من هذه الورقة.
4- التربية والتعليم كوسيلة للمشروع الإخواني:
يقوم النموذج التربوي لجماعة الإخوان المسلمين على دمج التنشئة والتجنيد معاً، فالذين يتم استقطابهم داخل الجماعة يخضعون لعملية مكثفة ومطولة من التلقين والتربية[24]، إذ تشكل التربية جزءاً من عملية صياغة أو بناء الهوية الإخوانية، بينما تحتل التعبئة والتجنيد الجزء الآخر، وتتم هاتان العمليتان بشكل متزامن؛ ليتضمن بناء الهوية والانتماء الإخواني بُعدين: بُعد بنيوي وبُعد فكري، وهما يشكلان معاً متغيرات مهمة في مكونات عملية الهندسة الاجتماعية، التي تقوم بها الجماعة لأعضائها.
وتجري عملية التربية في مؤسسات وأماكن/ فضاءات خاصة، حيث يلتقي فيها أعضاء الجماعة وقياداتها ويتواصلون ويتفاعلون بشكل أسبوعي أو شهري، من أجل توطيد العلاقة بينهم واستيعاب أيديولوجية الجماعة. وتنقسم هذه الفضاءات إلى سبعة كيانات هي: الأسرة- الكتيبة- الرحلة- المعسكر- الدورة- الندوة- المؤتمر، وتقع ضمن شبكة تراتبية محكومة بمستويات العضوية.
استمر الاهتمام بالتعليم طوال مسار الجماعة، فبعد أن وضع البنّا أسسه وسطّر فلسفته ومنهجه، لعب الهضيبي دوراً رئيسياً في إعادة هيكلة الجماعة، والتركيز أولاً على الدعوة والتعليم، ومحاولة التأثير في السياسة من خلال الهياكل والمؤسسات الاجتماعية، بدلاً من مواجهة النظام أو الانسحاب من المجتمع، لتكون هذه الاستراتيجية هي المعتَمَدة لتحقيق الامتداد المجتمعي والتوسع الجماهيري، برغم معارضة التيار القطبي لهذا النهج.
في هذا السياق، نشطت المدارس الإخوانية في عهد حكم السادات، الذي اعتمد سياسة انفتحت على الإخوان وسمحت لهم بالعمل في الميدان الخيري والجمعوي والتربوي، إذ كانت تعاني هذه المجالات من نقص في الخدمات، وعلى أثر هذا قامت الجماعة بإنشاء العديد من المدارس التي غابت عنها رقابة وزارة التربية المصرية، لتكون حرة فيما تنشره من أفكار بين النشء[25]، كما توسع نشاطهم في الإشراف على مراكز للدروس الخصوصية نتيجة لضعف وتراجع مستوى التعليم في القطاع الحكومي.
شرع الإخوان في تنشئة الأطفال من أجل تجنيدهم في سن مبكرة ابتداءً من سن التاسعة، ويبدو الأمر شائعاً في العائلات التي ينتمي فيها الآباء والأعمام إلى الإخوان، حيث يتم التركيز على أطفال أعضاء الإخوان بشكل خاص. أو أن يكون هؤلاء الإخوة الجدد قد نشؤوا في عائلات متدينة والتقوا بأعضاء الجماعة في أثناء سنواتهم الدراسية[26].
ومع ذلك يتم فحص هؤلاء الأعضاء بعناية قبل قبولهم. ليكون التجنيد بداية لعملية طويلة ومتعددة المراحل يتحول من خلالها العضو الجديد الواعد إلى “أخ” في جماعة الإخوان المسلمين.
ويذكر العديد من الذين مروا على المدارس الإخوانية أنهم وجدوا أنفسهم أعضاء في الجماعة دون أن يشعروا، وفي هذا الصدد يقول كمال الهلباوي في سرد تجربته مع جماعة الإخوان المسلمين: “لثلاث سنوات، لم أكن أعرف أنني عضو في جماعة الإخوان المسلمين”.
ومثل حال معظم أعضاء المجموعة الجدد، خاصة أولئك الذين لم يولدوا في عائلات الإخوان، تبدأ فترة المراقبة الأولية لمدة سنتين أو ثلاث سنوات. وفيها، لا تحتاج إلى دفع أي أموال، أو إلى حضور صلاة الليل، إنك لست مسؤولاً، فأنت أكثر حرية”.
وطبقاً للهلباوي، يلاحظ المعلمون الذين يقومون بتدريس موضوعات منتظمة، مثل اللغة العربية أو الرياضيات، عقول الطلاب وشخصياتهم واعتماديتهم وتفانيهم. عندها يكتشفون أفراداً يمتلكون هذه الخصائص، يقومون بإشراكهم بوتيرة متزايدة في الأنشطة والنزهات الاجتماعية التي تنظمها الجماعة”[27].
وعرفت مرحلة تولي عمر التلمساني قيادة جماعة الإخوان المسلمين، من منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانينات، نشاطاً تعليمياً حثيثاً، حيث أُعيد فتح المدارس الإخوانية، وسميت بمدارس “المنارات الإسلامية”، التي اعتمدت في برامجها اتباع رسائل حسن البنّا، لتكون منطلقاً في استقطاب الأجيال الشابة وتثقيفها بفكر الجماعة، بما يضمن تشكّل جيل مُشرَب بمبادئ الإخوان، وما هي إلا امتداد للمدارس التي أنشأها البنّا مثل معهد حراء للبنين، وأمهات المؤمنين للفتيات، بالقرب من مقر الجماعة في الإسماعيلية، التي كان قد وضع البنّا مناهجها الدراسية بنفسه.
واستمرت الجماعة في إنشاء المدارس التي تزايد انتشارها مع بداية الثمانينات، وظهرت مدارس “الجيل المسلم” التي استقطبت نحو 7 آلاف طالب وطالبة في المراحل التعليمية، من الابتدائية إلى الثانوية، وتوزعت في مدن: طنطا، والمحلة الكبرى، والسنطة، وكفر الزيات[28].
واستطاع الإخوان إنشاء مدارس لهم في جميع محافظات مصر، حتى بلغ عددها 174 مدرسة سنة 2012، حين وصول الجماعة للحكم، وقد تم مصادرتها كلها عام 2013 بعد سقوطهم[29]، بالإضافة إلى خدمات تعليمية أخرى متنوعة؛ مثل (أنشطة ما بعد المدرسة، والمخيمات الصيفية للمراهقين، والتدريب المهني والدروس المسائية، والدروس التكميلية للأطفال، والتي توفر بديلاً عن التعليم الرسمي الذي تسيطر عليه الدولة.
مما سبق يتضح أن لجماعة الإخوان المسلمين مشروعاً تعليمياً شمولياً؛ فإلى جانب البُعد التعليمي يتم التركيز على البعدين القيمي والأيديولوجي، إذ يُراد لهذا المشروع بناء فرد جديد Homus Islamicus يتنصل من ولائه وهويته القديمة ليتقمص هوية جديدة فردية وجماعية، وهي الهوية الإخوانية.
ويشكل التعليم حلقة من حلقات مشروع الإخوان في هندسة المجتمع ككل، ويكون ذلك عبر مراحل ووسائل عدة؛ ومن أجل إنجاح ذلك المشروع عملت الجماعة على مسارات متوازية: المسار الدعوي / الأيديولوجي، والمسار التنظيمي والتعبوي، والمسار التعليمي / التربوي “البيداغوجي”، وربطت هذه المسارات كلها بحياة المصريين اليومية وبهمومهم وتطلعاتهم[30].
وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد نجحت إلى حد كبير في تنفيذ مشروعها وإقناع قطاعات اجتماعية مهمة به، فما الحرج أو الخطورة في ذلك؟ للإجابة عن هذا التساؤل، يجب على الباحث النظر في طبيعة ومحتوى الأفكار التي يدعون اليها، والممارسات التي يرسخونها.
إن المشروع الإخواني الذي يعتمد في تطبيقه على هندسة اجتماعية ويستند على رؤى وفلسفة مثالية/طوباوية لا تاريخية، تصبو إلى تحقيق “المدينة الفاضلة”، يختزل القضايا والتحديات التي يواجهها المجتمع في شعارات بسيطة وشعبوية؛ مثل “الإسلام هو الحل”، فيكفي أن يكون الفرد ورعاً والحاكم فاضلاً يحكم بما أنزل الله، حتى يصلح الكل وتتوافر السبل لتشييد أو إعادة تشييد الحضارة الإسلامية.
فالتركيز على الأخلاق والفضيلة، بوصفه حلاً سحرياً لمشكلات الأمة ووسيلة ازدهارها وتقدمها، يُعدُّ نظرة ساذجة، لا تترك مجالاً للبرامج السياسية أو للنقاش المفتوح والحر؛ فالمشروع الإخواني ينفي وجود المجال السياسي، وفي أحسن الأحوال يعدُّه ملحقاً ومكوناً ثانوياً للنشاط الدعوي؛ وعليه فقد يكفي دعوة الناس إلى اتباع حياة فاضلة حتى يتحقق المجتمع المنشود وبصفة آلية تتبعه السلطة السياسية دون ضرورة خوض أي معركة سياسية[31].
وتتمثل خطورة المشروع التعليمي الإخواني في أنه يلغي الفكر المعارض ويعتبر حاملي هذا الفكر منحرفين وخارجين عن طريق الصواب ويجب محاربتهم. فهذه اليوتوبيا التي يعمل الإخوان جاهدين ومنذ تسعين عاماً على تنفيذها تشبه غيرها من اليوتوبيات الدينية منها أو العلمانية.
ومن أشهر تلك اليوتوبيات خلال القرن العشرين والتي تسببت في مآسٍ انسانية مفجعة، النازية والشيوعية؛ فالمشتَرك بين هذه اليوتوبيات أنها تصور لمعتنقيها بلوغ هدف أسمى، وهو مجتمع خال من الصراع والظلم والأنانية، حيث يحقق كل فرد فيه نفسه ويشبع رغباته.
فالشيوعية تصور المرحلة الأخيرة للتطور البشري في أن يكون هناك مجتمع تنعدم فيه الطبقات الاجتماعية، ويزول فيه الاستغلال، ولا ضرورة فيه لوجود الدولة حيث إن الأفراد ينظمون أنفسهم في جماعات تسير نفسها ذاتياً معتمدين في كل ذلك على استبطان الأفراد للقيم والأخلاق الشيوعية.
والنازية بدورها قدمت للشعب الألماني متخيَّلاً لمجتمع مثالي قائم على نقاء العرق وصفائه، عرق يقع على هرم الأعراق ويتفوق عليها. والأيديولوجة الإسلاموية بشكل عام والإخوانية بشكل خاص، هي الأخرى تبني أيديولوجيتها على مجتمع مُتخيَّل لا تاريخي، مجتمع “المدينة المنورة” في بداية أيام الرسول محمد ﷺ والخلفاء الراشدين من بعده.
خاتمة:
شكَّل التعليم أداة أساسية وفعالة في نشر الفكر الإخواني وانتشار الجماعة وتمددها، حيث اعتمدت هذه الأخيرة مسارين للتوغل في قطاع التعليم؛ الأول يتمثل في بناء مؤسسات تعليمية خاصة بها وموازية لقطاع التعليم الحكومي، والثاني يتمثل في اختراق قطاع التعليم الرسمي من خلال التأثير في البرامج التعليمية وتوظيف معلمين وموظفين ينتمون إلى الجماعة في المدارس الحكومية.
وقد تبنت الجماعة في مدارسها نوعاً من الهندسة الاجتماعية لصناعة الفرد الإخواني، من خلال ترسيخ الناشئة وتلقينهم أفكارها وأيديولوجيتها.
المصدر : مركز تريندز للبحوث والاستشارات